وليد ابو بكر: في دائرة الشعر الفلسطيني- احمد دحبور
القدس - رام الله - الدائرة الإعلامية
zaأليس من الغريب انني لم احصل على بطاقة تعريف نوعية لهذا المثقف الفلسطيني الشامل؟
فقد كتب وليد ابو بكر شعرا ورواية ومزيدا من النقد التطبيقي حتى غلبت عليه هذه الصفة. وكتابه «في دائرة الشعر الفلسطيني، يشتمل على بعض متابعاته النقدية، ولا سيما خلال اقامته الطويلة في الكويت، ولعل عمله اليومي في الصحافة الثقافية مكنه من هذه المتابعات التي آن لها ان تصدر في كتاب موسوعي، ولنأمل ان يكون هذا الكتاب الذي امامي، مقدمة لهذا المشروع الكبير.
وكتابه «في دائرة الشعر الفلسطيني»، وان كان صغير الحجم اذ لا يتعدى مئة وبضع عشرة صفحة، ويضم دراسة نظرية حول القضية الوطنية في الشعر الشعبي، تليها ست قراءات لستة شعراء فلسطينيين معاصرين، احدهم شاعرنا الكبير الشهيد عبد الرحيم محمود.
اما دراسته حول القضية الوطنية في الشعر، فتبدأ من متابعته الشعر الشعبي اثناء مقاومة الاحتلال البريطاني وصولا الى شاعرنا الشعبي الراحل صلاح الحسيني، وشهرته طبعا: ابو الصادق، واما الشعراء الذين تناولهم بالتفصيل فهم عبد الرحيم الشيخ وعلي الخليلي وسميح القاسم وريم حرب، وبطبيعة الحال عبد الرحيم محمود، وكاتب هذه السطور. ولمزيد من الدقة، تجدر الاشارة الى ان ناقدنا لم يتناول هؤلاء الشعراء جميعا حسب نتاجهم الصادر كله، بل كان يكتفي احيانا بالوقوف عند مجموعة واحدة لهذا الشاعر او ذاك، وتفسير ذلك ببساطة ان كتاب وليد هذا هو جمع لمقالاته التي كان ينشرها تباعا خلال عمله الصحفي، مغطيا مساحة من خريطة الشعر الفلسطيني ربما على اساس ان دراسة هذا الشعر كله تقتضي جهدا استثنائيا يشترك فيه نقاد متخصصون، واذا كان وليد احد هؤلاء المتخصصين - وهو كذلك - فإن جهده الكبير هذا يحتاج الى الاندراج في عمل موسوعي يسهم فيه عدد من النقاد ومؤرخي الادب.
القضية الوطنية
يحتل القسم الخاص بالقضية الوطنية في الشعر الشعبي الفلسطيني، سبعا وخمسين صفحة من هذا الكتاب الذي يبلغ ثلاث عشرة ومئة صفحة، وهذا تقسيم عادل في رأيي، اذا اخذنا بالاعتبار ان نقدنا التقليدي كان يكتفي غالبا بالمرور العابر على الشعر الشعبي، فيما يراه وليد ابو بكر محقا، مفتاحا لقراءة الوعي الجمعي الفلسطيني.
لهذا يبدأ الناقد بحثه هذا بتؤدة وصبر لمتابعة هذا القول الوجداني العام، مفتتحا بحثه بموال شعبي شهير منظوم على النسق البغدادي، حيث المدخل ثلاثة اشطر مقفاة بكلمة واحدة ذات معان متعددة، يليها شطران بقافية مختلفة، ليقفل بشطر اخير يواصل الجناس الذي بدأ به.
على ان الناقد لم يشغله الجانب البنيوي لهذا القول الشائع في ثقافتنا الشعبية، بقدر ما شغلته رسالة الشاعر الشعبي المجهول صاحب ذلك الموال، حيث ان هذا الموال هو «لسان حال الشعب العربي الفلسطيني من خلال شعره الشعبي، عبر سنوات طويلة من المعاناة والاحباط بدأت مع الحكم التركي ولم تنته حتى الآن».
