مستعمرون يقطعون عشرات الأشجار جنوب نابلس ويهاجمون منازل في بلدة بيت فوريك    نائب سويسري: جلسة مرتقبة للبرلمان للمطالبة بوقف الحرب على الشعب الفلسطيني    الأمم المتحدة: الاحتلال منع وصول ثلثي المساعدات الإنسانية لقطاع غزة الأسبوع الماضي    الاحتلال ينذر بإخلاء مناطق في ضاحية بيروت الجنوبية    بيروت: شهداء وجرحى في غارة إسرائيلية على عمارة سكنية    الاحتلال يقتحم عددا من قرى الكفريات جنوب طولكرم    شهداء ومصابون في قصف للاحتلال على مناطق متفرقة من قطاع غزة    "فتح" تنعى المناضل محمد صبري صيدم    شهيد و3 جرحى في قصف الاحتلال وسط بيروت    أبو ردينة: نحمل الإدارة الأميركية مسؤولية مجازر غزة وبيت لاهيا    ارتفاع حصيلة الشهداء في قطاع غزة إلى 43,846 والإصابات إلى 103,740 منذ بدء العدوان    الاحتلال يحكم بالسجن وغرامة مالية بحق الزميلة رشا حرز الله    اللجنة الاستشارية للأونروا تبدأ أعمالها غدا وسط تحذيرات دولية من مخاطر تشريعات الاحتلال    الاحتلال ينذر بإخلاء 15 بلدة في جنوب لبنان    شهداء ومصابون في قصف الاحتلال منزلين في مخيمي البريج والنصيرات  

شهداء ومصابون في قصف الاحتلال منزلين في مخيمي البريج والنصيرات

الآن

كانت طائرة ابو عمار ترمز الى القضية الفلسطينية التي حاولوا إلقاءها في صحراء النسيان

الاهداء
في ربيع الشجاعة والبطولة تزهر ذكرى الشهداء في قلوبنا.
العقيد طيار محمد درويش - العقيد طيار غسان ياسين
المهندس طيار تيودور جيورجي.
اليهم.. اهدي هذا الكتاب
«يحيى»

