كانت طائرة ابو عمار ترمز الى القضية الفلسطينية التي حاولوا إلقاءها في صحراء النسيان
الاهداء
في ربيع الشجاعة والبطولة تزهر ذكرى الشهداء في قلوبنا.
العقيد طيار محمد درويش - العقيد طيار غسان ياسين
المهندس طيار تيودور جيورجي.
اليهم.. اهدي هذا الكتاب
«يحيى»
الفصل الثالث
عبد الرحيم
أشقر، ووسيم، في منتصف العقد الثالث...
كان ينتظر هبوط الطائرة بين لحظة وأخرى، قرأ سورة قصيرة وردد الشهادتين، وفجأة اصطدمت الطائرة. عندما توقفت كان هناك صمت وغبار.. حاول أن يقوم عن كرسيه فلم يستطع لأول وهلة. شعر بأن الحديد يشده من عند الخاصرة، حاول أن يحرك يديه فلم يستطع أيضاً. خيل اليه انه قد أصيب. كان هناك خدر يسري في ذراعيه. سمع حركة ما ولمح أحداً يمر من أمامه، فدبت به القوة. تمكن من حل حزام الأمان، واكتشف انه يستطيع الوقوف، وأن بامكانه تحريك يديه بسهولة، تحسس جرحاً صغيراً في رأسه ثم بغريزة حب البقاء، قفز من فتحة صادفها أمامه. وجد نفسه على الرمل وفجأة نادى بصوت عال: يا أخ أبو عمار وجاء صوت الرئيس من وراء العتمة:
أنا هنا يا بني .. ركض عبد الرحيم اليه، سلم عليه وقبله، وقال بصوت متهدج منفعل.
الحمد لله على سلامتك.
ربت الرئيس على كتفه: توكل على الله يا بني.
كان فتحي البحرية يقف قريباً، وكان الى جانبه عماد.. وفي تلك اللحظة شاهد عبد الرحيم الحريق في مقدمة الطائرة. شاهد عماد يقترب من النيران ويحاول اطفاءها.. فتبعه بلا تردد.
المصور محمد الرواس
كان محمد الرواس لا يزال يشعر بالدوار والغثيان، فمنذ بداية الرحلة وهو نائم. تلقى علاجاً بالأدوية والأوكسجين، لكنه ظل يشعر بالصداع وبرغبه في التقيؤ. انه شاب في العقد الثالث، طويل، له وجه قمحي مشرب بحمرة، لكنه الآن شاحب على غير عادة. أحس بالخطر الدائم، فقرر أن يواجهه وهو يفتح عينيه على سعتهما. شرب الماء، وربط الحزام.. لقد فقد الكثير من السوائل من جسمه أثناء الرحلة، شرب مقدار كوب من الماء، وقرأت عيناه الوضع على حقيقته. الشباب يتسمرون قرب النوافذ، والرئيس ذهب الى الكابينة وعاد سريعاً، الجو داخل الطائرة حار، لا يدري ان كان ذلك بسبب التحكم بدرجة الحرارة أم أن حرارته مرتفعة بسبب الحمى. على مقربة منه (الكاميرا) التي صور بها مراسيم وداع الرئيس في مطار الخرطوم.
بلع ريقه، وتذكر أنه خلع حذاءه وسترته، وأنه يتعين عليه أن يدس قدميه في الحذاء، وأن يرتدي السترة ليتهيأ لمواجهة اللحظة القادمة. وحدث نفسه من جديد أنه اذا كان لا بد من الموت، فليمت المرء وهو مفتوح العينين. وعندما ارتطمت الطائرة بالأرض شعر كأن هزة أرضية افقدت الكون توازنه. كأن الطائرة تطبق على بعضها البعض، هزته الضربة رفعته عالياً وحطت به بعنف. كان مفتوح العينين ولكنه لم ير شيئاً. رأى لوناً أسود، ثم رأى ما يشبه الفضاء. ثم هبت الرياح حاملة ذرات الرمل. انتبه الى انه ما زال حافياً بدون سترة، فحاول الوقوف..
وبعد ذلك رأى في لحظة ما بعد الغروب الصحراء فعرف ان الطائرة قد انشقت من جانبه.
