يوميات قرية عين حجلة .. 7 أيام لخصت صمود وارادة شعب لا يهزم – الحلقة الأخيرة
القدس - رام الله - الدائرة الإعلامية
العشاء الأخير ..
تأخرت قليلا عن الحلقة الأخيرة من يوميات عين حجلة .. لأنه كان لدي أمل أن اكتب نهاية الجزء الأول من هذه الحكاية وانا جالس متربع بين أشجار عين حجلة وفي رحاب بيوتها الأصيلة العريقة .. ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن .. حتى اللحظة الاحتلال يمنع احد من الوصول الى القرية بحجة أنها منطقة عسكرية مغلقة لمدة شهر !!
تلك الليلة تركت أثرا معنويا لدى جميع من عاش تفاصيل تلك القرية على مدار أسبوع كامل .. قد يكون الاحتلال نجح في اخلاء القرية وتهجير سكانها .. ولكنه لم ولن ينجح في ان يسقط هذه القرية وغيرها من مئات القرى التي هجر أهلها وهدمت بيوتها وقلعت اشجارها .. من وجدان وذاكرة الشعب الفلسطيني جيلا بعد جيل ..
انه العشاء الأخير .. "قد يكون كذلك ، ولكنه عشاء يخلو من يهوذا الاسخريوطي، وكل من فيه ومن في عين حجله هم من المخلصين كتلاميذ السيد المسيح عليه السلام، وان كان العشاء الاخير انتهى بخيانة السيد المسيح فعشاؤكم انتهى بميلاد الوطن والمقاومة" بهذه الكلمات علق صديقي رائد الدبعي على احدى الصور التي نشرتها عن هذه الليلة .. نعم انها الليلة التي ولدت من رحمها من جديد المقاومة .. هذه الاستراتيجية التي ستبقى خالدة في مبادئ شعبنا الفلسطيني مهما حاول البعض ان يدثرها ..
تناولنا العشاء واحتفلنا بعيد ميلاد وعد التميمي وانشدنا لها الأناشيد الثورية والوطنية احتفاء بميلادها .. فهكذا يحتفل أطفال الثورة بأعياد ميلادهم ..
فيما انشغل الشيف أبو السمير والأخ أبو اياد في اعداد طبخة مقلوبة .. بصراحة انا لم اكثر من تناول العشاء بانتظار الانتهاء من اعداد المقلوبة .. فالنفس الطيب للأخوين أبو اياد وأبو السمير في الطبخ لا يعوض .. بدأت انا وأبو السمير بتقطيع الدجاج وتنظيفه .. في حين قام دعيس وأبو اياد بقلي الزهرة والباتنجان .. كان من المقرر بعد ساعة زمن ان نحظى في تلك الليلة بطبخة مقلوبة شهية الا ان مقادير الرز لم تكن كافية فانتظر الاخوة الى ان ذهب احد الشباب الى خارج القرية لجلب مزيد من الرز .. فتأخر انجاز المقلوبة ساعتين اضافيتين وحين انتهى الشباب من اعادها وأصبحت جاهزة لتناولها .. قام الاحتلال بتطويق القرية ودفع بمئات الجنود من شرطة "اليسام" يدنوسوا بأحذيتهم ارض القرية الطاهرة .. فانتهى بها الحال تحت بساطير جند الاحتلال وهمجيتهم ..
عم الخبر ارجاء القرية "الجيش دخل يا شباب .. الجيش دخل" .. لكنني لم اصدق ما يقال انطلقت انا ويزن وماهر باتجاه تلة مطلة على معسكر الاحتلال لاستطلاع الوضع والتأكد من الخبر .. فالأجواء في محيط القرية لم تكن توحي بذلك .. والكل كان يستعد ليوم الجمعة حيث من المنتظر أن تعج القرية بآلاف المواطنين لأقامة صلاة الجمعة على أراضيها .. وقفت على التلة انا واصدقائي نتفحص المكان لنلاحظ ثلاث جرافات عسكرية تسير على خط 90 باتجاه القرية في حين مئات من جنود "اليسام" يتقدمون باتجاه القرية عبر الأراضي المحيطة بها من ثلاث اتجاهات .. استطعنا ان نميزهم من الأضواء الخضراء التي كانوا يضعوها على رؤوسهم ..
عدنا ادراجنا باتجاه القرية نحذر السكان من قدوم الجيش ونحث الجميع على التجمع في مركز القرية .. يجب أن لا تسقط القرية .. علينا ان نستمر مضى أسبوع ونجحنا في ان نثبت وجودنا في هذه القرية رغم انف الاحتلال لن يضيع هذا الإنجاز هباءً .. هم الخطيب لأطفاء المحول الذي يغذي القرية بالكهرباء ,,, صرخت به الا يفعل ذلك يجب ان تبقى القرية مضيئة .. لن تطفئ اضواءها .. كان لدينا امل في ان يفشل الاحتلال باخلاء القرية بسبب تواجد عدد كبير من الناشطين والأهالي ..
