مستعمرون يقطعون عشرات الأشجار جنوب نابلس ويهاجمون منازل في بلدة بيت فوريك    نائب سويسري: جلسة مرتقبة للبرلمان للمطالبة بوقف الحرب على الشعب الفلسطيني    الأمم المتحدة: الاحتلال منع وصول ثلثي المساعدات الإنسانية لقطاع غزة الأسبوع الماضي    الاحتلال ينذر بإخلاء مناطق في ضاحية بيروت الجنوبية    بيروت: شهداء وجرحى في غارة إسرائيلية على عمارة سكنية    الاحتلال يقتحم عددا من قرى الكفريات جنوب طولكرم    شهداء ومصابون في قصف للاحتلال على مناطق متفرقة من قطاع غزة    "فتح" تنعى المناضل محمد صبري صيدم    شهيد و3 جرحى في قصف الاحتلال وسط بيروت    أبو ردينة: نحمل الإدارة الأميركية مسؤولية مجازر غزة وبيت لاهيا    ارتفاع حصيلة الشهداء في قطاع غزة إلى 43,846 والإصابات إلى 103,740 منذ بدء العدوان    الاحتلال يحكم بالسجن وغرامة مالية بحق الزميلة رشا حرز الله    اللجنة الاستشارية للأونروا تبدأ أعمالها غدا وسط تحذيرات دولية من مخاطر تشريعات الاحتلال    الاحتلال ينذر بإخلاء 15 بلدة في جنوب لبنان    شهداء ومصابون في قصف الاحتلال منزلين في مخيمي البريج والنصيرات  

شهداء ومصابون في قصف الاحتلال منزلين في مخيمي البريج والنصيرات

الآن

كانت طائرة أبو عمار ترمز إلى القضية الفلسطينية التي حاولوا إلقاءها في صحراء النسيان

يحيى يخلف

الاهداء

في ربيع الشجاعة والبطولة تزهر ذكرى الشهداء في قلوبنا.

العقيد طيار محمد درويش، العقيد طيار غسان ياسين، المهندس طيار تيودور جيورجي.

اليهم.. اهدي هذا الكتاب

«يحيى»

الفصل الأول

العاصفة

كان وقت الغسق، ولكن في هذه الصحراء الكبرى وفي مثل هذا الفصل، فان المرء في هذا الجو السديمي لا يستطيع ان يميز الغسق من الظهيرة.

كان العقيد عبد الرحيم يجلس على الكرسي امام غرفته، يراقب نبتة (مسلك الليل) التي اورقت واينعت، وظهرت على اغصانها البراعم، كان يحاول ان يتخيل رائحة الكالونيا التي ستطلقها النبتة عندما تتفتح براعمها وتزهر.

لم يكن يتصور عندما احضرها له مقاتل انهى اجازته وعاد من القاهرة، ان تلك النبتة الطرية العود يمكن ان تصمد في هذا الجو القاسي، لم يكن يخطر بباله ان شتلة رقيقة، شديدة الحساسية يمكن ان تظل خضراء في حقول الرياح هذه الرياح التي لا تجيد القراءة خاصة عندما تكون شمالية وقادمة من عمق المنطقة المحاذية منطقة السيوف الرملية. ولكنها عاشت على الرغم من تلك، عاشت، وضربت جذورها عميقا في التربة الرملية، وامنتدت سيقانها واذرعها واخضوضرت اوراقها، فما كان منه الا ان رفعها على جدار الغرفة، وتركها تتعربش موقنا بأنها ذات يوم، ستغطي الجدار. جاء له الجندي عادل بابريق الشاي، ووضعه امامه وانصرف دون ان يفسد عليه خلوته، وحاجته الى التأمل.

واذ ذاك قام العقيد عبد الرحيم بنفسه بصب الشاي فملأت انفه رائحة النعناع المتصاعد مع البخار شرب رشفة ورفع رأسه الى الفضاء.. هناك كان سرب من الحمام يقوم برياضته المفضلة في مثل هذا الوقت فيسبح في الافق قبل ان يحل الظلام ويعود الى اعشاشه.