وإذ ذاك دارت الدنيا به ولم يستطع الحراك. وفجأة أحس بشخص ما يدوس عليه، فندت عنه صرخة مكتومة.. عند ذلك سمع صوتاً:
ماذا تنتظر .. هيا.تذكر أن الطائرة قد سقطت بالفعل، وأن عليه أن يتحرك وينجو بجلده. امتدت يداه الى حزام الأمان، ثم وقف، وقفز من خلال الفتحة الى الأرض. سقط على الرمال. شاهد الشخص الذي أمامه يركض فركض وراءه، هناك على بعد خمسين خطوة كانوا يتجمعون فوقف بينهم.
خلدون
في اللحظات الأخيرة بدأ يحسب للهبوط ألف حساب، لم يكن خائفاً ولكنه كان مسكوناً بهاجس الانتظار والترقب.. ظل يشغل نفسه بالنظر عبر النافذة، وكانت لديه فكرة عن الهبوط الاضطراري، فقد سبق له أن تلقى دورة تدريبية كطيار خاص، وسبق له أن تعرض الى حادث هبوط اضطراري أثناء التدريب خرج منه بسلام، وهو شاب يملك جسماً رياضياً، ويمتلك وسامة الطيارين. عند أول خبطة وجد نفسه يردد الشهادة، الصدمة الأولى حطت الطائرة ثم شالت بها وحطت ثانية وزحفت على الرمال. دار معها وفقد توازنه، واصطدمت به أشياء صلبة، وخيل اليه ان الطائرة دخلت في كثيب من الرمل، ثم لفت به في كل الاتجاهات، وبعد ذلك استقرت. ظل يردد الشهادتين، ولم يدر ان كان يرددهما بصوت عال أم أن الصوت لا يخرج من حنجرته.
حصل كل ذلك ربما بثوان قليلة، وربما بدهر كامل.. عندما استقرت الأشياء كان هناك عتمة وصمت. وجد نفسه محاطاً بالكراسي والأعمدة والرفوف المكسورة.. بعضها قد ضرب رأسه، وبعضها الآخر أحاط بجسده. لم ير شيئاً في بداية الأمر، عتمة وصمت، الحزام يشد خصره شداً محكماً. فتح الحزام بصعوبة، نظر حوله، ثم انتبه الى فجوة فوقه. طاقة صغيرة. وقف على الكرسي، وتأكد من أنه يستطيع الخروج منها. أخرج رأسه أولاً، ثم مد ذراعيه، وسحب نفسه الى أعلى بقوة، ثم قفز من عل الى الأرض الرملية. وهناك على الأرض أحس بالدم ينزف من يده، ولم ير أمامه أحداً. وعلى الرغم من الوجع فقد بدأ يبحث، ووجد نفسه يركض ما بين المقدمة المهشمة وذيل الطائرة ونادى بصوت عال: يا أخ أبو عمار.. يا شباب.. أين أنتم؟
وجاءه صوت من الخلف: من الذي ينادي؟
استدار وأجاب: أنا خلدون.
امتلأت عيناه بالدموع، تقدم، وعانق الرئيس. كانت النار ما زالت تشتعل، وكان الشباب يعملون على اطفائها. وعند ذلك انتبه الى أن الطائرة قد انشطرت..
سأله الرئيس: هل أنت مصاب؟
أجابه: يدي تنزف.. أظن أن شرياناً قد قطع.