بدأ الشبان باشعال النار في محيط القرية .. وكانت هناك اكوام من القش معدة لمثل هذه اللحظات ولكن مباغتة الاحتلال لم تمكن الشباب من اشعال النار بها .. وأذكر هنا بأنه اشعلت النيران بإحدى الخيم في الجهة الجنوبية من القرية ولكن هذا لم يمنع شرطة الاحتلال وجيشه من التقدم باتجاه وسط القرية ..
بدأ الجميع يتجمع في وسط القرية .. ركضت مسرعا باتجاه مخزن المؤمن حيث كان يركض هناك صديقي حمزة نائما ايقظته على عجالة وقلت له بأن الجيش اقتحم القرية .. ولكن يبدو بأنه لم يأخذ كلامي على محمل الجد .. لأنني شاهدته لاحقا حافيا بدون حذاء ..
وصل جنود الاحتلال الى مركز القرية حيث نتجمع هناك .. وبدأ يطبق الطوق علينا .. هنا جلس الأخ زياد أبو عين على الأرض وقمنا نحن بنفس الخطوة جلسنا على الأرض امام جنود الاحتلال .. ولكن الاحتلال هنا بدأ بضرب الأخ زياد أبو عين بشكل عنيف جدا مما أدى الى اختناقه ,.. تفرقنا بسبب قنابل الصوت بدى المشهد مربكا للغاية .. حاولنا ان نجمع انفسنا مرة أخرى انا وديانا والخطيب وحسن ولما واشيرا وغيرهم من الشباب وشبكنا أيدينا بعضها ببعض في محاولة لتشكيل سلسلة بشرية في مواجهة جنود الاحتلال .. ولكن محاولتنا لم تنجح حيث شرع جنود الاحتلال بضربنا ضربا اجرامي مبرح .. وانا هنا تنبهت لأحدى المجندات تعتدي بشكل وحشي على الفتيات مما أدى الى إصابة اشيرا بعينها .. في هذه اللحظة جاهدنا انا والخطيب للتصدي لضربات هذه المجندة وان نحمي الفتيات منها قدر الاستطاعة .. بجانبنا كان الاحتلال يحاول ان يعتقل رفيقنا منتصر تيلخ .. ولكن تدخل معتز ويزن وبقية الأخوة وحالوا دون حدوث ذلك ..
زادت همجية الاحتلال .. واشتد حجم الاعتداء على كل الوجود حتى الأخ عضو اللجنة المركزية لحركة فتح أبو جهاد العالول لم يسلم من اعتداء الجنود عليه رغم كبر سنه .. احكم الاحتلال طوقه على المشاركين ودفع بهم باتجاه احدى زويا القرية بالتحديد بين مخزن المؤمن والمبنى المقابل له حيث اعتاد النشطاء ان يستريحوا .. وهنا اصبح الوضع اكثر خطورة . . انا وديانا واشيرا ولما محاصرين في البيت .. والشبان في الخارج محاصرين على تلة مرتعة عن الأرض امامهم الاحتلال وخلفهم الهو .. واصل الاحتلال اعتداءه على الشبان بالضرب والقى عدد منهم في مواقد النار المشتعلة .. فيما قفز آخرون باتجاه الأراضي المجاورة .. وما زلنا انا والفتيات محاصرين داخل الغرفة وقنابل الصوت تنفجر في محيطنا في حيناه انا خشيت ان ينهار المبنى المتآكل علينا نتيجة قوة هذه القنابل فخرجت الى خارج الغرفة وبدأ الجنود بضربي .. وأثناء ذلك لاحظت بأن الأخ زياد ملقى على الأرض لا يستطيع ان يلتقط أنفاسه .. تخلصت من الجنود وانطلقت مسرعا تجاهه وانضم لي المسعف ماهر صالح حملنا الأخ زياد وانطلقنا به باتجاه سيارة الإسعاف ..