لم تكن هناك طيور داجنة في هذه الصحراء قبل مجيء المقاتلين الفلسطينيين اليها، فهي صحراء شرسة لا يعيش فيها الا الثعالب والفئران البيضاء والصقور والعقارب الصغيرة ذات اللسعات المميتة، لكن سرعان ما تم ترويض هذه الفيافي، فتحولت الخيام الى بيوت، وتحولت الانارة من فانوس الكاز الى الكهرباء، وجلبت المياه من البئر القريبة، فزرعت المزروعات والاشجار الصغيرة، ودبت الحياة في هذا القفر، واقيمت هنا وهناك ابراج الحمام، ولامست اجنحة هذه الطيور البيضاء الرياح الدافئة، والرياح الباردة، والرياح التي تهب من امام، ومن خلف، ومن شمال، ومن جنوب..

كان سرب الحمام يذرع الفضاء بحركات رشيقة، غير عابئ بالريح التي بدأت تنشط، حاملة معها ذرات الرمال الناعمة، وفجأة، عبس العقيد عبد الرحيم، فقد ظهر صقر من نوع البرناس الذي يأتي من اعماق الصحراء، ظهر في الفضاء على الجانب الآخر، يحلق على ارتفاع عال، ويفرد جناحيه على سعتهما.

تذكر العقيد عبد الرحيم المشهد الذي رآه الاسبوع الفائت، فقد انقض صقر البرناس على حمامة فضربها بجناحه الذي يشبه الفولاذ وافقدها توازنها، وعندما ترنحت، وبدأت تسقط، انقض عليها وامسكها بمخالبه قبل ان تقع على الارض، وطار بها، وابتعد وراء تلك السيوف الرملية البعيدة.

ويبدو ان سرب الحمام الذي لا يعوزه الحذر قد لاحظ وجود الصقر في مكان ما، فاندفع بغريزة حب البقاء متوجها الى ابراجه وبقي الصقر في الفضاء وحيدا..

ظل يفرد جناحيه ويسبح في الفضاء..

مرت برهة قصيرة.. وفجأة، رفرف الصقر الاسود، رفرف باضطراب، وربما بذعر واندفع يطير على غير هدى هنا وهناك.. ما الذي سبب له كل هذا الذعر!!.. تناول العقيد من جيبه علبة سجائره، اخرج واحدة، ووضعها في فمه واشعلها وعند ذلك جاء جندي الحراسة، وهتف: انظر يا سيدي.

نظر العقيد الى حيث اشار الجندي، فهاله ما رأى.. كانت غيمة عملاقة تسد الافق، سحابة سوداء تقترب زاحفة من وراء السيوف الرملية، تحمل الغبار، وتدور على شكل زوبعة، وتخلف حولها ما يشبه الليل.. كانت تقترب بسرعة ليس لها نظير.

وقف العقيد على الفور، كانت اصوات الرياح التي تتقدم مدججة بذرات الرمال تنبئ عن اعصار وشيك.. وقف، ودخل غرفته، دخل واغلق الباب، واحكم اغلاق النافذة الوحيدة، والتي تطل على ملعب كرة القدم، اغلق النافذة جيدا، واشعل الضوء.

جلس وراء مكتبه، واتصل بالمناوب في غرفة الاشارة طالبا منه تنبيه جميع المواقع بأخذ الحيطة والحذر، ويبدو ان العاصفة قد وصلت.. وصلت تماما، فها هي الرياح تكاد تخلع سقف الغرفة المصنوع من الزنك.

ما الذي يحدث تساءل العقيد عبد الرحيم.. اي شيطان افلت من عقاله؟!!

رن جرس الهاتف العسكري، فرفع العقيد السماعة، كانت مكالمة من غرفة عمليات المطار القريب، وكانوا يطلبون عددا من السيارات لتنضم الى سيارات المطار لاضاءة المدرج، فهناك طائرة ستحاول الهبوط الاضطراري في هذا الجو العاصف.

كانت الرؤية معدومة في الخارج، ولم يكن مطار السارة القريب مجهزا بالانارة والخدمات الليلية.

اعاد العقيد السماعة الى مكانها، وفكر للحظات اي حظ عاثر هذا الذي يجعل طائرة تهبط في هذا المناخ الجارح؟ لم يكن مطار السارة يستقبل سوى رحلات نهارية لطائرات قليلة، اغلبها ينقل المجازين من القوات، او ينقل لها التموين الطازج، ولم يسبق له ان استقبل طائرة واحدة في الليل!! وانتبه العقيد عبد الرحيم الى ان السيجارة ما تزال بيده، فنفض رمادها، ثم اطفأها.. او لعله سحقها في المنفضة بحركة عصبية، واذ ذاك رفع سماعة الهاتف وتحدث مع العميد خالد سلطان قائد القوات.. ثم جلس وراء المكتب، وطلب من البدالة ان تربطه بالقسم الفني، وامر الضابط المناوب بتحريك السيارات المتوفرة الى المطار.