الفصل الثاني

الرئيس يجلس مكانه وراء الطاولة في الكابينة المخصصة له، وعندما دخلت الطائرة في الجو العاصف استبدل ثيابه، خلع بدلة الرياضة التي يحلو له ان يلبسها اثناء المسافات الطويلة، ولبس بدلته العسكرية وكوفيته وحزام مسدسه الشخصي، ثم عاد يجلس بهدوء، وبوقار، والى جانبه فتحي البحرية وغير بعيد يجلس عماد، وفتحي الليبي، وعبد الرحيم.. و.. خفت حدة المطبات الهوائية لعل الكابتن استطاع ان يهرب من منطقة العاصفة، فها هي الطائرة تستقر قليلا، وها هي تستدير وتقترب من مجال المطار.
طلب الكابتن غسان من المهندس علي غزلان ان يبلغ جميع المرافقين بأن ينظروا من وراء النوافذ، ويبلغوه اذا ما شاهدوا ضوءا تحتهم.
حث المهندس علي والمهندس خليل الشباب على الجلوس بجانب النوافذ، ومراقبة اليابسة.. كانت الرؤية معدومة، فليس ثمة سوى الرمال وما يشبه سحب الدخان.
دارت الطائرة دورتها الاولى والثانية وبدأت دورتها الثالثة حول المطار.
بعد ان توقف اهتزاز الطائرة وخرجت من منطقة الزوابع، هدأ الشباب، وبدأوا يحاولون التغلب على هذا الجو المكبل. احضر خلدون بعض الخضار، وبدأ يأكل، واعطى للمهندس علي غزلان شيئا منها.
كان احمد جميل وعبد الرحيم في الخلف يتمازحان ويضحكان.
- انظر.. هناك سيارة مرسيدس تنطلق عبر الشارع..
- ارى رجلا يركض في المدينة.. ارى اعلانات نيون ملونة..
- ارى طيارة تحت الطيارة.. كانا يحاولان التغلب على القلق بإثارة الدعابة، وقريبا منهما كان جهاد الغول يبتسم، ويراقب بطرف عينه كابينة الرئيس ينتظر اية اشارة.
ظلت العيون تطل من وراء النوافذ، وظلت الابصار تشخص لعلها تظفر برؤية بصيص من الضوء، ولكن هيهات..
كانت العاصفة قد حجبت الرؤية تماما.
وواصلت الطائرة دورانها وظل الشباب ينظرون عبر النوافذ. وقف الرئيس، وتوجه الى كابينة القيادة ليطل على الامور عن كثب..
قال الكابتن غسان: لم نر شيئا.. لم يبق امامنا سوى ان نتوكل على الله ونهبط هبوطا اضطراريا.
طرح الرئيس بعض الاسئلة، وذكرهم بأن المنطقة مليئة بحقول الالغام.
سأله الكابتن محمد: ما رأيك انت يا اخ ابو عمار.
نظر اليه الرئيس نظرة الواثق وقال: انت الكابتن.. افعل ما تراه.. انت القائد الآن وانت ربان السفينة، وعليك ان تتصرف حسب ما يمليه عليك واجبك تكلم الكابتن محمد مع الكابتن غسان بصوت منخفض ثم اجاب:
ظل المهندس الروماني يحدق بالرئيس، ظل ينظر اليه كمن يحاول ان يقرأ افكاره وردود فعله، عند ذلك سأله الرئيس بالانكليزية: ما رأيك؟
هز المهندس رأسه واجابه بانكليزية ركيكة: اعتقد ان هذا هو الحل الوحيد.
عند ذلك قال الكابتن غسان: لسلامتك الشخصية من المستحسن ان تعود الى مكانك وتربط الاحزمة ايها الاخ الرئيس.
تردد الرئيس للحظات كان يحول ان يستوعب هذا الذي يجري، وكان يفكر.. قال للمهندس هل الكشافات تعمل بشكل جيد؟
اضاء المهندس الكشافات سطعت وعلى الرغم من ذلك ظلت الرؤية معدومة. قال الكابتن محمد: ارجوك يا اخ ابو عمار ان تعود وتربط حزامك.
لوح لهم الرئيس بيده وقال: ليكن الله في عونكم.. ليكن الله معكم.
قال ذلك، وعاد الى مكانه.
ظل الشباب يحدقون عبر النافذة..
ظلوا يأملون ان تحدث معجزة فتنجلي العاصفة وتتراجع الزوابع وتختفي ذرات الرمل، ويعود الجو صافيا، وتظهر انوار السيارات التي تصطف على جانبي الممر، فتحط الطائرة بهدوء.. ولكن هيهات!!
