ابو عرب.. مكابدات الرحيل والعودة "المغصوصة"- أسامة العيسة
في أحد أيام شهر أيار 2011، كنت على موعد، مع ابراهيم محمد صالح (أبو عرب)، في مدينة بيت ساحور، وصلت أبكر منه، ورأيته ينزل درج بلدة بيت ساحور القديمة، بمساعدة أصدقائه من أجيال فلسطينية مختلفة، صاغت ذائقتها الفنية الوطنية، على أغانيه، التي كانت تنطلق من المخيم الذي يعيش فيه في سوريا، الى فلسطين، ومناطق الشتات الفلسطيني.
عندما جلسنا نحن مجموعة من محبيه الذين يلتقونه أول مرة، وبعض اصدقائه الذين يعرفونه عندما كانوا في الخارج، لم يكف، عن الغناء، والقاء النكات، وفي الحالتين، يضع أصابعه على هموم وآلام الجماهير التي غني عنها ولها.
وتزامنت زيارته لفلسطين، مع الانتفاضات التي شهدتها بلدان عربية، وعرفت بالربيع العربي، فتحمس لها، وغنى:
"طلعت شرارة في تونس الخضرا
مصر العروبة التهبت بالثورة
الحكام الْخَوّن طلعوا لبرة
انشاء الله نهني الثورة الليبية".
ولا أعرف، اذا كان غير موقفه من الربيع العربي ام لا؟ الذي لم يطل كثيرا، وتحول، كما يرى كثيرون، الى خريف طويل.
ثم غنى لمنتظر الزيدي، الصحافي العراقي، الذي ألقى الحذاء على الرئيس الاميركي السابق بوش، في حادثة شهيرة.
عودة "مغصوصة"
بدأ أبو عرب حديثه، عن لحظات دخوله الى فلسطين، التي غادرها، قبل 63 عامًا:
-عندما دخلت الى فلسطين، شعرت في اللحظات الأولى، بأن عمري كله عاد الى الوراء 63 عامًا، الى اليوم الذي خرجت فيه منها، لكن عندما توغلت في أرض فلسطين، ورأيت البؤر الاستيطانية، والحواجز، شعرت كأن أرض فلسطين الطيبة، تحمل مرضًا، على ظهرها. رغم السرور الذي انزرع في قلبي، أشعر بالألم، لمعاناة الأهل هنا.
*كم كان عمرك عندما أُجبرت على مغادرة فلسطين؟
-كان عمري 17 عامًا، عندما خرجنا من قرية (الشجرة)، أتذكرها، وأتذكر دراستي في الناصرة، استشهد والدي، في القرية، وخرجنا الى قرى فلسطينية أخرى، ولكن بعد أن سلمتها الجيوش العربية للعصابات الصهيونية، خرجت الى صيدا في لبنان، والتحقت بالعائلة في حمص.
*ما هو أكثر مكان ترغب بزيارته في فلسطين؟
-القدس، ومسقط رأسي قرية الشجرة، وقبر والدي الشهيد في كفر كنا، ولكن لا أعرف اذا كان سيسمح لي بتحقيق ذلك، من قبل الاحتلال.
*يعني انها عودة منقوصة؟
عودة منقوصة و"مغصوصة"، أشعر بالغصة لحال فلسطين واهلها.
المبدع الناقد
*كيف ترى واقع الأغنية السياسية الان، مع انتشار الأغنية التجارية الخفيفة؟
-لا مستقبل للأغنية التجارية، أنا اعتقد أن الفنان المبدع هو من ينتقد، وليس من يمدح. المسؤول الذي يقدم الأمور الجيدة، الشعب هو من يمدحه.
*-ماذا عن واقع الأغنية السياسية الفلسطينية، وما رأيك بالأغاني الحزبية والتنظيمية؟
-هناك أغان كثيرة جيدة، ولكنني الاحظ على بعض المغنين، أن كلا منهم يجعل من تنظيمه هو فقط من سيحرر فلسطين..!، أنا أكره أغاني التنظيمات والخاصة بالمسؤولين، يكفي المسؤول اننا قبلنا به، رغم انوفنا، هل سنغني له أيضًا؟
*بالنسبة لك هل أغانيك مستمدة من التراث، أم انك تجدد في التراث الفلسطيني؟
-أنا أجدد في التراث، ولي أغان غير تراثية.
*هل تعتقد انك تعمل ضمن خط تجديدي في الأغنية التراثية الفلسطينية؟ ام أنك الوحيد الذي تضطلع بذلك؟
-يوجد آخرون، ولكن لا أعرف ما هو تأثيرهم، لأن غيري من المغنين، يعتمدون على شعراء يكتبون لهم، وملحنين يلحنون، قلما تجد واحدا مثلي يكتب، ويلحن، ويغني معًا.
*هل تأخذ كلمات من أحد؟
-لا لا، لأن شعوري عندما اكتب الأغنية غير شعور أي كاتب آخر.
*كم أغنية لك؟
-الأغاني المسجلة رسميًا 334 اغنية.
-هل تحفظها كلها؟.
-نعم أحفظها وأغنيها.
