أغاني العاصفة- عبد الغني سلامة
من منّا لا يذكر أغاني العاصفة !؟ كلاشنكوف، وعالرباعية .. خاصة من شهد على العصر الذهبي للثورة الفلسطينية، زمن الفدائيين.. تلك الأغاني التي تحولت إلى أهازيج شعبية ليرددها الصغير والكبير، وتغنيها النسوة في الأعراس، وفي المناسبات الوطنية، حتى باتت بمثابة ضمير الثورة، وعنوانا لأهم مراحلها التاريخية.
في ذلك الزمن الجميل كنت فتى غضاً، أدّخر من مصروفي اليومي ما يكفي لشراء كاسيت فارغ، ثم ألقمه لجهاز التسجيل، وأضبط إبرة المذياع على صوت العاصفة، (قبل أن تتحول إلى صوت فلسطين، في زمن الإعلام الموحد) حين كانت تبث أثيرها من القاهرة، وأنتظر بشوق ما تبثه من أغاني لأسجلها، وأعيد سماعها مرات ومرات، حتى حفظتها غيبا .. كانت لتلك الأغاني الثورية قدرة مدهشة لأن تفعل بنا الأفاعيل .. توقظ حواسنا كلها دفعة واحدة، وتحمل أحلامنا إلى أبعد مدى تصله الريح، وتعيد إنتاج ذواتنا لنصبح ثوارا بشكل ما، وترسم لثورتنا صورة جديدة مختلفة في المخيال العالمي ..
أعرف صديقا لي، سمع أغنية "يا جماهير الأرض المحتلة"، فهزت أركانه، وأيقظت الخيول في شرايينه، كان يقطن حينها في عمّان، فما كان منه إلا أن لبس كوفيته، وخبأ خنجره في خاصرته، وانتظر إلى أن هبط الظلام ليطلق ساقيه للريح، وعند منتصف الليل كان قد وصل إلى غور الكفرين، قاصدا الأرض المحتلة .. وصديقا آخر، كان يقطن مخيم البقعة، نجح مع مجموعة صغيرة في التسلل إلى سوريا، ومنها إلى لبنان، حدث هذا في فترة اجتياح الليطاني، وعندما التقيته بعد سنوات طويلة، أخبرني أن ما ألهب حماسه، ودفعه للخروج في تلك الليلة الباردة أغنية "يا شعبنا في لبنان" ..
كلماتها بسيطة ومعبرة، نابعة من رحم المعاناة، متخففة من الأيديولوجية، خالية من أي مديح للسلطان، العدو فيها واضح، والمطلوب أشد وضوحا، كتبها شعراءٌ مناضلين، خرجوا من أزقة المخيمات، وعاشوا في الخنادق بين المقاتلين، وبألحانها الحماسية وأدائها الجماعي كانت تنفذ مباشرة إلى القلب، فتترك أثرا لا يُمحى، وظلت راسخة في اللاوعي الجمعي لجيل بأكمله، بعد أن ارتبطت بوجدانه، بل وشكّلته .. ولم يكن سر سحرها في بلاغة اللغة أو مجازاتها، ولا في سهولة اللحن وتدفقه، بل لأنها ارتبطت بالنضال الوطني، وعبّرت عنه بصدق، وكانت الوجه الآخر للبندقية، الأمر الذي جعل تأثيرها أقوى.
أغاني العاصفة هي التي جعلت الصوت الفلسطيني يتنفس بعد أن ظل حبيسا لسنوات طويلة، وحررته من قيود الكبت والقمع والوصاية، وأطلقت عنانه في كل الفضاءات، وحولته إلى صرخة حرة، وإلى إعلان سياسي يحمل كل معاني البلاغة والقوة والوضوح، فجاءت أغنية "طل سلاحي من جراحي" بمثابة تدشين لعصر الكفاح المسلح، والإعلان عن رفض الذل والهزيمة.