في غرفة القيادة كان حوار سريع يجري بين الكابتن محمد والكابتن غسان والمهندس الروماني، فما دامت الرؤية غير واضحة، وما دام الوقود قد بدأ ينفد، فليس هناك من حل اذاً سوى الهبوط الاضطراري. عند ذلك اصدر الكابتن محمد اوامره الى المهندس علي غزلان بتهيئة ركاب الطائرة لوضعية الهبوط الاضطراري، واحاطة الرئيس بكل اجراءات الامان.
الرئيس يجلس في مقصورته وراء الطاولة يتحادث مع فتحي البحرية.
اقترب المهندس علي غزلان وخاطبه:
- سيدي الرئيس.. ارجو ان تتفضل بترك هذا المكان والجلوس على مقعد خلفي.
تساءل الرئيس: لماذا؟ انا مرتاح هنا.
فأجابه المهندس: المكان هنا غير آمن، والطاولة تشكل خطرا اكيدا عليك، فمن الممكن امام اي اهتزاز ان تضرب الطاولة صدرك او رأسك لا سمح الله.. من الافضل العودة الى الخلف.
- حسنا..
قال الرئيس، ووقف.. ومشى مع المهندس، وجلس على الكرسي الذي اشار اليه، وجلس بجانبه فتحي البحرية.
احضر المهندس علي بعض الوسائل والاغطية ووضعها حول الرئيس وامامه ثم ربط حزامه جيدا. وبعد ان اطمأن على وضع الرئيس، انتقل لتأمين سلامة بقية الركاب، كان يعرف ان اللحظة هي لحظة الهبوط الاضطراري، وكان يعرف ان الوقود قد بدأ ينفد، فقد وقع بصره على العداد، لكنه على الرغم من ذلك كان يثق بالطاقم والطائرة معا.
بدأت الطائرة تبتعد عن محيط المطار همس خليل مخاطبا عماد ندى: ان مخرج الطوارئ بجانبك، في حال هبوط الطائرة افتح هذا الباب وانطلق انت والرئيس وبقية الاخوة الى الخارج.
احس ماهر ان الامور قد وصلت الى المرحلة الاخيرة فأسرع من جديد الى غرفة القيادة للاستطلاع ومشى المهندس خليل وراءه. في تلك اللحظة التقط جهاز الطائرة اول اتصال من المراقبة الارضية في السارة فوضع خليل الموجة التي حددت لهم على الجهاز.. تم الاتصال بالسارة، فأعطوا الكابتن محمد تحديدا للمكان الذي يتواجد به.. حددوا له اين هو موجود بالضبط. انقطع الاتصال لحظات ثم عاد.. رد عليهم الكابتن محمد انا مضطر أن اهبط اضطراريا.. لقد نفد وقودي. ثم طلب من المهندس خليل ان يعود الى الخلف حسب الاتفاق، اي ان يجلس عند مخرج الامان الثاني، وفي لحظة الاصطدام يفتحه، فيكون للطائرة مخرجان مخرج قرب الرئيس والمخرج الامامي. عاد المهندس خليل الى مكانه وظل الكابتن محمد رابط الجأش. كان يهبط رويدا رويدا، وقد اضاء كشاف مقدمة الطائرة ضوء ساطع بقوة ستة آلاف واط ومع ذلك فالرؤية غير واضحة، وللارض والسماء لون سديمي واحد.
سأله ماهر: هل ترغب في قول شيء للرئيس؟
رفع الكابتن محمد رأسه ونظر اليه بهدوء وقال: توكل على الله يا ماهر توكل على الله وعد الى مقعدك.
لم يعد ماهر الى مقعده، ظل يحدق في اللاشيء من خلال زجاج الطائرة، وهو يمسك بالمقعد الاوسط الذي يجلس عليه المهندس الروماني. ظل يحدق في اللاشيء وينتظر.
وفي تلك اللحظة ايضا وصل المهندس علي، وابلغ الكابتن انه اشرف على تأمين افضل الظروف لسلامة الرئيس، وان جميع الاخوة قد اخذوا الحيطة والتزموا بتعليمات الطوارئ. 
لم يقل الكابتن محمد شيئا، وكذلك مساعده الكابتن غسان. كانا يديران الطائرة في لحظة الهبوط. ضوء الكشاف الساطع ينعكس على ذرات الرمل ويرتد الى العيون.. اطفأ الكابتن الضوء فجأة فساد الصمت..
الطائرة تتلمس طريقها في جو انعدام الرؤية.
وبين لحظة واخرى قد يحدث الارتطام بالارض.