بعد ان وضع سماعة الهاتف للمرة الثانية شعر كأن الرمال تملأ انفه ورئتيه. احس بأن الجو الثقيل قد اناخ على روحه، وتذكر نبتة مسك الليل، وايقن ان الرياح ستنتزع براعمها التي بدأت تبزغ وهكذا فان عليه ان ينتظر شهورا عديدة قبل ان تبزغ براعم جديدة وقبل ان تطلق زهورها رائحة الكولونيا العطرة.

رن جرس الهاتف من جديد، كان هناك متحدث من موقع القوة الخاصة الرابعة.. سيارة لاند كروزر التابعة للقوة ضلت طريقها في جو العاصفة، ولم تعد بعد..

هز رأسه، لا بد ان الكثيرين ايضا سيفقدون طريقهم في هذه الليلة.. ولكن ما الذي يجعل الطائرة تلح في السماح بالهبوط على مدرج غير مجهز بالانارة الليلية؟ ايكون قد اصابها عطب مفاجئ، فكان مطار السارة هو اقرب المطارات اليها؟

كثرت الاسئلة واحس بشيء من القلق والضيق، وود من اعماقه لو ان احدهم يطرق الباب ويدخل الى غرفته.. كان بحاجة الى من يشاركه في حديث الاحتمالات كان بحاجة الى جرعة كبيرة من الهواء.

طرق الباب بعد وقت قصيرة ودخل على الفور الدكتور عبد الرحيم المزين، الفنان التشكيلي، الذي جاء منذ ايام في زيارة للقوات.. دخل وقد علقت ذرات الرمال بثيابه وفوق شعره..

جلس واخذ يتكلم.. استمع العقيد عبد الرحيم اليه وتجاذب معه اطراف الحديث.. رن جرس الهاتف.. رن فجأة، على الطرف الآخر المقدم صيدم يسأل عن موضوع الطائرة. اجابه العقيد انها من نوع انتينوف.. ولكنها مجهولة الهوية. طلب المقدم صيدم انارة الاضواء الخارجية لكي يتمكن من الوصول. قال انه وثلاثة من رفاقه حاولوا الحضور وبعد خطوات قليلة عادوا ادراجهم اذ لم يستطيعوا تبين ملامح الطريق.

طلب ان تضاء لهم الانوار لكي يكون باستطاعتهم معرفة الاتجاهات خوفا من الضياع والوقوع في براثن حقول الالغام.

اجابه العقيد لا نستطيع الاضاءة الآن، حتى لا نربك الطائرة..

لن يكون مضاء في هذه اللحظات الا مدرج المطار القريب.

وضع سماعة الهاتف، لم يعد من وسيلة للاتصال سوى هذا الهاتف في هذا الجو المتوتر.

- هل تعتقد ان عليها احدا من جماعتنا؟

تساءل الفنان، فازداد قلق العقيد عبد الرحيم، كان يهرب من فكرة سوداء ألحت على مخيلته.. كان يحاول ان يلقي بعيدا بهواجسه الثقيلة.

- هل تعتقد حقا ان احدا من جماعتنا على متنها؟

اجاب العقيد بصوت منخفض.. لا ادري.. لا ادري.

 

العميد خالد يقول

في حوالي السادسة والنصف طلبت منا العمليات الليبية مجموعة سيارات بهدف انارة مهبط الطائرات، اذ ان المطار كانت تعوزه الانارة الليلة.

ابلغونا ان هناك طائرة من نوع انتينوف تريد ان تهبط بعد الغروب.

تابع العقيد عبد الرحيم الموضوع، وكنت اجلس في مكتبي استمع الى المذياع وانتظر موعد نشرة مونت كارلو اللتي تبث عادة الساعة السابعة مساء.

قبل السابعة بقليل هبت العاصفة الرملية التي لم نشهد لها مثيلا من قبل، وخيل اليّ انها ستقتلع السقف، فأحكمت اغلاق النوافذ، وقلت في نفسي لعلها عاصفة عابرة سرعان ما تنتهي ويعود للفضاء صفاؤه.