وقد ترافقت أغاني العاصفة مع البندقية والمقاومة الشعبية والنضال السياسي جنبا إلى جنب، فكان المقاتلون في استراحاتهم يتجمعون حول أحدهم وهو يعزف على آلته الموسيقية، أو يشدو بيرغوله، ويرددون من خلفه أغانيهم بشكل جماعي.
من الشعراء الذين كتبوا كلماتها: معين بسيسو، سعيد المزين، صلاح الدين الحسيني أبو الصادق، أحمد دحبور، محمد حسيب القاضي، كنعان وصفي، مريد البرغوثي، عز الدين المناصرة وغيرهم. ومن الملحنين حسين نازك، صبري محمود، طه العجيل، وجيه بدرخان، علي إسماعيل، مهدي سردانة، كنعان وصفي ورياض البندك، وقد أدتها ببراعة الفرقة المركزية لمنظمة التحرير. وهؤلاء يستحقون كل التقدير والتبجيل لأنهم لم يمثلوا حالة من الإيثار ونكران الذات وحسب؛ حين تنازلوا طوعا عن أهم ما يسعى إليه أي فنان، وهو حق الإعلان والإشهار، بل ولأنهم لم يكتفوا بالقتال بالكلمة واللحن، ولم يكونوا مجرد شهّاد على الحدث، بل مشاركين فيه، وصانعين له.
كانت كلمات الأغنية في أغلب الأحيان محرضة، كما في أغنية "فجّرلي قنبلتك في ليل حصارك"، أو تقوم بدور التعبئة الجماهيرية، كما في أغنية "مدي يا ثورتنا" و "فدائية" أو لضخ المعنويات في روح المقاتلين، كما في "شدو زناد المرتينة بصدر العدو"، أو لدعم الصمود والثبات في الأرض المحتلة: "أنا صامد"، أو لدعم صمود الأسرى في السجون الإسرائيلية: "اسأل عنا عسقلان"، أو لتكريم الشهيد: "جابو الشهيد"، وأحيانا معبرة عن حدث كبير، كما في "تركوا النهر لأعدائنا" التي عبرت عن أحداث أيلول، أو متابعة لحدث خاص ولكن مهم، كما في أغنية "مؤامرة" التي عبرت عن رفض مشاريع التسوية.
كان الشاعر يحرص على أن تكون كلمات الأغنية سهلة وواضحة، بالرغم من عمق المعنى وصعوبة تبسيطه، وصعوبة تلحين الكلمات السياسية، فيعمل الشاعر والملحن معاً على تطويع المفردات وتفكيك الشعار وترويض اللحن، ليكون له وقع السحر في آذان الفدائيين وأذهانهم، وقلوب الجماهير من حولهم، كما في أغنية: "كلاشنكوف خلّي رصاصك في العالي". أو تحويل الشعار إلى نص ملحَّن بكل عذوبة: "خذي دمي وهاتي انتصارات"، أو استعمال مفردات معينة لها مضمونها الخاص في الثقافة الشعبية: "يا نشامى شيلو شيل، وحرروها من الدخيل". وأيضا للحث على التضحية: "هذا شعب الفدائية الموت يزيده تضحيّة"، أو للدعوة لرفض الظلم واللجوء: "ارموا كروتة التموين"، أو لتحديد العدو المركزي بكل جلاء: "الشعب الفلسطيني ثورة، ثورة على الصهيونية"، أو للتغني بالبندقية والكفاح المسلح: "روحنا عالقواعد"، و "حين يصيح البروقي"، وفي بعض الأحيان
كانت الأغنية أشبه بتعليق سياسي: "مش منّا أبداً مش منّا، اللي يساوم على موطنّا". أو لتقوم بدور التوعية الوطنية في مواجهة فتنة معينة، كما فعلت أغنية "يا مفرّق بين الديرة، حنا أهل وعشيرة" في تأكيد التلاحم الجماهيري بين الفلسطينيين والأردنيين في بداية السبعينات.