خليل الجمل
كان في كامل أناقته، ممتلئ، متوسط الطول، حنطي اللون، له عينان عسليتان وشارب كثيف، وينظر هنا وهناك يتفقد كل شيء في الطائرة. عندما قال له الكابتن محمد: عد الى مكانك، أحس أن لحظة الهبوط قد حانت. عاد سريعاً الى مكانه عند باب الأمان الثاني. نظر من النافذة فشاهد خيال الطائرة تحتها مباشرة، فعرف أن العد التنازلي قد بدأ. جلس في الكرسي ومد يده الى الحزام كي يربطه.. في تلك اللحظة، وقبل أن يربط الحزام ارتطمت الطائرة بالأرض. وجه نفسه يصطدم بسقف الطائرة، وأحس أنه ينقلب رأساً على عقب، ومن أسفل الى أعلى، رجلاه تضربان بالسقف، ورأسه يتدلى الى الأسفل.. هل الطائرة هي التي تدحرجت أم أن جسده هو الذي تدحرج؟ لم يكن يدري. زحفت الطائرة مسافة ما ثم توقفت. شعر كأن سفوداً ينغرز في عينه اليمنى، ومع ذلك تحامل على نفسه وحاول الخروج. كانت الكراسي التي خلعت من أمكنتها وتطايرت تسد الطريق. لا شيء في مكانه أو على حاله في الطائرة. لم تكن الرؤية واضحة، كان يرى ما يشبه الغبش، فأخذ يحبو على ساقيه، خيل اليه أنه يرى أمامه فتحة، قفز على الأرض، فسمع حالما أصبح على الرمل صوت الرئيس:
من أنت يا بني ..؟
أنا خليل الجمل.
وجاء صوت الرئيس دافئاً: الحمد لله على السلامة.. الحمد لله على السلامة.
فتحي الليبي
شاب طويل، في العقد الثالث، نحيل، بشرته سمراء.. قرر أن يلتزم بتعليمات الكابتن فجلس قرب النافذة، وربط الحزام وأطل من النافذة يراقب الأنوار.
فجأة شاهد ظل الطائرة فخيل اليه في البداية كما لو أن طائرة أخرى على وشك الاصطدام بطائرتهم، لكنه تبين بعد قليل أنه يرى ظلاً، فعرف أنها تقترب من الأرض.
ارتطمت الطائرة، وهزته بعنف أو شعر بأنها تزحف به وتدور حول نفسها ويصبح عاليها أسفلها.. عندما توقفت، فك الحزام بسرعة، ووجد أمامه ثغرة، فقفز.. وقع على الرمل، رأى أمامه الرئيس. عانقه بحرارة، ووقف.. كان فتحي البحرية يتوجع من جرح كبير في رأسه.. وإذ ذاك شاهد عماد وعبد الرحيم يقومان باطفاء الحريق في مقدمة الطائرة. طلب منهم الرئيس أن يبتعدوا خوفاً من الانفجار.. طلب منهم أخذ الحيطة والحذر.
***
كانت النار إذن تشتعل في مقدمة الطائرة، هب عماد وعبد الرحيم لاطفائها، لم تكن العتمة قد اشتدت، وعلى ضوء النار شاهدا حقيبة من حقائب الرئيس قد قذفت بها الصدمة الى الخارج، ففتحاها، ودفعت ما بداخلها في كل اتجاه، وقسمتها الى نصفين. حمل كل منهما نصفاً، وبدآ يملآنه بالرمل ويطفئان به النار.
تفقد الرئيس كل أولئك الذين خرجوا، وسألهم واحداً واحداً عن حالتهم، وسأل عمن بقي داخل الطائرة. الظلام بدأ يحل، لكنه ليس حالكاً، فثمة فضاء واسع يسمح بشيء من الرؤية، على الرغم من هبوب الرياح.. زفر الرئيس بحرقة، كان يحاول أن يستوعب هذا الذي جرى، فلقد رأى في الماضي الكثير من الكوارث، وعاش أصعب الظروف.. واجه الموت، وفرض عليه الحصار، وتكاثر عليه الأعداء، ودفعوه من منفى الى منفى، فمتى يتوقف زحف الصحراء!!
شعر بألم في عينه وأوجاع في أضلاعه، ولكنه بذل جهداً كي يتحمل ثم قال لهم: تجمعوا هنا يا أبنائي.. لا تقتربوا من الطائرة قبل أن تخمد النيران.
استطاع عماد وعبد الرحيم أن يحاصرا ألسنة اللهب، ثم تمكنا من اخمادها، وعند ذلك قال عماد بصوت مرتفع:
يا شباب ما حدا يولع سيجارة أو يشعل عود كبريت، فهناك بقايا بنزين يتسرب بالقرب من العجلات.
كان الحريق قريباً من كابينة القيادة، لذلك تناهى الى عماد صوت الأنين الصادر من أعماقها.