رن جرس الهاتف اكثر من مرة، وتحادث معي العقيد عبد الرحيم، وضابط الارتباط، ثم طمأنني على حسن سير الامور المتعلقة بالسيارات..

ومر وقت لا ادري ان كان قد طال ام قصر، ولكني استيقظت من شرودي على طرق الباب. دخل الدكتور عبد الرحمن المزين، فتحدثنا عن موضوع الطائرة التي تحاول في هذه اللحظات الهبوط، وعن الصعوبات التي قد تواجهها.

اطرق الدكتور عبد الرحمن قليلا ثم رفع رأسه وقال:

- قلبي يحدثني انها طائرة الاخ الرئيس ابو عمار.

استبعدت ذلك، خاصة وان الطائرة التي كان يستعملها الاخ ابو عمار آنذاك، كانت طائرة نفاثة صغيرة وليست طائرة انتينوف، ثم انه كان لدي معلومات اعتبرها سرية ومكتومة مفادها ان طائرة الاخ ابو عمار اثناء عودته من السودان ستهبط في الكفرة وليس في السارة.

وعلى الرغم من ذلك، فقد انتقل الي القلق بعد حين.

توجست خيفة، وفعلت كلمات الدكتور عبد الرحمن فعلها في مخيلتي، كبرت الهواجس، وتوالت الخواطر السوداء، وفي تلك اللحظة شعرت بأن العاصفة الهوجاء في الخارج ترفع سقف مكتبي ثم تحط به، شعرت كأن الرمال الهوجاء ستقتلع كل شيء من جذوره.

كانت العاصفة تسيطر على الجو، نظرت من شق في النافذة، كانت الرياح مثل النيران تأكل بعضها البعض.

الرؤية تكاد تكون معدومة، لكن كلمات الدكتور عبد الرحمن ما زالت تملأ سمعي، فقررت على الفور الخروج الى المطار وامرت الملازم اول ناهض قائد سرية الشرطة العسكرية بأن يكون جاهزا وبصحبته اربعة من افراد الشرطة بأسلحتهم الكاملة للخروج في مهمة اضطرارية دون ان احدد له الهدف. كما طلبت من المقدم رسمي محارب بأن يلتحق بي الى منطقة العمليات الليبية.

قدت السيارة بنفسي وكان الدكتور عبد الرحمن يجلس الى جانبي، الرؤية كانت معدومة. شققت طريقي بصعوبة وسط هذه الغيمة الجهنمية السوداء التي سدت الافق وامتدت من الارض للسماء.

مررت على موقع الشرطة العسكرية واخذت قائد السرية وجنوده، صعدوا الى الصندوق الخلفي.

مشيت على غير هدى، التمس الطريق في هذا الجو الذي لم يسبق ان مر علينا مثيل له من قبل.

مر الوقت ثقيلا وبطيئا، وحين وصلت مدخل المطار أخذت اتجول يمينا ويسارا دون ان استطيع معرفة الاتجاهات، الى ان وجدنا سيارة ليبية امامنا، هبط رجل منها وطلب منا ان نطفئ النور، لان التعليمات التي لديه ان تطفأ الانوار، ولا يبقى سوى اضواء السيارات المكلفة بإضاءة المدرج. اطفأت نور السيارة، وتحسست طريقي بصعوبة الى غرفة العمليات الليبية.

كان المقدم رسمي قد وصل، وهناك كان مجموعة من الضباط الليبيين يتابعون.

سألناهم عن المعلومات المتوفرة لديهم فقالوا انها طائرة ليبية من نوع انتينوف وقد توجهت مضطرة الى مطارة السارة، ونحن نتخذ الآن الاجراءات اللازمة لهبوطها.

كانت آنذاك خمس عشرة سيارة تصطف على جانبي المهبط، تصطف على شكل سهم مقلوب سبع سيارات عن يمين الممر، وسبع عن يساره، وواحدة في الخلف تشير الى مكان الهبوط.

كان من الواضح ان العاصفة لن تمكن الطائرة من الهبوط، فالرؤية تكاد تكون معدومة كما سبق ان قلت، والضوء لا يرى من خلال طبقات الرمال الكثيفة المنتشرة في الجو.. كانت العاصفة الشديدة تهب بسرعة ستين عقدة في الساعة، لذلك ساد الوجوم.

