الغرفة- عبد الغني سلامة
مضى من عمري أكثر من نصفه (على افتراض أني سأموت موتة طبيعية) وما زلت أجهل كنه هذا المكان الذي أعيش فيه، حيث أجده في كل مرة مختلفاً؛ بالرغم أنه مجرد غرفة صغيرة، تحتوي على سرير بجانبه منضدة صغيرة، ومن فوقها صورة لعجوز ثمانيني، يقابلها خزانة بدفتين، وستارة داكنة تخفي وراءها نافذة كبيرة، تقريبا تلك هي كل محتويات الغرفة .. وهي على بساطتها، تظل محيرة .. أحيانا تبدو غرفة نوم دافئة، يطيب لي النوم فيها حتى ساعات الضحى، وأحيانا أحسها مجرد غرفة في فندق درجة ثالثة، آتيها في ساعة متأخرة من الليل، لدرجة إني لم أفكر بتصليح حنفية المطبخ، ولا حتى إبلاغ موظف الاستقبال عنها .. وأحيانا تبدو لي زنزانة موحشة في سجن عسكري شديد الحراسة ..
الدكتور "زاهر" كان يؤكد لي أنها غرفة في مستشفى حكومي تستخدم لذوي الأمراض المعدية .. لكني لا أعاني سوى من صداع يأتيني بين الفينة والأخرى وأحيانا مغص معوي، فهل الصداع والمغص يستوجب المكوث في المستشفى سنوات عديدة ؟! من المؤكد أنه مستشفى للأمراض العقلية، والدكتور يخفي عني هذه الحقيقة كجزء من العلاج .. يا إلهي يعني أنا مجنون !؟
الشرطي "نادر" مع أنه يحمل بيده دوما "مطرق رمان" رفيع وطويل ويلوح به مستمتعا بصوته الرهيب، يظل مبتسما على الدوام، وعندما يوقظني في الصباح يصيح بصوته الحاد: "لساتك نايم ؟" وكلما سألته أين أنا ؟ يقول لي: أنت في غرفة توقيف مخصصة لمن تضبطهم الشرطة يقودون سياراتهم سكارى، أو بصحبة غانيات .. لكني لا أملك سيارة، ولا حتى رخصة قيادة، ولم أمشي يوما مع أنثى غير أمي !! هل أنا مجرم خطير، والشرطي يخشى مني، فاخترع قصة غرفة التوقيف ليلطف عليَّ الأمر ؟؟
كان يأتي الغرفة من حين لآخر أشخاص بلا ملامح، وبلا وجوه، يشبهون أولئك الذين يظهرون فجأة في الأحلام أو في الكوابيس، لا تدري من أين أتوا، ولا كيف اختفوا !! أسألهم من أنتم ؟ وماذا تريدون ؟ ينظرون إلي بعيون زجاجية، ثم يمضون مخلفين وراءهم بقايا طعامهم وروائحهم الغريبة ..
أكثر ما كان يحيرني في الغرفة تلك الصورة الكئيبة .. أمي قالت إنها صورة جد أبيك عندما كان في الجيش العصملي، هل هذا يفسر تكشيرته الفظيعة ؟! الحاجة "أم وفيق"، العجوز الثرثارة، قالت إنها صورة والدك نفسه، والدي الذي لم ألتقيه قط، حيث قُتل في أول يوم من الحرب، وكنت ما زلت حينها في أحشاء أمي .. "أبو حسن" صاحب البقالة الوحيدة في الحي، كان يقول عنه باستمرار أنه أطيب زبون مـرَّ عليه، وأنه كان كريما، وصاحب نخوة .. بينما كان يقول عنه "حسّان" الجار اللدود، إنه كان انطوائي وجبان ومعقد نفسيا .. أما الأستاذ "ابو توفيق" فكان يؤكد أن صاحب الصورة لا يمت لي بصلة، وإنها مجرد صورة رسمها مستشرق من خياله، وإذا بحثت في الأحياء المجاورة ستجد نفس الصورة معلقة على جدران الصالونات، وأهل البيت ينسجون عنها الحكايات ..
