الرقص على جبهة الجنوب
جميل ضبابات
ترقص جينا ليرارا إلى حد الانهيار من الإرهاق، وبين كل وصلة وأخرى، تهبط الفتاة العشرينية من طولها أرضا، فيتلقفها شبان آخرون... وفي قاعة تغص بنحو 1500 شاب وشابة، لم يكن رقص حروب القبائل الإفريقية معزولا عن معركة جديدة يخوضها هؤلاء.
ويمكن لليرارا ذات الوجه المليء والقد المياس، أن تلفت النظر أكثر من غيرها من الراقصين والراقصات، بإتقانها أكثر من أسلوب للرقص..وليس هذا فحسب.
ففي جنوب أفريقيا يمكن لأي مواطن أن يمارس دور القيادة إذا ما تعلق الأمر بالغناء. لذلك قادت ليرارا مجموعة من الراقصين والراقصات طيلة ساعتين.
لكن ما علاقة كل ذلك بما يجري من صراع على بعد الآلاف الأميال في الشرق الأوسط المضطرب؟
إذا طلب من ليرارا ان تخبرك بعيدا عن ضجيج مكبرات الصوت في جامعة فيتز بجوهانسبيرغ لماذا ترقص بهذا الحماس المتواصل؟ ستجيب وهي ما زالت تحرك رأسها وتدندن ' فلسطينا.فلسطينا'.
وفي مجتمع مكون من قبائل متعددة، ناضلت على مدار عقود للتحرر من حكم الأقلية البيضاء يبدو الرقص والغناء واحدا من علامات تلك الحقبة. فليرارا ذاتها تنحدر من عائلة عاشت في معازل السود الفقيرة القريبة من جوهانسبيرغ.
وهي اليوم جاءت لحضور حفلة غنائية لواحدة من اشهر مغنيات البلد التي يحتفظ فيها الثوار القدامى الذين يحكمون البلاد اليوم بعلاقات وثيقة مع منظمة التحرير الفلسطينية التي دعمت حركة التحرر فيها.
واقفين، امام المغنية سيمفوي دانا، التي يحبها الشبان الجنوب إفريقيين الى حد الهوس، يهتف الشبان والشابات بالنصر لفلسطين. ويمكن من اي صف ان يجيش شباب اخرون ليردد الجميع اغاني كفاح المعازل.
تقول فسيحه حسن وهي طالبة في الجامعة ذاتها' هذه ليلة كبيرة. كل هؤلاء للتضامن مع فلسطين. في ساحة القاعة الكبيرة امكن قبل غياب شمس المدينة مشاهدة الحضور يرتدون قمصان رسم عليها الزعيمان التاريخيان الراحلان: الجنوب افريقي نيلسون مانديلا والفلسطيني ياسر عرفات.
وقالت نيزونا وهي واحدة من الحضور جاءت من جامعة اخرى 'انهما نفس الروح. انها نفس القضية'، في اشارة منها الى قضيتي تحرر متشابهتين.
وقال شاب صعد الى المسرح قبل ان تغني دانا سلسلة من اغانيها المعروفة' ان افضل طريق لانهاء الاحتلال هو ان يقاطع كل منكم اسرائيل'. وتتنامى في جنوب افريقيا حركة مقاطعة واسعة لاسرائيل، ومنذ عشر سنوات تنظم حركات المقاطعة ' اسبوع الابرتهايد الاسرائيلي'.
ولكلمة الابرتهايد، التي تلفظ في جنوب افريقيا ابرتايد، وارتبطت بنظام الفصل العنصري الابيض هناك، وقع مخيف في فكر الجنوب افريقيين الذين عاصروا تلك الحقبة.
وقالت دانا ' ساغني اغاني الكفاح. الكفاح مستمر في فلسطين. في الاثناء يمكن سماع الاهزوجة القبلية الجنوب افريقة تصدح بعيدا عن المسرح، فيكفي ان ينطلق احد ببادئة غنائية ترد عليها الجموع.
وفي الغناء الجنوب افريقي تسري عاطفة عميقة تصل الى حد البكاء.
ذاتها ليرارا انهت رقصها بالدموع. وقالت' لا اريد لهذه الليلة ان تنتهي. فيفا فلسطين. فيفا فلسطين. وتعمل جماعات جنوب افريقية يسارية واخرى عمالية على حشد اكبر عدد من المناهضين للاحتلالات في العالم.
وقالت حسنه التي كانت تنظم صفوف الحضور' هناك نشاطات مشابهة في 15 جامعة على امتداد البلاد'. ويبرز الجنوب افريقيين الذين يحفظون اغاني ثورية كثيرة عن ظهر قلب مناصرتهم لقضية فلسطين من خلال إشارات ثورية أصبحت رمزا للكفاح الفلسطيني التاريخي.
إنها الكوفية الفلسطينية التي ارتبطت بالقضية.
ذاتها دانا التي وضعت غطاء رأس تقليدي تضعه بعض نساء قبائل جنوب إفريقيا ربطت الكوفية على معصمها طيلة فترة غناءها، فيما ربطت مغنية أخرى الكوفية حول عنقها.
وبدأ الكفاح المسلح ضد نظام الفصل العنصري الأبيض في جنوب إفريقيا في الستينات لكن أيقونته مانديلا انتهج فيما بعد السلمية في تديشن حقبة جديدة من التعايش.
ويتحدث الجنوب إفريقيين عن أوجه شبه كثيرة بين فكر الاحتلال الإسرائيلي ونظام الابرتهايد الأبيض البائد.
وقالت دانا قبل أن تغني الأغنية المشهورة(ملايكا)' عندما مات الأطفال في جنوب إفريقيا وقف العام معنا، لذلك عندما نرى أطفالا يموتون في فلسطين يجب أن نقف إلى جانبهم'.
ويتعدى الحماس العاطفي دائما الخطابات، ليتحول إلى أغان كفاحية كلما ذكر الاحتلال الإسرائيلي.
وقال سكومبا سكومبا وهو شاب في الأربعينات من عمره' سنغني لنري الدعم لفلسطين'. ولم يكن ممكنا أكثر من مرة إسكات سكومبا الذي يخرج صوته بشكل ملفت من عمق الصفوف المتراصة عن الغناء.
واقفا، على ساق واحدة، أمكن لسكومبا أن يرقص وهو يردد مقاطع غنائية بواحدة من لغات البلد الكثيرة. ولدى الجنوب إفريقيين طريقة ما في الرقص: ثني الساق ورفعها وهي حركة تبادلية بين الساقين مع تحريك الجزء الأعلى من الجسم.
لكن ليرارا ذاتها، أكثر من مدرسة للرقص. وقالت بعد ان اخترقت صفوف المشاركين في اغاني الكفاح ' نغني من اجل مانديلا. هذا الرجل الذي دعم الفلسطينيين'.