القذافي واخوانه
قال أبو عرب، انه يتأثر فيما يكتبه ويغنيه وبما يجري حوله من أحداث، ما جعله ذلك يتعرض لكثير من المشاكل خاصة في البلاد العربية، فسألته عن طبيعة هذه المشاكل، وهل تعرض للاعتقال؟ أجاب:
-لا لم اعتقل، مُنعت من السفر، طُلب مني في بعض المرات المغادرة فورا، من بعض البلدان، وتعرضت لضغوط لأغني للزعماء، مثلا في ليبيا عام 1984، وكنت هناك بدعوة من جهات رسمية لأُحيي عدة حفلات، طلبوا مني الغناء لمعمر القذافي، فرفضت، وعندما عدت الى الفندق، أخبرني صاحبه، بانه يتوجب علي منذ الان دفع أُجرة الفندق لي ولفرقتي، لان الجهة الرسمية، انهت فترة الضيافة.
قلت لنفسي: معنى ذلك انني سأضطر لبيع منزلي، حتى أسدد اجرة الفندق، فذهبت الى مكتب منظمة التحرير، وساعدوني في تغطية أُجرة الفندق، واستعادة جوازات السفر.
-في ذلك الوقت الذي وقعت فيه هذه الحادثة، كانت "القوى الثورية" تحب القذافي، ولكن يبدو انه كان لك رأي آخر؟
-القوى الثورية "مغرورة"..! أنا لا اغني لأي زعيم.
فلسطين والتنظيمات
-هل توجد جهات معينة تدعم الفنان الفلسطيني الملتزم؟
-مرة كان ممثلو الفصائل مجتمعين، في تأبين ناجي العلي، وهو ابن عمتي، كما تعلم، فقلت لهم أُريد ان اقول لكم بيتين من الشعر:
"بتغني للتنظيم أهلا وسهلا فيك
بتغني لفلسطين دوّر على مَنْ يعطيك".
*هل يحتضن الشعب مغنيه امثالك، مع تعذر الدعم من جهات أخرى؟
-لوّ يطلب من الشعب، ان يدعمنا، فانه سيقتطع من خبزه ويعطينا.
كان أبو عرب، يشعر بأنه مدين للجمهور، خاصة الفلسطيني، ويقول بأنه أينما ذهب، فان جمهوره يغمره بحبه، وقال بان أكبر حفلة قدمها قبل سنوات في دمشق وحضرها نحو 25 ألفا، وهو ما يعتبره أكبر دعم له، قال:
-محبة الناس في فلسطين لي، واقبالها عليّ، أكبر دليل، على ان الشعب يقدر الكلمة الصادقة، لقد غمرني الناس بحبهم.
ممنوعات
في مرات كثيرة يتجاوز أبو عرب، ما يُعتبر من جهات معينة، خطوطا حمراء، ولهذا فانه عندما يقدم حفلات في بلدان معينة، أو يظهر على محطات التلفزة، غالبا ما يُطلب منه "تخفيف الدوزان"-حسب تعبيره، أي عدم غناء بعض أغانيه، فسألته ان يعطني مثلا على تلك الأغاني الممنوعة، فبدأ يغني اغنيته (عيني على الحرية)، والتي يسخر فيها من الأوضاع في الدول العربية.
وبعد ان انهى الغناء، ألقى نكتة سمعها من الشاعر العراقي مظفر النواب، عن النعرات الطائفية، السنية والشيعية، ثم اتبعها بنكته أُخرى اسمعها لمظفر، عن نفس الموضوع، ثم اخذ يغني اغنيته (مريم)، والتي يستوحي فيها معاناة مريم العذراء وطفلها، في اسقاط على معاناة الشعب الفلسطيني الحالية.
يخفي الوجه الباسم، وخفة الدم، والصوت القوي، وذكاء العبارة، لدى أبو عرب، حزنًا مقيما داخله، من استشهاد والده في معركة الشجرة، ولجوئه، مشردا، الى لبنان، فسوريا، الى استشهاد ابنه مَعن، خلال العدوان الاسرائيلي على لبنان عام 1982.
كان ابنه احد المقاومين في الخطوط الأمامية، وعندما استشهد، لم يعرف أبو عرب قبره، حتى طلب قبل سنوات مساعدة حزب الله، واتصل بأمين عام الحزب حسن نصر الله.
روي أبو عرب:
-عثر حزب الله على القبر في قرية (عين عطا)، كانوا تسعة أشخاص دفنوا في قبر واحد، بقيت جثثهم مرمية في العراء، يومين، دون ان يجرؤ أحد على دفنهم، خشية من جيش الاحتلال، حتى تقدم شخص من (قرية عين حرشة) اسمه أبو الياس، وهو قومي سوري، فغامر وأتى بجرافة لحفر القبر، ولم يأبه بتحذيرات مَنْ حوله، خشية بطش المحتلين، وقال: "سأدفنهم، واللي بده يحصل يحصل"، وعندما قابلته، أخبرني انه دفن التسعة وقرأ على أرواحهم "الحمد" و"ابانا الذي في السموات".
جرح آخر يعتمل في نفس أبو عرب، وهو استشهاد ناجي العلي، وعندما سألته عن الموضوع، وحاولت ان اتحسس ردة فعله على تفاصيل عملية الاغتيال، توفرت لي خلال تحقيق خاص أجريته، تهرب من الاجابة المباشرة، وبدلا من ذلك تنهد وأسمعني اغنيته في رثاء ناجي العلي:
"بدي أسأل سؤالي يا تجار الزعامة الثّوْرَوّية
القتل أولى بمن في الحرب فلو".
ران صمت عميق بيننا، ورثينا لبلاد، لا تحب مواجهة الحقيقة، في معظم الأحيان.