ثم سمع صوت ماهر.. كان صوته متهدجاً وكان يستغيث ويطلب النجدة من وراء الحديد.. كانت الكابينة قد أطبقت على من فيها: الكابتن محمود، والكابتن غسان، والمهندس الروماني، والمهندس علي وماهر.
أخرجوني من هنا، الحديد يطبق على فخدي، لا أستطيع أن أتنفس.. الوجع يكاد يقتلني.
لم يكن عماد يملك في تلك اللحظة سوى الكلمات الطيبة، فقال:
انتظر قليلاً.. سنتدبر الأمر.. اصبر قليلاً.
تمت السيطرة على النيران إذن، لم يتوقف النزيف من الجرح الكبير في رأس فتحي البحرية، وقد حدث له ما يشبه الغيبوبة، ساعده الرئيس على خلع قميصه، وربطه له كضمادة على مكان الجرح وشده شداً محكماً. وبعدها تقدم الرئيس ليتفقد حطام الطائرة. كان يحاول أن يفعل شيئاً قبل حلول الظلام. وقف عبد الرحيم أمامه، وقال بتوسل:
أرجوك يا أخ أبو عمار أن تبتعد.. نحن جنودك ومن واجبنا حمايتك.. أنت تأمرنا ونحن نذهب ونفتش الطائرة.. نرجوك أن تبقى بعيداً حفاظاً على سلامتك. ربت الرئيس على كتف الفتى، كان يستطيع أن يلمس عمق العاطفة التي جعلته يتحدث بهذه الحرارة، ربت على كتفه وقال: يا بني أنا لست أحسن منكم.. أنا مثلي مثلكم.. قل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا. قال ذلك، وواصل طريقه نحو (كابينة القيادة). الكابينة المهشمة التي تطبق على بعضها البعض. لحقه عماد وعبد الرحيم وفتحي الليبي.
كان أنين متقطع يصدر من داخل الكابينة، تعبير عن وجع انساني وألم لا يطاق. أحس الرئيس بقشعريرة، وانبجست الدموع من أعماق مآقيه. من خلف بقايا الرؤية، كان الكابتن محمد درويش ممداً. ظهر وجهه الملطخ بالدم. ودون أن يظهر كان المهندس الروماني يصدر أنيناً متقطعاً، وكذلك المهندس علي غزلان.. أما الكابتن غسان فقد كان قد أسلم الروح..
يا محمد .. يا درويش.. سامعني.. قال الرئيس بصوت شديد التأثر، وأضاف:
سامعني يا درويش.
أجاب الكابتن بصوت خافت:
تعبان يا أخ أبو عمار.. تعبان.. أخرجوني.
انهمرت الدموع من عينيه، كان في تلك اللحظات أباً يرى أولاده يحتضرون. كان من الصعب فتح ثغرة في الحديد.. ومع ذلك قال للشباب: لنحاول اخراجهم. حاولوا شد حديد الكابينة بكل ما أوتوا من قوة، ولكنهم لم يفلحوا. وفجأة صاح ماهر الذي لم يكن يشاهده أحد:
يا أخ أبو عمار.. رفع الرئيس رأسه، وقال: من ينادي؟
أجاب الصوت من الداخل:
أنا ماهر .. هل أنت بخير يا أخ أبو عمار؟
كيف حالك يا بني.
ما دمت أنت بخير فنحن بخير.
الله يبارك فيك يا بني.. اصبر الى أن تخف العاصفة.
كانت الكابينة المهشمة أمامهم قد سدت كل السبل.. سقط الحديد على صدورهم وأرجلهم وشج رؤوسهم، لم يكن ثمة منفذ اليهم. بحث عماد وعبد الرحيم عن ثغرة، اكتشفا بعد البحث فتحة تحت الكابينة من الجهة اليسرى، فتحة صغيرة، استطاع عماد بصعوبة أن يدخل رأسه وجذعه. مد يده وتحسس وجه الكابتن محمد، كان الدم الساخن يسيل من صدغه، كانت العتمة شديدة هناك.. بدأ يبحث عن يده فوجدها، حاول أن يسحبه الى الخلف، كان هناك ثقل ما يجثم على صدره، على الأرجح ان يكون باب الكابينة، رجلاه عالقتان بالحديد كما يبدو.. حاول أن يسحبه من جديد، فأطلق صرخة ألم.