تفرق الجمع وأصبحت لا أرى احد من أصدقائي وانا بجانب سيارة الإسعاف قام احد الجنود بشدي من حقيبتي والاطاحة بي ارضا بقوة شديدة .. لاجد نفسي بجانب ثلاثة أطفال كانوا قد افترقوا عن اباهم .. امسكت بهم واردت ان اوصلهم الى مكان آمن فذهبت بهم الى الدكتور مصطفى البرغوثي الذي كان متواجدا بإحدى سيارات الإسعاف وطلبت منه ان يأخذ الأطفال ويجعلهم بمأمن عما يدور في الخارج .. ولكن ضابطا احتلاليا صرخ علي بالذهاب من المنطقة .. تحدثت له باللغة العبرية وقلت له بأنه معي أطفال اضاعوا اباهم ,, ولكنه اصر على مغادرة المكان وبسرعة .. حرصا على الأطفال انطلقت برفقتهم بعدما عثرت على عمهم الى الشارع 90 وحقيقة لا ادري اين اذهب المنطقة مغلقة عسكريا وهي بعيدة نسبيا عن اريحا اذا ما قررت العودة مشيا على الاقدام .. كنت قلقا ومرتبكا للغاية .. واصلنا المسير على الشارع باتجاه شاحنات الاعتقال .. وهناك التقيت بعيسى عمرو الناشط الشبابي من مدينة الخليل ارتحت كثيرا لرؤيته .. وبدأت استعيد توازني أكثر حين انضم الينا بالإضافة اليه كل من الصحفي سامر نزال والمصور حمدي أبو رحمة ومراسل تلفزيون نابلس وواصلنا المسير مسرعين باتجاه شاحنات الاعتقال للحاق ببقية زملائنا .. التقينا هنا بصديقي يزن عماد وامير الفارس ومن ثم بالأخ عمر شلبي أبو اياد وكان الاحتلال قد اعتدى عليه بوحشية وأصابه في رأسه .. فيما شاهدت رمزي أبو سعدة ملقى على الأرض مغمى عليه نتيجة اعتداء الاحتلال عليه بجانبه ماهر سمارو بانتظار سيارة الإسعاف .. كذلك الأمر الأخ حسن فرج أيضا الآخر لم يكن باستطاعته المشي بسبب دفع الحنود له على موقد النار اثناء عملية الاقتحام حاولت هنا تقديم المساعدة ولكن جنود الاحتلال بدأوا بالصراخ علينا واجبارنا على الصعود لحافلات الاعتقال ..
صعدنا الشاحنات وجلسنا على المقاعد .. وسارت بنا الشاحنات لا نعلم الوجهة .. وفي تلك اللحظة بدأت اتمتم بصوت خافت انشودة "لو يوم تنادينا يا الوطن والكون يشهد
والجامعة على حدود بالسلاح الما يِصَّدْ
يومن نلقا العدو ما نهابو مهما حشدْ
حقنا المغصوبِ ما نساوم عليه أحدْ
والكون علينا يشهدْ
والكون علينا يشهدْ
ما يسود الطغيانِ
لو بالنارِ وبالزردْ" وانضم الي يزن ونحن نغني في سرنا ..
قام الأخ عمر بصوت مرتفع ينشد انشودة : "نعم لن نموت ولكنَنا
سنقتلع الموت من أرضنا
هناك هناك بعيدا بعيد
سيحملني يا رفيقي الجنود
سيلقون بي في ظلام رهيب
سيلقون بي في جحيم القيود ..
هنا ارتفعت معنوياتنا وانشدنا مرة أخرى الانشودة الأولى ولكن بصوت مرتفع رغم محاولات الجنود لاسكاتنا .. توقفت السيارة ونحن لا نعلم ماذا ينوي الاحتلال ان يفعل بنا .. ولا أين نحن الآن ..
ترجلنا من الحافلة وأول ما رأيته بوابة صفراء وبرج مراقبة عسكري .. هنا صرخ الأخ أبو عمر بأننا الآن نتواجد قرب مشروع العلمي بجانب استراحة اريحا .. بدأنا من جديد ننشد الأناشيد الوطنية ونهتف لفلسطين وقضيتنا العادلة ..
سرنا باتجاه مقر الأمن الوطني الذي لا يبعد كثيرا عنا .. وهنا استقبلنا جنود فلسطين وقدموا الإسعافات الأولية للمصابين منا وقدموا لنا الماء ,, ومن ثم وفروا لنا سيارات تم نقلنا بها الى مركز مدينة اريحا .. فيما تم نقل المصابين الى مستشفى اريحا الحكومي ..
تجمعنا على دوار اريحا وهتف الجميع .. بقيت عين حجلة راسخة ولم يستطع الاحتلال بكل ما استخدم من قوة وجبروت ان يستبدل مشاعر الفخر والانتماء لتلك الرقعة الجغرافية من وطننا بمشاعر الخوف والألم ,., فبقيت الى اليوم حكاية عين حجلة جزء من احلامنا وذكرياتنا على حد سواء ..