سألتهم: هل غرفة المراقبة الارضية في وضع العمل؟

قالوا: نعم..

قررت عند ذلك التوجه الى غرفة العمليات الارضية، وصلنا بصعوبة.. في البداية ضللنا الطريق، ولكننا وصلنافي نهاية الامر.

في غرفة المراقبة الارضية اطلعوني على الاتصالات التي تمت مع الطائرة ولم يكونوا على علم بهوية ركابها، دققت في الكشف الذي سجلت عليه الاتصالات التي تمت مع الطائرة على مختلف الارتفاعات والمسافات والزوايا.

طلبت منهم تقديرا للموقف.. كان القلق باديا على الوجوه. لم يقولوا شيئا، ولكن الباب كان مفتوحا امام اسوأ الاحتمالات.

 

الطائرة في الجو

في تلك اللحظات كانت الطائرة تدور على ارتفاع منخفض.. الكابتن محمد درويش ومساعده الكاتبن غسان ياسين يحاولان رؤية انوار السيارات المصطفة على جانبي المدرج. ومرافقو الرئيس ابو عمار يحدقون من نوافذ الطائرة، يحاولون ايضا رؤية بصيص ضوء.

كانت الطائرة قد خرجت لتوها من منطقة مطبات هوائية سيئة، رفعتها الرياح الى اعلى، وانزلتها الى اسفل، وهزتها يمينا وشمالا، فكأنها ريشة في مهب الريح.

ربط الجميع احزمتهم وجلسوا ينتظرون خروجهم من منطقة المطبات هذه، كانت الطائرة قادمة من السودان الى تونس عبر ليبيا، وكان في برنامجها التوقف في مطار واحة الكفرة بالجنوب الليبي لتتزود بالوقود، لكن برج المراقبة في المطار ابلغ قائد الطائرة ان الرؤية صعبة وهي آخذة بالتناقص والتلاشي.. كانت الرؤية في البداية ثلاثمائة متر، ثم صارت مائتي متر، وبعد قليل اصبحت مائة وخمسين مترا.. الرؤية ليست واضحة، ولن تتمكن الطائرة من الهبوط في مثل هذا الجو، فثمة عاصفة رملية تهب على منطقة الكفرة وتلفها بما يشبه الضباب.

نصح برج المراقبة قائد الطائرة بأن يتوجه الى مطار السارة الذي يبعد حوالي ثلاثمائة وخمسين كيلومترا.

سألهم قائد الطائرة عن الرؤية في مطار السارة، فقالوا انها جيدة.

سارت الامور في البداية بشكل طبيعي. الرئيس يجلس في الكابينة المخصصة له وراء طاولة واسعة، يضع على عينيه نظارة القراءة، ويستغرق في قراءة اوراقه.

قائد الطائرة ارسل من يبلغ الرئيس انه سيتوجه الى مطارة السارة بسبب عدم صلاحية مطار الكفرة للهبوط حيث الاحوال الجوية سيئة.

الرئيس يضع نظارته جانبا، ويقف، ويتوجه الى غرفة القيادة. كل شيء هادئ، الكابتن محمد قائد الطائرة يجلس على الشمال، ومساعده الكابتن غسان يجلس على اليمن وفي الوسط يجلس المهندس الروماني.

دار حوار قصير، اقترح الرئيس عليهم التوجه شمالا بدلا من الانحراف نحو مطار السارة لكن الكابتن محمد اجابه بأن تعليمات برج المراقبة في الكفرة هي التوجه الى السارة حيث الرؤية جيدة، وتقدر بحوالي خمسة آلاف متر.

ابتسم لهم الرئيس وهز رأسه قليلا: توكلوا على الله، ثم عاد الى مكانه، وتحادث قليلا مع فتحي البحرية، وبعد ذلك عاد مرة اخرى الى اوراقه.

الطائرة غيرت اتجاهها نحو السارة، الكابتن غسان والمهندس خليل الجمل يعرفان منطقة السارة جيدا، فقد سبق لهما ان عملا على نقل مواد تموينية من طرابلس الى قوات القدس في السارة.

