يوميات معركة مخيم جنين.. اليوم الثامن (الإثنين) 8/4/2002: "نحن قوم لا نستسلم: ننتصر أو نموت"- النائب جمال حويل
بعد يوم عصيب وليلة مباركة وشرسة كانت تتوالى معلومات للمقاومين عبر أجهزة الراديو، وخاصة المحطات العبرية، تفيد أنه قبل معارك الليلة الماضية, حسب أقوال دان حالوتس (قائد سلاح الجو الصهيوني في حينه) بأن عدد القتلى في قوات الاحتلال الإسرائيلية كان سبعة جنود. كما سمع المقاومون بأن هناك شهيداً من قباطية، وبأن الدول العربية قدمت ثلاثمائة وثلاثين مليون دولاراً دعما للسلطة الفلسطينية، وغير ذلك من أخبار ذات علاقة قريبة أو بعيدة لمعركة جنين، نحو أن حزب الله يقصف مزارع شبعا بالصواريخ ويصيب جنوداً إسرائيليين، وأن قراراً دولياً يحمل رقم 1403 يدعو إلى الوقف الفوري لإطلاق النار، ووضع حد للإرهاب والعنف والتحريض، كما يدعو إلى سحب القوات الإسرائيلية من المدن الفلسطينية ومنها رام الله. ومن تلك الأخبار، أن الحصار آخذ في الاشتداد على الرئيس الفلسطيني في رام الله، لكنه، حسب المقربين منه، كان سعيداً بالمقاومة والتصدي في جنين ونابلس وبيت لحم.
في تلك اللحظات لم يعد الإحساس بالزمن مجدياً، فثمة مهمة واحدة نريد إنجازها ومن ثم نتفرغ لمعرفة الأيام: تلك هي مهمتنا، الانتصار على العدو. نعم، لم نعد نعرف أيام الأسبوع, ونعتقد أن الجنود الإسرائيليين يمكن أن يكونوا قد فقدوا الإحساس بالزمن كذلك, إذ حدثنا الأهالي بأن الجنود كانوا يسألونهم أي يوم في الأسبوع هذا اليوم أو ذاك، وفي راويات أكثر تفكيراً حالماً أن الجنود كانوا يسألونهم: "هل هناك ضغط دولي على الحكومة الإسرائيلية للانسحاب؟ وكم يوماً سنبقى في جنين؟"
في هذه الأثناء، كان المقاومون يتجمعون ويجمعون ما غنمته المقاومة من سلاح, ومعدات تركها الجنود الإسرائيليون الغزاة خلفهم، وقد رأيت بعضها مع الشهيد أشرف أبو الهيجاء. هنا، كانت المنطقة الغربية مفصولة بالكامل عن حارة الحواشين, التي كان أبو جندل يرابط فيها, ولم أتصور أن بوسع أبو جندل الوصول إلينا، لكننا كنا على اتصال دائم قبل وصوله إلينا. وقد بدأت القوات الإسرائيلية بتشديد الخناق على المقاومين والتقدم أكثر من حارة الدمج، وحارة أبو السباع، وتمت السيطرة على غرب المخيم وحارة السكة من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلية بعد القصف العنيف لكل البيوت وحرقها بالكامل، إذ تم التقدم من جورة الذهب وحارة السمران باتجاه حارة الحواشين، وكان أبو النائل-علي قصص قد استشهد وهو في بيته، وكان رجلاً مريضاً، ولم يتمكن أبناؤه ولا المقاومون من سحب جثته بعد استشهاده نتيجة لترصد القناصة وكثافة النيران.
وفي هذه الأثناء ونحن ننتظر أبو جندل، فإذا به يقطع الشارع الفاصل بين حارة الحواشين وحارة الراشد، دحرجة وبشكل رشيق لم نر مقاتلاً يتنقل بخفته وخبرته وقدرته على التحرك بهذا الشكل وهو يحمل بندقية الكلاشنكوف بيد واحدة، ويطلق النار من هذا السلاح ذي ردة الفعل القوية التي لا يتمكن أي مقاتل من احتمالها وهو يحمل البندقية بيد واحدة. وقد تعانقت وأبو جندل وبقينا معاً فترة من الوقت، وتبادلنا الآراء حول تكتيكات الهجوم والانسحاب المناسبة. وقد كان أبو جندل إذا سمع بتقدم القوات الإسرائيلية يبتهج كأنك تخبره بشيء سار, فهو لا يعرف الخوف, ويمتلك من الخبرة والحنكة ما يؤهله لأن يكون في هذا المقام، فقد واجه المحتلين في الحارة الغربية وحارة الدمج وحارة السكة وشارع الساحة وحارة الحواشين, وكان يمتلك قوة تنفيذية ضاربة.
هنا، واصلت قوات الاحتلال الإسرائيلية القصف من طائراتها ودباباتها، كما تقدم جرافاتها, وطالبت السكان (من عمر 15-50) عبر مكبرات الصوت بالاستسلام؛ كما طالبت تسليم المقاومين وسلاحهم, وعدم السماح لهم بدخول البيوت وإلا سيقصف البيت ويهدم على من فيه. وفي هذه الأثناء، كنت برفقة نضال النوباني, وعبد الله حويل, ومحمد خريوش, وعماد عامر, وعطا أبو ارميلة, وبشار حواشين, وعمر أبو الشريف, ومحمد عامر, وعماد النوباني, وأحمد أبو جلدة, وإبراهيم جبر, وأبو موسى الحلاجي, وعبد الحليم عز الدين, وكمال الصباح , وإياد العزمي، وآخرين ربما أكون قد نسيتهم... حيث بدأ المقاومون الانسحاب إلى حارة الحواشين، وبدت الأزقة صعبة المرور بسبب كثرة ما أطلق عليها من القذائف والصواريخ، وما كان فيها من أسلاك رفيعة متراصة, وكان علينا الحذر أثناء السير في الأزقة خشية من أن تودي بنا تلك الأسلاك.