وحتى لا يظل كلامه معلقا في الهواء، فإنه يوضح فورا «ان التعبير يشير الى شعر يردده عامة الشعب، وقد تنوعت نظرة الدراسات الفلكلورية في تحديد هذا الشعر» وكان وليد - كما هو متوقع منه - واسع النظرة الى حد انه قبل الشعر الشعبي بوصفه احد اشكال الشعر الفلسطيني، متجاوزا ذلك التقليد الجائر الذي يزيح الشعر الشعبي، او في احسن الحالات يفرد له مكانا خاصا شبه معزول. على انه يعي صعوبة دراسة هذا الشعر الشعبي بحكم انه غير مدون في معظم الحالات، اذ بقي رهين ذاكرة انتقائية يتداخل فيها هذا النوع من القول مع الغناء، الا ان الشعر الشعبي ظل في مستوى ما، شعرا عربيا من حيث الخطاب والموضوعات ما اعطى الشاعر الشعبي احساسا بالقوة وايمانا بأن المعركة ضد اعداء العروبة في فلسطين هي معركة قومية محسومة النتائج بالنصر الا ان القراءة الموضوعية تجعله يستدرك بأن «سير الاحداث لم يحقق هذا الامل» وكان المأمول ان يعزز وليد هذا الحكم النقدي الصائب في رأيي، بأسماء شعرائنا الشعبيين الكبار بدءا بالشهيد نوح ابراهيم مرورا بأبي سعيد الحطيني والشيخ فرحان سلام وصولا الى راجح السلفيتي وابي الصادق وغيرهم كثير، على اني اسجل له انه ان اغفل الاسماء فلم يغفل الاقوال، انسجاما مع النظرية السوسيولوجية التي تعتبر الادب الشعبي نتاجا للامة كلها - ثم انه في آخر حساب، لم يغفل اسماء بعض هؤلاء الشعراء تماما، وان بقيت افتقد مثلا اسما من نوع يحيى الدقس الذي اشتهر بيننا باسم يحيى البدوي ضنا بوضعه الخاص حتى لا يتعرض للاذى.
وعموما، كانت وقفة وليد عند شعرنا الشعبي لحظة وفاء تستحق الاعتناء قبل ان تنطوي هذه الاسماء اللامعة مع انطواء ذاكرة مثخنة مزدحمة بالاحداث.
الحضور والتأمل
في فصليه الخاصين بالشاعرين عبد الرحيم الشيخ وعلي الخليلي، يتوقف الناقد عند ظاهرة الحضور والغياب في منظومة عبد الرحيم الشيخ الصوفية، وعند الجدل بين الفكرة والصورة عند علي الخليلي، فيلفته استغراق الشيخ في التأمل، واهتمام الخليلي بثنائيات الموت والحياة، او الفتوة والكهولة او الصورة والفكرة، ويعترف للخليلي بالعناد الوجودي حيث «لا ينتابه الخوف قط، وانما يواجهه وهو يهتف: لكنني اواصل الصعود».
سميح القاسم
يبدي الناقد اهتماما خاصا بالشاعر سميح القاسم من خلال مجموعته «خذلتني الصحارى» ولعل اختيار هذه المجموعة تحديدا كان شديد الفائدة، من جهة توضيح ثنائيات سميح القاسم، فإذا كان هذا الشعر الكبير يعترف بالخذلان والخيبة، الا انه متمسك بالعناد والامل، فقصيدة سميح «تطرح موضوع التناقض بين امير المحبين وملكة الصحارى» وينتبه الى ان التناقض عنده له صورتان اساسيتان شاعريتان تماما، والحس الدرامي في قصيدة سميح، كما رآه وليد واضح وهو يتابع رحلته الدرامية من موت الشاعر وموت حبيبته الى «ان يقرر العودة الى مسقط دون رأس، واحساسه كامل بأن الصحارى خذلته حين وضعت على كل وجه وكل قلب قناعا» ليصل بعين الناقد الحاذق، الى ان سميحا في رحلته الشعرية هذه، هو «هملت العربي الذي تخلى عنه الجميع، وبات عليه ان يحمل همه وسيفه وحده»،.
بعد ذلك، وبلطفه وشفافيته المعهودتين، يصل وليد الى تجربتي الشعرية التي وصفها بأنها «شاعرية القول في هموم الامكنة» وذلك من خلال رصيده وقراءته لمجموعتي الشعرية «هنا هناك» واذا كنت لا استطيع، موضوعيا ان اتوقف عند هذا الفصل الخاص بي، فإني اكتفي بتوجيه الشكر الى هذا الناقد الدؤوب الذي لا تفوته فائتة، حتى اذا ارسله شغفه النقدي الى التجربة النسوية، وجد في مجموعة ريم حرب، وعنوانها «صلوات للعشق» شاعرية خاصة تصعد في التجلي.