العميد خالد يقول

انقطع الاتصال مع الطائرة على زاوية 215 درجة.
أبلغ قائد الطائرة محطة السارة الأرضية أن الوقود نفد، وأنه سيقوم بتنفيذ الهبوط الاضطراري.
قام الضباط الليبيون والمقدم رسمي بقراءة الخارطة في غرفة العمليات الليبية.
كان هناك مجموعة من الضباط والطيارين، ونقيب في الدفاع مسؤول عن الرادار. لم يكن أحد يعلم شيئاً عن هوية الركاب في الطائرة.
تم تحديد المكان التقريبي للموقع الذي تكون هبطت به.
المكان اسمه جفجف الصغير، منطقة رملية منبسطة تصلح للهبوط الاضطراري، بعيدة عن حقول الألغام، لكنها ليست بعيدة عن الحجارة أو الصخور، قلنا لهم: ما هو المطلوب... نحن على استعداد أن نضع امكاناتنا لمساعدتكم في البحث عن الطائرة، فقالوا: نحن نقوم باجراءاتنا وسنبلغكم.
في الخارج كانت ألسنة الرياح تشتعل.. الرياح الصرصر العاتية، فلا بد اذن من الانتظار الى أن تهدأ العاصفة، ويرحل الظلام، وتتضح الرؤية.
عدت الى موقعي في مقر قيادة قوات القدس، وتركت الاخوة الليبيين يجرون اتصالاتهم مع قيادتهم في طرابلس، عدت وبرفقتي الدكتور المزين والمقدم رسمي محارب.
وفي غرفة العمليات بمقر القوات عدنا وأجرينا قياساتنا وحساباتنا. قام الاخوان المقدم أبو رجب والمقدم رسمي بتحديد المكان على الخارطة مرة أخرى. أكدا أن المنطقة المحتملة للهبوط هي جفجف الصغير، ومن قراءة الخارطة تبين أنها أرض رملية مستوية السطح تقع في عمق منطقة السيوف الرملية.
أدمت الاتصال مع الاخوة الليبيين، وأبديت من جديد استعداداتنا للمساهمة في عملية البحث.. حوالي الساعة العاشرة تقريباً، أبلغتنا العمليات الليبية أن سفارة فلسطين في طرابلس اتصلت وتقول ان الطائرة هي للأخ الرئيس أبو عمار.
فوجئنا بالخبر والحقيقة أنه كان للخبر وقع الصاعقة، فتوجهت فوراً للعمليات الليبية، وأجريت عدة اتصالات، وتأكدت من هذه المعلومة.
ازداد قلقي.. فكرت.. ماذا يمكن أن نفعل؟
اتصلت من موقع العمليات الليبية بالاخ العقيد عبد الرحيم، وطلبت تجهيز الدوريات فوراً.
بعدها بساعة بدأت الاذاعات تبث النبأ، وعندما عدت الى مقر القوات فوجئت بأعداد كبيرة من الضباط والمقاتلين ينتظرون.. لقد استمعوا الى الخبر من الاذاعات، فجاؤوا من كل المواقع، وبعضهم قد تاه في الطريق، والذين وصلوا كانوا يمرون بحالة من التوتر والعصبية.
تجمعوا أمام مقر القيادة وبدأوا يتساءلون. كان بعضهم يتحدث بلا انضباط، وكانوا يطلبون أن نتحرك فوراً في كل الاتجاهات سيراً على الأقدام، وظلت الرياح تصفع الوجوه.
استمعت اليهم وهم يتحدثون، تركتهم حتى قالوا كل ما لديهم من كلام، وعند ذلك تحدثت.. قلت لهم: أيها الاخوة أنا لدي خطة.. أجل .. أنا لدي خطة.
صمتوا، كفوا عن الكلام، اصغوا الى بانتباه. وأضفت قائلاً: نحن جميعاً نحب الأخ الرئيس أيها الاخوة وبنفس القدر، ولكن في هذه اللحظات الصعبة فإن الرئيس بحاجة الى عقولنا وليس الى عواطفنا، فلا أريد أن يكون حماسكم على حساب خطة انقاذ الرئيس ومن معه. أنتم تعرفون وسمعتم أن عدة حالات ضياع لجنود وضباط قد حدثت في الصحراء، فأي خروج لكم بدون خطة يعرضكم للضياع في هذه الصحراء القاحلة، ويعرضكم لخطر الموت.. الدنيا الآن ظلام، وها أنتم لا تستطيعون رؤيتي بسبب العاصفة وأنا أمامكم، والتعليمات تنص على أنه لا يجوز لأحد أن يتحرك في الصحراء بدون دليل، وبالتالي بدلاً من أن نركز الجهد على البحث عن طائرة الرئيس، فسوف تربكنا حالات ضياع أخرى يكون نتيجتها تشتيت الجهد وحدوث المآسي.
هل نبحث بعد ذلك عنكم أم نبحث عن هدفنا الأساسي وهو طائرة الرئيس؟