بدأ الجميع بالوصول الى دوار مدينة اريحا .. وبدأ الكل يتفقد أصدقاء ورفاق القرية ويطمئن كل منا على الآخر ,, وسررت جدا عندما شاهدت العائلة المناضلة عائلة التميمي ومجموعة النبي صالح سليمة لم يلحق بها أي أذى باستثناء شاب في عمر الزهور من عائلة التميم قد تعرض لاصابة في ظهره .. لأن مكان اقامتهم في القرية كان بعيدا نسبيا عن مركز القرية.. بعدما تطمأنت على معظم سكان القرية لاحظت في تلك اللحظة عدم وجود أحد من مجموعتي أبناء حركة الشبيبة الطلابية في جامعة القدس ابوديس .. كنت قلق جدا على فادي الشواهين ومحمد قناديلو وأحمد دعيس وسامي أبو غالي ومنتصر تيلخ وأبو الخطيب وحمزة جوابرة ومعتز ومهدي وأبو السمير .. وبدأت اجري اتصالاتي بهم علمت منهم بأنهم اضطروا ان يغادروا عين حجلة مشيا على الاقدام ليقطعوا مسافات كبيرة بين حقول الأشجار لينتهي بهم الامر عند مقر تدريب الحرس الرئاسي .. هنا انا أبلغت الأخوة في الأمن الوطني بوجودهم هناك وعلى الفور توجهت سيارات الى منطقتهم لأخلائهم ..
"مكاسيح" جامعة القدس ..
وهنا نفتخر عندما نقول "مكاسيح" جامعة القدس فجل الإصابات كانت في صفوف شبابنا وهذا نتيجة طبيعية لحجم الصدام مع جنود الاحتلال عند اقتحامه القرية .. وصلت الى مستشفى اريحا الحكومي وكانت اسرة المستشفى تعج بالمصابين .. رأيت صديقي احمد دعيس فاقد تماما للوعي .. الى جانبه الأخ سامي أبو غالي لا يقوى على الكلام اطلاقا .. أبو الخطيب كان في وضع يرثى له وقد نقل الى غرفة الاشعة لتشخيص الكسور التي أصيب بها .. رمزي أبو سعدة كان أيضا فاقدا للوعي وحاولت أن اتواصل معه ولكن بدون فائدة .. وأيضا لا أنسى مشهد المسعف الأصيل ماهر صالح وهو يكاد يموت اختناقا بسبب ضربة مؤلمة وقاسية تعرض لها من قبل احد الجنود على صدره .. شعرت بخوف شديد عليه لأنه كان بالكاد يلتقط أنفاسه .. تألمت جدا لوضعه .. نيبال أصيب برجله وكذلك حمزة .. انا إصابتي كانت مجرد آلام شديدة بظهري نتيجة ضرب الجنود المبرح تلقيت العلاج وأصبحت أفضل حالا في حين كان هناك عشرات الإصابات في صفوف أبناء القرية .. بعد ان انتهينا من علاج الجميع واستعاد دعيس وعيه جلسنا جميعا امام غرفة الطوارئ في مشهد مبكي مضحك في الوقت ذاته ومعظم شبابنا مصابين ومعصبين .. هنا مازحتنا زميلتنا لما قائلة "مكاسيح جامعة القدس" ..
عدنا ادراجنا الى وسط مدينة اريحا .. وكانت الساعة الخامسة فجرا .. وحينها وجدنا الأخ ماجد فتياني محافظ أريحا منشغلا في عملية تأمين عودة الناشطين الى منازلهم .. رائع جدا هذا الرجل وهو أهل للمسؤولية لم يتركنا للحظة حتى في أحلك الظروف .. عدنا الى قرية أبو ديس بدون أي جهد يذكر استسلمنا للنوم من شدة التعب ..
تلك هي حكاية عين حجلة .. بكل تأكيد لم اوفها حقها كاملةً .. فكان السرد هنا فقط لما عشته من تفاصيل .. ولو كنت أدري بأنني سأجتهد لكتابه تفاصيل هذه التجربة .. لعشت كل لحظة من لحظاتها موثقا لها .. مشهد الليلة الأخيرة لا يختلف اطلاقا عن آلاف المشاهد والصور التي وثقت هجرة شعبنا وتشرده في منافي الغربة منذ العام 1948 حتى الوقت الحاضر .. الاحتلال هو ذاته لا تتغير صورته المقيتة اليائسة في فرض واقع جديد على هذه الأرض .. فكنعانية هذه الأرض وعروبتها من الاستحالة تغيير ملامحها لأن عمرها أكبر بكثير من عمر هذ الاحتلال الجاثم على ارضنا منذ 66 عاما .. ففي كل مرة يسقط الاحتلال في اختبار الأرض والانتماء ويتصدر شعبنا النتائج لأنه اب عن جد حفظ ملامح هذه الأرض وتفاصيلها وجغرافيتها ومائها وهوائها .. لأنها ببساطة امه فهل يستطيع الأنسان أن ينسى أمه التي ارضعته وغرست فيه الانتماء لهذا الوطن ؟؟
بكل تأكيد لاااااااااااااااااااااااااااااااااااا
الى اللقاء مع الجزء الثاني من يوميات #عين_حجله .. حين يكتب لنا العودة مرة أخرى لها ..