قال له الرئيس: انتظر يا عماد.. يجب ألا نؤذيه، ويتعين علينا أن نجد حلاً عندما تتضح الرؤية.. في تلك اللحظة، سمع الرئيس فجأة صوتاً ينادي من المكان الذي يتجمع فيه الجرحى:
يا شباب .. مين معاه مسدس.. انتبهوا، انتبهوا.
هب الرئيس واقفاً، وسحب مسدسه على الفور، وخف سريعاً اليهم، كان محمد الرواس يصرخ بصوت عال:
شيء ما يتقدم نحونا.. ربما يكون وحشاً. وأثار ذلك بعض الذعر في صفوف الشباب.
نظر الرئيس الى المكان الذي أشار اليه الرواس، وعندها، أعاد مسدسه الى بيته، وقال: اطمئنوا، ان هذا الذي ترونه هو شبح محرك الطائرة وقد انفصل عنها لدى ارتطامها.. وتحسس الرئيس جبين الرواس، وأيقن أن الحمى ما زالت تفعل فعلها في رأسه. ثم خاطبهم قائلاً: ما دام الأمر كذلك، تجمعوا يا أبنائي قرب الطائرة.. هناك في المكان الذي ظل سليماً، عند الذيل.
وقال ذلك وعاد يستكمل البحث داخل الطائرة.
جهاد الغول محصور داخل حديد الطائرة، في مكان قريب من الكابينة. تسلق الرئيس الركام بحثاً عن جهاد.. كان الحديد قد أغلق عليه من جميع الجهات، ولم يبق ما ينبئ عن وجوده سوى فتحة صغيرة، أغلق الحديد على جسده الممتلئ، ومنكبيه العريضين، فانطفأت الجذوة التي تشتعل في عينيه، وكان كما يبدو في غيبوبة، لم يجب على النداء، ولكن الأنين الصادر عنه يخبر انه ما زال على قيد الحياة.
عاد الرئيس الى المكان الجديد الذي تجمع به الشباب عند ذيل الطائرة، كان قد كون صورة واضحة عن الحالة العامة التي أمامه. كانت الحصيلة حتى الآن شهيداً واحداً، وخمس حالات محاصرة واصابتها خطرة، وخمس حالات في الخارج اصابتها أقل خطورة، وكان هو رابع أربعة اصاباتهم طفيفة، لكنه ظل شديد القلق على الطيارين، وعلى ماهر.. تجمع الجرحى إذن عند ذيل الطائرة، بعضهم تمكن من المشي، وبعضهم الآخر زحف على الرمل ووصل المكان.
اشتدت الرياح.. بدأت حبات الرمل تصفع الوجوه والعيون، كأن العاصفة تطاردهم من مكان الى مكان، كأنها تذرع هذه الصحراء التي لا يحدها حدود وتعمل فيها نهشاً وتمزيقاً.
تحركت العاصفة واشتدت الظلمة.. فكر الرئيس الذي لم يهن في يوم من الأيام، ولم يستسلم للأمر الواقع.. لقد اعتاد على فتح ثغرة في كل حصار، واعتاد في الزمن الذي أغلقت فيه جميع الطرق أن يكتشف بنفسه طريقاً جديدة. فكر للحظات، ثم قال بهدوء:
أين المهندس خليل الجمل؟
كان خليل قد عصب قميصه حول رأسه وغطى عينه المصابة، ومسح الرمال عن عينه الثانية، وبدأ يتحسن.
تقدم خليل: - نعم يا أخ أبو عمار.
سأله الرئيس باعتباره الوحيد من طاقم الملاحة في الطائرة الموجود بينهم: هل يمكن أن نفتح هذا الباب؟
وأشار الى الباب القريب من ذيل الطائرة، كان الثلث الأخير من جسم الطائرة بحالة جيدة، وخطر للرئيس وهو القائد العام لقوات الثورة، خطرت له فكرة النقطة الطبية، أو المستشفى، فهؤلاء الجرحى لن يستطيعوا الصمود أمام سهام الرمال، ورماح الرياح الشرسة، فلا بد من مكان يؤويهم.