قلت لكم ان هناك خطة، وحتى نتحرك ضمن هذه الخطة يجب أن تكون العاصفة قد هدأت، وبزغ نور الصباح، ووجد الدليل.
الآن أريد العناصر الذين يخدمون الخطة..
أريد (الطبوغرافيين) الذن يتقنون التعامل مع الخريطة وأدوات الملاحة في الصحراء، البوصلة ومنظار الميدان وغير ذلك، ومن هؤلاء المقدم أبو رجب، والمقدم رسمي، والمقدم صيدم، والمقدم أبو طاقية.
وأريد فريقاً طبياً من الدكتور خالد، والدكتور بسام، والممرض قويطة ومعهم أدوات الاسعاف المطلوبة، وأريد الفنيين من ميكانيكيين وكهربائيين والرجال الذين تعودوا على انقاذ السيارات من (الغرز) مع أدوات الانقاذ.
وكذلك أريد تجهيز التموين والأغطية والماء والسلاح، وطاقم اتصال معه جهاز لاسلكي .. هذا هو الفريق الأول.
أما الفريق الثاني فهو فريق غرفة العمليات التي ستديم الاتصال بنا أثناء غيابنا، ومع الخارج أيضاً، وهذا الفريق سيشكل من العقيد عبد الرحيم، والمقدم أبو عمرة، والنقيب أبو الروس، وأفراد الاشارة.
الفريق الثالث هو جسم القوات، وسيكون في حالة استنفار كامل إذ ربما تتعرض طائرة الرئيس الى محاولة اعتداء أو اختطاف فجسم القوات يجب أن يكون في حالة الاستعداد القصوى.
والفريق الرابع الذي أتوجه له بالرجاء، فهو من الاخوة الذين يعمر قلوبهم الايمان أطلب منهم أن يذهبوا الى المسجد ويقيموا صلاة الاستغاثة لله سبحانه وتعالى لانقاذ حياة الرئيس ومرافقيه.
بعد أن فرغت من كلماتي هدأت النفوس، وسيطر الصمت والسكينة، وتصرف الجميع بانضباط.
مضى كل الى عمله، وأثناء ذلك وصلتني برقية استفسار من الأخ أبو اللطف (فاروق القدومي) والاخوة في القيادة، فأمليت على عامل الجهاز الجواب، وحرصت على أن تكون مغطية للحدث وللخطة بحيث تعطي الأمل له وللاخوة وخشيت بعد أن فرغت من عملي أن تكون البرقية غير وافية وغير معبرة، خاصة وقد أمليتها املاء بينما كنت مشغولاً في الاشراف على اعداد الدورية، فصغت برقية أخرى مفصلة تضمنت وصفاً للحدث، وذكراً لاستعداداتنا للتحرك مع بزوغ الفجر وهدوء العاصفة، وحرصت من جديد أن تكون هناك نافذة أمل. وبعد ذلك استغرقت في العمل، ولم أرسل أي برقية، لأنه ليس لدي جديد أضيفه، وكنت على يقين أن الاتصالات التي لا جديد فيها هي اتصالات مركبة، واكتفيت بالبرقيتين، وكنا ننتظر اتصالاً من العمليات الليبية ينبؤنا عن وصول الادلاء، فقد علمت أن عدداً من الأدلاء، خبراء الصحراء، قد تحركوا بسياراتهم من مدينة الكفرة في طريقهم الينا بناء على تعليمات القيادة الليبية في طرابلس.
عند بزوغ الفجر لم يكن الأدلاء قد وصلوا بعد، كانت دوريتنا على أهبة الاستعداد.. لقد أعددنا ثلاث سيارات من نوع (لاند كروزو) التي تتمتع بقدرة فائقة على السير في عمق الصحراء، وجهزناها بالمعدات والمهمات اللازمة للدوريات الصحراوية وجهز الطاقم الطبي حقائب الاسعاف التي حوت الأدوية والشاش المعقم، الأربطة، أمصال دم، أدوية ضد النزيف، جبس، مسكنات، إبر وخيوط للجراحة، وأدوية أخرى مناسبة للجروح والكسور.
خفت حدة العاصفة، وبدأت تتراجع رويداً رويداً، وعند الخامسة والربع صباحاً كانت قد هدأت تماماً، وأصبحت الرؤية واضحة. في تمام الخامسة والربع تحركنا، وأصر الدكتور المزين على الخروج معنا. تحركنا في تلك اللحظات يحدونا الأمل والرجاء، ولوح أولئك الجنود والضباط الذين كانوا يرغبون في الخروج معنا ولم نتمكن من اصطحابهم، لوحوا لنا، وكنت أستطيع أن أرى التماعة مآقيهم، وأن أسمع دقات قلوبهم، ونبضات عروقهم.
انطلقنا مع الفجر الصادق، وتوجهت قافلتنا الى مقر قيادة العمليات الليبية.