والكابتن محمد ظل هادئ الاعصاب، انه يثق بمساعديه جيدا، كما انه يثق بطائرته، ويحبها. بدأت المشكلة الاولى وهي تتعلق بالاتصال.. فقد ظلت الكفرة هي صلة الوصل ما بين الطائرة ومطار السارة.. ظل برج الكفرة هو الواسطة بين الطائرة والسارة. طلب الكابتن محمد من البرج ان يطلب من السارة تشغيل جهاز الملاحة الارضية وتشغيل الرادار ليتسنى له معرفة منطقة المدرج، فوعدوا بتحقيق ذلك.

المساء يقترب، والوقت اصبح وقت الغروب.

كان الكابتن محمد ومساعداه يعرفون ان السارة ليس مطارا بالمعنى الفعلي للكلمة، وانما هو مدرج صغير غير مجهز بالانارة الليلية، ولا يستقبل سوى طائرة او طائرتين في الاسبوع، فطلب من الكفرة ابلاغ المسؤولين في السارة ان ينيروا المدرج بواسطة السيارات، وطلب منهم ان امكن ربطه بجهاز اللاسلكي التابع لقوات القدس الفلسطينية الموجودة على مقربة من المطار.

دخل ماهر من طاقم سكرتارية الرئيس كابينة القيادة ليستفسر عن الوضع ولينقل الصورة، وكان الكابتن محمد يطلب من الكفرة مرة اخرى ربطه بقيادة قوات القدس في السارة.

لقد عمل ماهر في الماضي على جهاز اللاسلكي، فاقترح على الكابتن محمد ان يحاول استخدام جهاز الطائرة للدخول على الموجة التي تستعملها قواتنا، لكن جهاز الطائرة قديم، وتدخل المهندس خليل الجمل وحاول ان يفتح الجهاز على موجهة تردد جهاز اللاسلكي بالسارة، وبعد ان فحص الجهاز قال انه لن يستطيع العودة الى العمل قبل خمس واربعين دقيقة.

لم يكن هناك وقت.. برج المراقبة في الكفرة اعاد الاتصال، ابلغ الكابتن محمد ان السيارات المضيئة قد وضعت على طرفي مدرج السارة، وانهم ينتظرون.

عند ذلك وقعت الطائرة في شرك الرياح المجنونة، دخلت وسط العاصفة التي اشتعلت فجأة وملأت الافق بما يشبه الدخان.

اضاءت اشارة ربط الاحزمة والكف عن التدخين، وهرع المهندس علي غزلان يتفقد الشباب، ويدقق في التزامهم بربط الاحزمة واطفاء السجائر.

المهندس علي غزلان مسؤول عن صيانة الطائرة، فمنذ العام 83، اي منذ ان اصبحت ملكا لمنظمة التحرير ظل مسؤولا عن صيانتها وصلاحها، وفي مثل هذه الظروف كان مسؤولا عن الامن داخل الطائرة.

واسرع المهندس علي غزلان وايقظ المصور الصحافي محمد الرواس الذي كان مصابا بالحمى..

قال احدهم: دعه نائما لا توقظه.

قال آخر: بل يجب أن يوقظه.. الا ترى ماذا يحدث؟ كانت المطبات من الخطورة بحيث اهتزت لها كل اطراف الطائرة، فكانت تصعد وتهبط وتميل يمينا وشمالا كأنها تترنح، كأنها على وشك السقوط..

عاد المرافق خلدون سريعا الى مقعده، وربط الحزام، خلدون لديه المام بالطيران، فقد نجح في دورة طيار خاص في العام الماضي، وكان يعد نفسه لمواصلة دراسته. كان قد ذهب يستفسر من ماهر عن احوال الطائرة، لم يكن قلقا، ولكنها غريزة حب الاطلاع.