على اني لو كنت مكان الناقد وليد ابو بكر، لخصصت مساحة اوسع لدراسة سميح القاسم، فهذا الشاعر - الذي قد يكون اغزر الفلسطينيين انتاجا مع الاحتفاظ بمستوى نوعي متميز - يحتاج الى مزيد من التوسع، لكننا نستدرك فنتذكر ان هذه دراسة «في دائرة الشعر الفلسطيني» وليست مقصورة على شاعر واحد مع الاعتراف الاكيد بالموقع النوعي لهذا الشاعر.
عبد الرحيم محمود
واذا كان الناقد قد افتتح كتابه هذا بالاطلالة على الشاعر الشهيد نوح ابراهيم فانه يختم هذا الكتاب بفصل عن «بعض مصادر الصور في ديوان عبد الرحيم محمود».
والحق ان ابا الطيب يستحق هذا الاهتمام الخاص وعلى المستوى الشعري تحديدا، لاننا اذا كنا ننحني احتراما لذكرى استشهاده فلا نغفل عن حضوره في خريطة الشعر الفلسطيني بوصفه احد الثلاثة الرواد الكبار، والآخران هما ابراهيم طوقان وابو سلمى، وقد انتبه ناقدنا مبكرا الى انه «يتميز شعر عبد الرحيم محمود - في اطار من الاسلوب التقليدي - بمحاولته التوصل الى تعبيرات وصور تخصه، كان يتعب بها لغويا وكانت تتعبه حين لا ترضيه» كأن يقول:
اي لفظ يسع المعنى الذي
منك استوحيه يا وحي قصيدي؟
وله في هذا المعنى اشارات عدة تملأ قصائده «لأن استناد هذا الشاعر الى مخزونه اللغوي وقدرته على التوليد منه، سار به الى اشتقاقات تبدو غريبة رغم صحة الاشتقاق وسلاسته ايضا، ويواصل متابعة هذه التجربة الشعرية الخاصة بأبي الطيب عبد الرحيم محمود فيقول: «لان المعاني هي التي تستلزم تعبيرات تليق بها، فانه يمكن الاحساس بأن حجم التجربة التي عاشها الشاعر الشهيد هو الذي فرض عليه الطريق اللغوي» ويبقى ان عبد الرحيم هو صاحب الصرخة الوجودية التي عبرت الزمن حتى اصبحت من المأثور الوطني الفلسطيني:
لعمرك اني ارى مصرعي
ولكن اغذ اليه الخطى
على ان وليدا لم يكتف بهذا الشائع المعروف عن عبد الرحيم، بل توغل في قراءة تجربته النوعية التي تعد سبقا تاريخيا من حيث تطابق الذاتي مع الموضوعي في رؤيا شعرية وجودية كانت نتيجتها ان التزم الشاعر بالذهاب الى لحظة الاستشهاد منسجما مع القانون الذي عبر عنه بشعر فريد يقول:
ونفس الشريف لها غايتان
بلوغ المنايا ونيل المنى
ولقد نال ما تمنى حين بلغ حد المنية شهيدا في معركة الشجرة الخالدة عام 1948، ويلخص ناقدنا هذه التجربة الفذة الاستثنائية بالقول: وهكذا كانت حياة عبد الرحيم محمود القصيرة المكثفة مصدر تجربته الشعرية، وكانت علاقته بالتراث الثقافي العربي الاسلامي وبالتراث الشعبي، عونا له على التعبير عن تلك التجربة، مما حقق له هذا الوجود الفاعل بين شعراء جيله.. ولعلي اضيف الى هذا الكلام المنصف من وليد ابو بكر ان الوجود الفاعل قد تحقق لعبد الرحيم بين شعراء جيله ومن تلاهم من المثقفين بدليل اننا ما زلنا نردد صرخته «سأحمل روحي على راحتي» من مقاعد الدراسة الى ساحة الحياة العامة.
في الحكم الموضوعي
اكثر ما يلفت في دراسة وليد هذه انها تبدو كالطلقة من حيث نفاذها ووصول فكرتها، ومع ان الفلسطيني، شأن البشر جميعا، قد يتحرج من التركيز على الجانب الذاتي - وبهذا المعنى فإن القضية الفلسطينية بالنسبة الينا تدخل في الذاتي والموضوعي - لكن ما يرفعها الى مصاف الرؤيا عابرة الزمن انها معززة بالواقع الملموس، فعبد الرحيم محمود واقرانه من شعراء فلسطين ليسوا اشباحا بل هم نماذج تزخر بها الحياة الفلسطينية التي شكلت رقما قياسيا في تقديم المبدعين الشهداء منذ الشاعر نوح ابراهيم خلال ثورة القسام. الى المثقفين والمبدعين الذين استشهدوا في معارك الثورة الفلسطينية المعاصر، وانه لامر لافت في هذه التجربة الابداعية انها لم تقتصر على تقديم المبدعين النوعيين بل ان المكتبة المعاصرة قد زخرت بأسماء النقاد الفلسطينيين الكبار من وزن جبرا ابراهيم جبرا ود. احسان عباس وصولا الى د. فيصل دراج ويوسف اليوسف ووليد ابي بكر بطبيعة الحال..