وجدنا سيارة النقيب مسعود تنتظرنا، وكان بصحبة النقيب الملازم أول فتحي والملازم أول علي، والملازم أول محمود. لم يصل الأدلاء، وهناك قلبنا الأمور وتبادلنا الرأي معهم، واتفقنا أن نتقدم وننتظر الأدلاء على الطريق كسباً للوقت، وفي حال عدم حضورهم لسبب أو لآخر، فسوف نعتمد على خبرة الملازم أول فتحي ضابط الاستطلاع.
وعند الموقع الذي يطلقون عليه بوابة الكفرة، شاهدنا من بعيد سيارة مندفعة نحونا تاركة وراءها زوبعة من الغبار.
وعندما اقتربت السيارة تبين ان سائقها هو الدليل والخبير الصحراوي الريفي سنوسي عبد الله، وما أن وصل حتى أوقف سيارته، وفتح بابها وهبط.
وعندما رأيته اطمأن قلبي، فهبطت من سيارتي، واقتربت منه معانقاً، وقلت له: الآن أستطيع أن أقول انني وجدت الرئيس أبو عمار. كنت أعرف من هو الريفي، فاسمه يتردد دائماً على ألسنة الناس وهو يتمتع بشهرة واسعة، ويلجأون اليه في الملمات، وقد سبق له أن قام بمهمات بحث عن أشهر حوادث الضياع في عمق الصحراء الغامضة.
لقد اتصل به الرائد سليمان عند منتصف الليل، وطلب منه باسم القيادة في طرابلس أن يتحرك على الفور من الكفرة الى السارة للبحث عن طائرة الرئيس أبو عمار، وأن يأخذ معه من يشاء من الأدلاء، وزوده بالمعلومات عن المكان والمسافة التقريبية. وقد وصلت بعد ذلك بقليل سيارة زميله الدليل والخبير الصحراوي عيسى محمد حسن توباوي.
كيف عبرا كل تلك الفيافي في الظلام وسط العاصفة؟
وكيف تمكنا من معرفة الاتجاهات والوصول؟
لم يكن هناك مجال لاضاعة الوقت بالأسئلة، تحادثنا معهما، قارنا بين المعلومات التي بحوزتهما والمعلومات التي نمتلكها عن الزاوية التي سقطت عندها الطائرة، والمسافة التقريبية، كانت المعلومات متطابقة.
هبط النقيب مسعود، والمقدم رسمي وركبا الى جانب الريفي.
وانتقل الدكتور المزين الى سيارة الدليل عيسى.
وسوى ذلك لم يطرأ أي تغيير، وبجانبي كان المقدم صيدم يتفقد البوصلة ومنظار الميدان.
انطلقت سيارة الدليل الريفي، وانطلقت بقية القافلة وراءها.
مشينا في البداية في طريق صخرية مليئة بالحجارة والنتوءات، مشت السيارات ببطء وحذر، وبعد أن قطعنا مسافة تقدر بحوالي أربعين كيلومتراً، انقسمنا الى دوريتين.. دورية دليلها الريفي وكنت معها، ودورية دليلها عيسى ومعه الدكتور المزين وبعض الأفراد أخذت طريقها نحو منطقة السيوف الرملية، على زاوية 220 محاولة توسيع دائرة البحث وكسب الوقت.
مشت قافلتنا وراء سيارة الريفي، وعندما طوينا المنطقة الصخرية انبسطت أمامنا الصحراء والرمال البرتقالية.. أرخى الريفي لسيارته العنان، فانطلقت عجلاتها المنبسطة تصنع أثلاماً في الرمال بأقصى سرعة ممكنة، وانطلقنا وراءه ونحن نراقب العداد.. كنا ننظر الى العداد بلهفة، وننتظر أن يمر الوقت سريعاً وينجاب هذا القلق.
كانت سهول الرمال تمتد حتى آخر نقطة يدركها البصر، الرمال متشابهة ولا أثر لشاخص أو معلم. وفي الجو كانت العقبان من نوع (البرناس) تحلق ثم تبتعد، وكانت هناك بعض الطيور الضائعة التي خرجت عن سربها المهاجر الذي يعبر الصحراء في مثل هذا الوقت من السنة قادماً من المناطق الباردة في طريقه الى المناطق الدافئة.
وبينما كانت السيارات تندفع في عمق الصحراء، كنت أحاول أن أعيد ترتيب الأحداث.. وتخيلت اللحظات الصعبة الماضية، وهبوب الزوبعة الرملية، لقد كانت الطائرة تحوم فوق المطار في الوقت الذي أضعنا فيه الطريق، في تلك الساعة المبكرة من المساء عندما كانت السيارات المضاءة تصطف على جانبي المدرج.. ما الذي حدث؟ وكيف؟ هل هبطت الطائرة بسلام أم تحطمت؟ ماذا جرى للأخ أبو عمار.. ماذا جرى لمرافقيه؟ .. كبرت الأسئلة في تلك اللحظات، كبرت وكبرت وأصبحت بحجم الفضاء الواسع.