هذا، وقد وصل إلى مسامع المقاومة بأن جيش الاحتلال الإسرائيلي قد أعدم خمسة مواطنين عزل بدم بارد أمام أسرهم، وتبين أن من الضحايا: الشهيد وضاح فتحي شلبي, والشهيد عبد الكريم السعدي، وأبو الزكي فتحي الشلبي الذي تظاهر بأنه ميت، فأنجته حيلته, أما أبو عمر الزرعيني، فقد أصيب ولم يستشهد. وفي هذه الليلة، وتحديداً بعد صلاة العشاء، تواجدت مع مجموعة من المقاومين قي بيت الأستاذ جمال القنبع, حيث كان المقاومون في هذه الفترة مضغوطين، إذ تكثَّف القصف وعمليات الهدم على أطراف المخيم. وكنت آنئذ أمر من أحد الشبابيك بعد قدوم مروحية، وبدأت بتمشيط المكان بكثافة نيران هائلة, فحاولنا الاختباء في منزل أبو نضال النوباني، وبمجرد دخولي من الشباك حتى تبعني ما يقارب خمسين مقاوماً وكان الكل يعتقد أنه بأمان, وكنا نرى الموت أمام أعيننا كل لحظة. وفي هذه الأثناء حاولت مع مقاوم آخر هو محمد خريوش, وبرفقة عبد الرحيم فريحات, وعلاء الصباغ, ونضال نغنغية, ونضال النوباني أن نخرج باتجاه فرندة في البيت، فإذا بكف الجرافة يضرب الفرندة وكأنها لم تكن، فصرنا جميعاً في فم الموت!
عودة إلى الأجواء العامة للمعركة، داخلاً وخارجاً، كانت المعارك تشتد وتزداد ضراوة في نابلس وجنين، وحصار كنيسة بيت لحم في طريق مسدود, وكان جيش الاحتلال الإسرائيلي محبطاً لعدم القدرة على دخول مخيم جنين ومدينة نابلس, وكانت الصواريخ والقذائف الإسرائيلية تمطر المخيم، إذ في يوم واحد تم إلقاء ما يقارب 130 صاروخاً، وكان الأهالي، وأحياناً المقاومون، يعدون للصاروخ حتى يصل 1، 2، 3.....10! هنا، بدأ الإعلام يسلط الضوء بشكل أكبر على معركة مخيم جنين، كانت الأخبار متضاربة حول عدد الشهداء والجرحى الفلسطينيين, وعدد القتلى والجرحى الصهاينة. في هذه الأثناء، تكثف تشريد الأهالي وازدادت عمليات طردهم من بيوتهم إلى قرى قريبة مثل: رمانة والطيبة وزبوبة وكفر دان, ومقر الهلال الأحمر في جنين، ومباني المدارس الحكومية، وعند الأقارب في المدينة.
وفي هذا اليوم، استشهد القائد القسامي محمود الحلوة بالخطأ, وكان قد شارك قبل استشهاده بساعات في اشتباك مع مجموعة من المقاومين مع جنود بالقرب من بيت المرحوم حسن أبو ناعسة، وكان الشهيد الحلوة جسوراً شديداً في المقاومة. وقد تفاجأ الجميع به من حيث أنه بعد عودته "للحياة الطبيعية" (إذ تزوج وفتح دكاناً خاصاً به, وخاصة بعد إصابته في الانتفاضة الأولى إصابة بالغة)... لم يلبث أن عاد إلى صفوف المقاومة حين بدأت الاجتياحات لمخيم جنين. لقد كان يرتدي في المعركة زياً عسكرياً وخوذة على رأسه، فقام أحد المقاومين من الأمن الوطني بإطلاق النار على بطنه وصدره ظناً أنه من القوات الإسرائيلية المعادية، فخر على الأرض، وكان بجواره "سدر" ألمنيوم، فأخذ بثنيه بصورة أشبه للهستيرية من شدة الألم. وقد طلب منه المقاوِم أن يسامحه وسامحه. وكان هذا بالقرب من منزل الشهيد فواز الدمج. ولم يتم العثور على جثة الشهيد محمود الحلوة بعد انتهاء المعركة، ويعتقد أنه تم هدم البيوت فوقها وجرفها من مكان إلى مكان, إلا أن الأهالي وجدوا جمجمة ويعتقد أنها تعود له.
وفي نهاية هذا اليوم، بدأ الخناق يشتد أكثر وأكثر, والتموين ينفذ رغم عدم الشعور بالجوع أو العطش, وبدأ المقاومون يسمعون بأخبار جنين تزداد انتشاراً محلياً وعالمياً, وكنت بشكل خاص على تواصل مع القيادة والإعلام، وكان الكل يقول لنا اصبروا واصمدوا هناك حلول... هناك تحرك دولي... هناك قرار 1402... هناك قرار بعده ... والكل يدعو إلى وقف العنف، ولكن على أرض المعركة، ولا وقوف ولا تراجع!
يتبع ...