بمعنى آخر، كانت الأغاني عبارة عن ترجمة وتوضيح لمبادئ ومنطلقات الثورة، وشرح ميسر لشعاراتها، صيغت ولُحِّنت بطريقة سلسة، تجعلها راسخة في وعي المستمع، مثلا: "حرب الجماهير كل الجماهير حربنا"، "قضيتنا ما يحلّها غير المارتين"، أو لتعبّر عن طبيعة المرحلة وأداتها النضالية: "حربنا حرب الشوارع"، وأحيانا تأتي كما لو أنها بيان سياسي متكامل: "فجّرنا الثورة في الخمسة وستين، ثورة طلاّب وعمّال وفلاحين"، "هذي الثورة عربية"، و "هذي الثورة للملايين، للّي شربوا الظلم سنين، للّي جاعوا للّي ضاعوا للّي عريوا للّي التاعو، لليتامى للثكالى، للّي بسوق الظلم انباعوا".
أغلبية الأغاني كُتبت باللهجة العامية، لتكون أقرب لنبض الشارع الفلسطيني، ومعبرة عن تفاصيل حياته وهمومه اليومية، استخدمت الكلمات الدارجة في المعجم الشعبي، ورغم ذلك لم تمثل نزوعاً إلى الإقليمية المحلية، أو انحرافاً عن الخط القومي. وبعضها كُتبت بالفصحى، لكن دون أن تفقد سمة البساطة وعذوبة اللحن؛ مثلا: "أنا يا أخي، آمنتُ بالشعب المضيّع والمكبّلْ، وأغنية: "إليكَ نجيءُ يا وطني"، التي صارت نشيداً يجمع بين سحر الشعر وروعة النغم، وأغنية: "إنني عدت من الموت لأحيا وأغنّي"، التي جعلت من المقاومة الشكل الجميل والصعب للحياة نفسها، وأعلت من شأن الحياة وقدسيتها؛ مقابل بعض الأغاني التي كانت منسجمة مع تلك المرحلة، إلا أنها احتوت على معاني تقلل من قيمة الحياة مقابل التضحية، مثل: "سنّوا عظامي سنّوها سنوها سيوف".
بعض الأغاني في البدايات كانت كما لو أنها مخصصة لفصيل معين: "غلابة يا فتح" ثم ما لبثت أن صارت أكثر شمولية، وتحكي بلسان الجميع: "فدائية وكل الجماهير فدائية".
كانت أغاني العاصفة تدل على مرحلة متقدمة من الوعي والنضوج السياسي، إذْ كانت تنشد للحرية، والكرامة، والدفاع عن الأوطان، ليس فيها دعوة للكراهية، أو أي تحريض مذهبي أو طائفي، تدعو للكفاح بروحه ومضامينه الثورية الإنسانية، فمثلا لم تتضمن التحريض على "اليهود" بوصفهم يهوداً؛ بل كانت تصفهم بالصهاينة والمحتلين: "ماشيين حتى النصر على الصهيونية"، ولم تدعو للشهادة والتضحية بحيث تقلل من قيمة الإنسان والحياة: "أنا أول القتلى وآخر من يموت".
لم تكن وظيفة أغاني الثورة مقتصرة على التعبئة وشحذ الهمم، بل كانت بحد ذاتها فعلا إنسانيا راقيا، صقلت نفسية المحارب، وارتقت بها، ونقتها من الشوائب، وخلصتها من نزعات الانتقام والعنف المجرد، لتأكد على أن الثورة ليست فقط بندقية ومقاتل، بقدر ما هي أغنية وقصيدة ولوحة وإبداع إنساني تدعو للتمسك بالحياة الحرة الكريمة، ومحاربة العنصرية والاحتلال والظلم، وبذلك أبرزت الجانب التقدمي الإنساني المشرق للثورة، الذي طالما حاول الإعلام الصهيوني طمسه وتشويهه.