الطائرة على الأرض

كانت الساعة قد تجاوزت الثامنة مساءً بقليل حين ارتطمت الطائرة بالأرض، ظلت تتلمس طريقها في جو انعدام الرؤية. وفجأة اصطدمت بالأرض، اصطدمت ثم ارتفعت في الهواء، ثم اصطدمت ثانية .. دارت بينهما.. تطايرت شظايا من أطرافها وتناثرت، ووسط هذا الزلزال، انشطرت، وتبادل الجناحان مواقعهما، فأصبح اليمين شمالاً، والشمال يميناً. تهشمت (كابينة) القيادة، وأطبقت كالفخ على من بداخلها، تناثر كل شيء.. الحقائب والأوراق والأسلحة الفردية والصناديق، واختلطت بذرات الرمل.
الرئيس

هيأ نفسه لكل الاحتمالات، هيأ نفسه لملاقاة وجه ربه.. حافظ على هدوئه، لقد مرت عليه لحظات أشد قسوة خلال المسيرة الطويلة.. حرص على أن يواجه الموت وهو في كامل جاهزيته العسكرية. لبس البدلة العسكرية، وضع على رأسه الحطة والعقال، وحرص على أن يكون المسدس في مكانه. جاء المهندس علي، وطلب منه أن ينتقل من وراء الطاولة، الى كرسي خلفي حرصاً على أمنه وسلامته. قام وجلس على الكرسي الذي أشار اليه المهندس، أحاطوه بما هو متوفر من أشياء واقية، ثم ربطوا له الحزام.
ردد لنفسه: قل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا. قرأ بعض السور، وظل محافظاً على هدوئه.
عندما ارتطمت الطائرة بالأرض هتف:
لاقيني يا بو جهاد..
أحس بالصدمة تهزه.. ارتطم رأسه وجسمه بأشياء صلبة، شعر أنه يطير في الفضاء ويحط على الأرض. الدنيا سوداء، ظلام.. انشقت الطائرة.. انشطرت، ومن الفجوة، رمته قوة الدفع الى الخارج.

عماد

ظل عماد يقظاً، على الرغم من أن الصدمة أطاحت به يميناً وشمالاً، أحس بالصدمة الأولى ثم الصدمة الثانية، وقبل أن تتوقف الطائرة تماماً، كان قد هيأ نفسه للقيام بدوره حسب تعليمات المهندس خليل الجمل، إذ يتعين عليه أن يدفع نافذة الطوارئ ليخرج منها الرئيس، انتظر هبوط الطائرة، حالماً أطفأ الكابتن أضواء الكشافات، أيقن أن الكابتن قد قام بمسح أخير للمنطقة قبل أن يطفئ الأنوار، وبعد قليل لاحظ غباراً كثيفاً ثم حدث الارتطام.عندما توقفت الطائرة نزع الحزام على الفور، ودفع نافذة الطوارئ بقوة، فهو فتى في التاسعة والعشرين، وله جسم نحيل ورياضي. رجع قليلاً الى الوراء ونادى بصوت عال: يا أخ أبو عمار.. أين أنت؟ لم يسمع جواباً، مد يده نحو الكرسي الذي يجلس عليه الرئيس لم يجد كرسياً.. لم يجد أحداً.. لاحظ وجود فتحة بجانب النافذة. أحس بأن الطائرة قد انشطرت، قفز من نافذة الطوارئ الى الأرض، سمع أسفل الطائرة أنيناً، قوة الدفع قذفت كرسياً الى الخارج، كان الأنين صادراً عن فتحي البحرية، وبجانبه كان الرئيس قد سقط على الأرض.
اقترب عماد وهتف بلهفة: أخ أبو عمار.. هل أنت بخير؟
نفض الرئيس الغبار عن ملابسه، وساعده عماد على الوقوف.
لم يستطع عماد أن يتبين ان كان الرئيس مصاباً أم لا.. أما فتحي البحرية فقد كان مصاباً لأنه يضع يده على رأسه ويتألم.
وقف الرئيس، واستفسر من فتحي عن اصابته. شاهد عماد النار تشتعل في مقدمة الطائرة، هتف: 
يا أخ أبو عمار ابتعد.. قد تنفجر الطائرة.
يتبع

 

ha

إقرأ أيضاً

الأكثر زيارة

Developed by MONGID | Software House جميع الحقوق محفوظة لـمفوضية العلاقات الوطنية © 2024