وردة خلف خطوط الأعداء - د.احمد جميل عزم
يُستَخدَم تعبير "خلف خطوط الأعداء" عادة عند الحديث عن عمليات تقوم بها المقاومة أو بقايا القوات المقاتلة في مناطق احتلها الأعداء.
في فلسطين أشخاصٌ يسكنون بإصرار رغم الاعتداءات اليومية مناطق بالغة الصعوبة، داخل أراضٍ بنيت عليها المستوطنات، أو خلف جدار الفصل. يحترفون الصمود خلف خطوط عدو إحلالي إقصائي.
لكل منهم رواية، وشخصية متمايزة، تستحق تكرار الكتابة عنها، ليسوا عقلية أو نفسية واحدة، ولكني أزعم تشاركهم عشق الجمال.
أعترف أني عندما أزورهم أخشى أن يطردوني؛ أشعر بضيقهم من التضامن العابر للكثيرين، رغم تأكيدهم أهمية زيارتهم والتواصل معهم، لأنّ هذا مؤشر أمام أعين الإسرائيليين الذين يراقبونهم بشأن مدى تضامن الناس معهم. تخيفني دائماً لحظة مغادرتنا، وشعوري أنّ هؤلاء الصامدين سيعودون إلى وحدتهم، في قشعريرة يصرخون معها: "يا وحدنا".
عدت قبل أيّام لزيارة هاني عامر، في قرية مسحة، في سلفيت، حيث كتب على جدار الفصل، أمام بيته الواقع في قفص أسلاك داخل محيط مستوطنة صهيونية، "دولة هاني عامر". غزت التجاعيد وجهه، منذ قابلته قبل أشهر، بدأ حديثه وشعوري أنّه سئم الحديث. ولكنه استرسل نحو ساعتين، مع قليل من مقاطعتي أنا وصديقة، مخرجة تلفزيونية رافقتني. بعد قليل من بدء الحديث كان كمن يحادث الأفق والورد والشجر والأرض، وطفولته، ولحسن الحظ نسي وجودنا.
قال "أنا أصلا ابن قرية كفر قاسم، صنعتني حكايات جدتي، قبل النكبة، كانت تقول لي إنّ البطيخة تنبت في قرية ما بنصف حجمي، فأذهب، أنا الطفل، وأمشي وأصل تلك القرية وأشاهد البطيخة، وأشرب من النبع. وصلت البحر مشياً وشاهدت زرقته، هناك بدأت القصّة".
يُحدّثنا ونُصدّقه، ونشهق بصمت:
"جاءني الضابط الإسرائيلي شامتاً يقول لي، لماذا لا تبكي، لو كنت مكانك لفعلت؟. ألا تراهم يجرفون الأرض ويحطّمون نباتاتك، ويقيمون الجدار؟. فأجبته، لو كان عندي شك أنّ هذه أرضي لبكيت. ألا تسمع الأرض، ماذا تقول لي، فنظر الضابط إليّ كأن بي مس من جنون، وضعت يدي خلف أذني وقلت له استمع جيدا، هذه الأرض تتكلم، تخبرني أنها لي. أدار الضابط ظهره وذهب". يكمل هاني حديثه لنا، "لم أكن أدّعي، أنا أسمع الأرض فعلا". وردّ على ضابط آخر يلومه لعدم قبوله التعويض والأموال: ماذا أفعل بالنقود؟ قال له تشتري سيارة وبيت جميل وتذهب سياحة في العالم وفنادقه. قال له عامر، ربما هذه متعتك أنت، ولكنها ليست متعتي أنا. لو كدّست لي هذه الأرض وأحواض النباتات نقوداً بدل التراب ماذا أفعل بها؟ ويحدثنا عن المعنى الحقيقي للقيمة ويقارن بين النقود والأرض. حديثه، وهو أبو نضال، الحاج المتدّين، ذكّرني بنظرية كارل ماركس، التي أدرّسها لطلبة الجامعة بشأن "صنميّة السلعة"، في الفصل المقبل سأذكر لهم حديث أبو نضال.
يدفع حديثه عن النباتات في الأرض الصغيرة الباقية حول منزله، للابتسام، وربما الضحك، وربما الدمعة. بدأ حديثه متثاقلا عندما سألناه عن أنواع النباتات، كمن يتحدث بدافع اللياقة فقط، ثم اندفع في الحديث. طموحه زراعة واحدة من كل نبتة يجدها في فلسطين، ويحدثنا بشأن كل واحدة، ويسرد صراعاته ومفاوضاته مع الجنود أثناء عمليات تسييج الأرض، حول متر أرض هنا وآخر هناك، وتخرج منه جملة تضحكنا عن تغلبه بالجدل على ضابط "أمّنت حالي وزرعت في هذه الزاوية". يبدو الحصول على متر أرض للزراعة بالنسبة له انتصارا استراتيجيا. نقف عند شجرة زكية الرائحة، تسأله الصديقة عن استخدامات الشجرة، يرد "لا بد أنّ لها فائدة ما". مؤمن بلا تردد بما يفعل. له مغامرات وحيل لجعل الإسرائيليين يسمحون له بدخول كرومه وأراضيه المصادرة للعناية بالشجر وريّه.
لا يستبعد أن يقتله وعائلته المستوطنون يوماً. أسأله عن طائر فينيق مرسوم على الجدار، يصدمني جوابه وفلسفته: جاء نشطاء دوليون مرة ورسموا لوحات على الجدار، تضامناً معي، ثم فكّرت في الأمر؛ هذا جدار بشع، وفِكرته بشعه، لا يجوز تجميله، فأمسكت الطلاء وطمست الرسومات، وأبقيت الطائر، "فالطائر يمكن أن يطير فوق الجدار".
لعله بعد انصراف زواره، يجلس على مقعد، يمد نظره مخترقا المستوطنة يشاهد الطفل يلعب في الحقول، ويشرب ماء الينبوع، ويأكل بطيخه، ويقفز سابحاً في البحر.
هذه فلسفة واقعية.