عند ذلك دخل جهاد الغول كابينة القيادة ابتسم له الكابتن محمد على الرغم من كل شيء، في حين ظل الكابتن غسان الذي تتميز شخصيته بالجدية والرصانة، ظل صامتا. اما المهندس الروماني فقد رفع يده بالتحية.. كانت صداقة طيبة تربط ما بين جهاد والمهندس الروماني، ففي طريق الذهاب وعند توقف الطائرة في الكفرة، هبط المهندس الروماني وجمع من ارضية المطار باقة من الورود البرية الحمراء، ووضعها في مزهرية امامه، وفي رحلة الاياب، وقبل الاقلاع من مطار الخرطوم قام جهاد الغول بجمع باقة من الفل، وعندما اقلعت الطائرة واصبحت في الفضاء، واطفئت اشارة ربط الاحزمة، قام جهاد ودخل الكابينة وقدم له باقة الفل، فأخذها المهندس العجوز وهو يضحك، ووضعها في المزهرية جنبا الى جنب مع الورود الحمراء. كان المهندس الروماني قد التحق بهم حديثا، جاء ليشرف على صيانة الطائرة ولم يسبق له ان سافر بها في مهمة مع الرئيس بل انه لم يكن يعلم عندما طلبوا منه الاستعداد ان الرئيس سيكون على متنها.. كل ما كان يعرفه ان شخصية مهمة ستكون في الطائرة.. وهكذا، عندما شاهد الرئيس يدخل الطائرة في مطار تونس فوجئ، وصافح الرئيس بفرح وفخر، وعبر عن فرحه فيما بعد باشاعة جو من المرح بين زملائه، بل انه بالغ في الاهتمام بأناقته، وحرص على ان يزين كابينة القيادة بباقة من الزهور، ودون ان تغادر الابتسامة شفتيه قال الكابتن محمد:

- عد الى مقعدك يا اخ جهاد.

تداعت الافكار في ذهن خلدون بينما كانت الطائرة تضطرب وتصارع الرياح. تذكر اصعب منطقة مطبات هوائية عبرها بصحبة الرئيس، كان ذلك بين كوريا والصين، وقد امتدت ثلاث ساعات متواصلة بلا انقطاع.. كان يعتقد انه لن يواجه مثل تلك الساعات الرهيبة بعد ذلك، لكن ما يجري في هذه اللحظات يفوق تلك الساعات خطرا ورهبة.

انتشر القلق اكثر فأكثر، وبدأ المرافقون يتساءلون، دار حوار بين خلدون والمهندس علي، وكان المرافق جهاد الغول يستمع:

- كم تحتاج الطائرة لتطير بشكل شراعي؟

- اذا كانت على ارتفاع اربعة آلاف متر في الجو، فإنها تعمل سبعين كيلومترا بشكل شراعي.

ثم اضاف:

- لا تخافوا.. ان طائرة (انتينوف) هذه تستطيع ان تحط في اي مكان.. تستطيع ان تهبط في شارع.. في منطقة رملية.. انها اكثر الطائرات امانا. قال ذلك وابتسم على الرغم من الجو الذي تخيم عليه الريبة. كانت علاقة حميمة تربطه بهذه الطائرة التي ظل يرعاها ويحدب عليها منذ العام 83.

أفاق المصور محمد الرواس متعبا، كان قد عانى طوال الساعات الثلاث الماضية من الاسهال والتقيؤ، وتلقى علاجا سريعا من الدواء، ووضع له المهندس خليل كمامة الاوكسجين، فساعده ذلك على النوم. طوى ثلاثة كراسي، ونام فوقها، وعندما ايقظه المهندس علي، لاطفه وسأله عن صحته، ثم طلب منه ان يجلس ويربط الحزام.

كان اذ ذاك يعاني من العطش، اذ فقد جسمه الكثير من السوائل، وصدف ان مر بجانبه في تلك اللحظة ماهر الذي كان ينتقل ما بين الرئيس وقيادة الطائرة.

توقف ماهر قربه وسأله ان كان يحتاج الى شيء، فطلب كأسا من الماء.

احضر له ماهر كأس الماء، شربها وبدأ يستعيد قواه. لاحظ ان الطائرة مضاءة من الداخل، وهذا يعني ان الظلام قد حل.. لم يكن يعلم ما الذي جرى. سألهم:

- هل تزودنا بالوقود من مطار الكفرة؟

اجابه احدهم: لم نهبط في الكفرة.. نحن ذاهبون الى السارة.

نظر اليهم، ورأى القلق الذي يرتسم على الوجوه، ولاحظ اهتزاز الطائرة فأحس عندها ان وضع الطائرة غير طبيعي.

كان متعبا كان يرغب في غفوة اخرى لكنه جاهد لكي يمنع نفسه، كان يردد لنفسه اذا كان لا بد من الموت، فليمت المرء مفتوح العينين.

ha

إقرأ أيضاً

الأكثر زيارة

Developed by MONGID | Software House جميع الحقوق محفوظة لـمفوضية العلاقات الوطنية © 2024