والمشروع الثقافي الفلسطيني، نقدا وابداعا تميز منذ بداياته بامتداده العربي حسب الشعار التاريخي المشهور: نحن عرب لا لاننا نحب ذلك بل لاننا كذلك، وهو ما يفسر هذا الحضور الثقافي المتميز لشعب كان ولا يزال يراد له ان يختفي عن المشهد فعمق حضوره حتى اصبح احد العناوين النوعية للمشهد الثقافي العربي.
واذا كانت العروبة مسألة تتعلق بالاختيار الوجودي المصيري، فإن الاداء النوعي منح هذا الاختيار طابع الهوية الوطنية والقومية والا فكيف لا يعتز المثقف العربي بأسماء من نوع عبد الرحيم محمود ومحمود درويش وابي سلمى وسميح القاسم وجبرا ابراهيم جبرا واحسان عباس وفيصل دراج وعز الدين المناصرة ومحمد القيسي الى آخر الكوكبة التي لا تنتهي من المبدعين والنقاد والشهود على العصر.
ليس هذا الختام صرخة احتفالية، كما توحي النبرة الخطابية ولكنه الاسهام الموضوعي في وضع الصحيح في مكانه وقراءة المشهد قراءة عادلة منزهة عن العصبية وردود الافعال.
وبعد..
شكرا لذكرى عبد الرحيم محمود التي تتعدى يوم استشهاده في الرابع عشر من تموز لتطالعنا دائما فهي مناسبة يومية يتم احياؤها بالحفاظ على مشروعات اصحابها على المستويين الميداني والثقافي.
مقدمة لمشروع
اذا استحق وليد ابو بكر وكتابه في دائرة الشعر الفلسطيني هذا الاستقبال الاحتفالي المتواضع فإن تكريمه الطبيعي يكون في تحويله الى مشروع نقدي كبير، ذلك ان الاسهام الفلسطيني في المشهد الثقافي العربي اذا اغنى هذا المشهد بهذه الكوكبة النوعية من المبدعين فانه قدم الى جانب ذلك رموزا نقدية تنهض بالمشروع الثقافي العربي من اساسه فالى جانب شعرائنا وروائيينا يقف نقادنا الكبار د. احسان عباس وجبرا ابراهيم جبرا ود. محمد يوسف نجم، ود. فيصل دراج ويوسف اليوسف وآخرون كثيرون يضيئون في الفضاء العربي بلا انقطاع. وليس معنى هذا ان على رأس مشهدنا ريشة ولكن طبيعة الموقع الفلسطيني تتجاوز الحدود الجغرافية النوعية لتصل الى السؤال العربي الكبير الذي ينتظمنا جميعا وهي مناسبة لأتذكر همسة اسرّ بها اليّ اديبنا الكبير جبرا عندما قال: ان مجرد اقدام الفلسطيني على تقديم تجربة ابداعية نوعية هو عمل وطني.. فحين حاول الصهاينة حذف اسم فلسطين من الوجود لم تكن لدينا دبابات ومدافع لكن كان لدينا ابو سلمى ومحمد العدناني وابراهيم طوقان واحسان عباس وغيرهم كثير..
وبهذا المعنى الذي اشار اليه جبرا - وغيره كثيرون - يكون الاسهام في تقديم ثقافتنا والتعريف بها، ما يدفعني الى تحية وليد ابي بكر على كتابه هذا، ليس بسبب محتواه المعرفي المفيد وحسب، بل بسبب الفائدة الوطنية المجتناة من اعمال كهذه.
ما زلت اذكر شابا فلسطينيا من صفورية، فاز ببطولة سورية للملاكمة في احدى السنوات وتم رفع العلم الفلسطيني للمناسبة، فانفجر الشاب بالبكاء وهو يعانق العلم، ولا تزال تلك الصورة ماثلة في ذاكرتي فمن اقدارنا اننا اننا نحيي الفرح بالدمعة.. ولهذا اقترب من الناقد الاديب وليد ابي بكر بدمعة التحية على امل ان نذرف الدمعة الكبرى يوم تحقيق آمالنا الكبيرة، كل هذا ونحن عرب.. لا لاننا نرغب في ذلك وحسب بلا لاننا كذلك..