مع إني لم أحب الصورة، لكني رفضت أن أصدق رواية الأستاذ "أبو توفيق"، ولا أدري لم تعلقتُ بها، صرت كلما زارنا أحد أحدثه عن صاحب الصورة، وأروي له الحكايات عن بطولاته، والذبائح التي كان ينحرها إكراما للضيوف، وإذا وجدت تفاعلا من المستمع أشير إليها، أنظر، ألا ترى الشبه بين عينيه وعيني ؟ ذات مرة قررت التخلص منها، فوجدت الحائط عاريا قبيحا، فأعدتها على الفور .. وعندما حصلت على فيزا للهجرة إلى كندا، كانت أول شيء أضعه في الحقيبة.
لكن غرفتي، والصورة، وحيرتي معهما، وكل ما قيل عنهما من قصص، كلها كوم .. والغرفة المجاورة لي كوم آخر مختلف .. فهي على درجة من الغرابة تستعصي على الفهم .. دوما مقفلة، أسمع منها بين الحين والآخر دوي انفجارات، من المفترض أنها كفيلة بهدم الغرفة، بل والعمارة كلها، ومع ذلك لم تتصدع جدرانها .. في العصارى أشتم رائحة حشيش تتسلل من تحت الباب، تختلط مع روائح عطور فاخرة، وأحيانا مع رائحة مياه آسنة وعفونة .. في المساء أسمع تراتيل وأناشيد دينية تتداخل مع صوت أم كلثوم، وموسيقى غربية صاخبة، وضجيج سيارات، وهدير جنازير الدبابات، أصوات طلقات متقطعة وسريعة .. بكاء أطفال، عويل نساء، تأوهات مومسات يطارحن الغرام، ضحكات مدوية .. يا إلهي، كيف تتسع هذه الغرفة لكل تلك المتناقضات !!
من ثقب الباب راقبت الغرفة طويلا، لأرى من يدخلها ومن يخرج منها، لعلني أفهم شيئا مما يجري هناك .. دخلها شيخ ملتحي يرتدي دشداشة قصيرة، تبعه رجل أربعيني ملامحه أجنبية يحمل حقيبة سمسونايت، ثم رجل أشعث أغبر يبدو أنه لم يستحم منذ الثورة العربية الكبرى، وشاب مكنوش الشعر يرتدي بلطلون جينز يشبه الفنانين غريبي الأطوار، وآخرين يبدو عليهم الهزال من شدة الجوع، وفتيانا يحملون بنادق رشاشة .. لكني لاحظت أنه لم يخرج من الغرفة أحد !!
أكثر من مرة فكرت بدخول الغرفة المجاورة لأعرف حقيقتها .. ثم أتراجع، كيف سأفهمها بمجرد إطلالة سريعة، وأنا لم أفهم غرفتي التي أسكنها !؟ وأخيرا دفعني الفضول لأفتح الباب .. رأيت عشرات الأشخاص يتقاتلون فيما بينهم، أشلاء وجثث ممدة على الأرض، وجوه مكفهرة، وأخرى مكتنزة تشوبها حمرة تبدو عليها آثار النعمة .. ولشدة دهشتي رأيت صورة جدي (أو أبي)، نفس الصورة تقريبا، منسوخة عشرات المرات، ومعلقة على كل الجدران، الاختلافات بين نسخة وأخرى طفيفة، اللحية تكون أطول أو أقصر، لون الشعر أغمق أو أفتح، حجم الأنف، لون الياقة .. لكن العيون ذاتها .. والتكشيرة الفظيعة نفسها !!
لم أتمالك أعصابي، فأمسكتُ بياقته وشددتها نحوي، وصحتُ بأعلى صوتي: من أنت بحق الجحيم ؟!!