أجاب خليل: أجل، يمكن .. هل نحاول؟
قال له الرئيس: حاول.
تقدم عماد، حاولا فتح الباب، وعند ذلك ندت عن خلدون صرخة ألم، كان الدم يتدفق من شريانه المقطوع:
اربطوا لي يدي..
خلع الرواس ربطة عنقه.
قال خلدون: اربطها لي يا أخ أبو عمار..
في الوقت نفسه نادى فتحي الليبي على الرئيس ليطلعه على شيء ما، فاستدار، تقدم عبد الرحيم وأمسك بربطة العنق، وربط بها يد خلدون من عند الرسغ.
غاب الرئيس لحظات قليلة ثم عاد: ونادى بدفء:
خلدون يا حبيبي .. هات اربط لك يدك.
لقد ربطها عبد الرحيم .. شكراً يا أخ أبو عمار..
هل تشعر بتحسن..
الحمد لله..
استمرت المحاولات لفتح باب الطائرة، ولكنه كان عصياً، كان ثقيلاً كحجر الطاحون.
قال المهندس خليل: لا بد من محاولة للوصول الى الداخل وإبعاد الأشياء والأمتعة التي تسده.
كانت منطقة الذيل تلك مكاناً يضع فيه طاقم الطائرة العجلات الاحتياطية وقطع الغيار وعلب الزيت والشحم، لذلك كان لا بد من إبعاد ما تراكم على الباب منها، وافساح المجال للباب لكي ينزلق بسهولة.
استوطنت العتمة تماماً، والرمال نشطت أكثر فأكثر.
قال عماد: نحتاج الى اضاءة لكي نستطيع الدخول.
تذكر الرئيس في تلك اللحظات انه يحمل في جيبه مصباحاً على شكل قلم، فمد يده، وسحبه، وضغط عليه.. يا للمفاجأة .. أضاء .. حدثت المعجزة. غمرهم الفرح، كان خيط النور أضاء قمراً في القلب، يا لهذه اللحظة الأنيسة.
قال لهم الرئيس: هيا .. مشى، ومشى وراءه المهندس خليل، وعماد، وعبد الرحيم. مروا من خلال الثغرة التي قصمت ظهر الطائرة وشقتها الى نصفين. عبروا منطقة الكراسي المقلوبة والرفوف المحطمة، واستطاعوا أن يبعدوا الأمتعة التي تمنع الباب من التحرك. أزاحوا العجلات وسقط المتاع، فانفتح الباب بيسر وسهولة، وعند ذلك هبط الرئيس وقال على الفور:
هيا يا اخوتي.. اصعدوا الى الطائرة، لقد وجدنا لكم مكاناً آمناً. صعد أحمد جميل، وخلدون، والرواس، وفتحي الليبي، أما فتحي البحرية فلم يقو على الصعود. قال الرئيس مخاطباً عبد الرحيم: هيا نتعاون أنا وأنت على حمله. خف عبد الرحيم وأمسك برفق ذراع فتحي البحرية بينما أمسك الرئيس بذراعه الثانية.
همس عبد الرحيم في أذن فتحي:- الرئيس يعاني من جرح في عينه واصابة في أضلاعه.. حاول أن تضع ثقلك علي لا على الرئيس. وضع فتحي ثقله على ظهر عبد الرحيم الذي حمله ورفعه الى داخل الطائرة، وبعدها أصبح الجميع ينحشرون في المساحة الضيقة التي أمكن ترتيبها بصعوبة لتستوعبهم.
جلس الرئيس في الزاوية على احدى العجلات، جلس وظل يفكر ويفكر.. كان مهموماً وقلقاً، وكان يحاول أن يستعيد هدوءه لكي يفكر جيداً.. ثم أضاء مصباحه وبدأ يتفقدهم ويتفقد اصاباتهم:
فتحي .. هل أنت على ما يرام..
نعم يا أخ أبو عمار..
كيف تشعر الآن يا أحمد جميل؟
بخير..
وأنت يا رواس.. ماذا يؤلمك؟
هناك كسر في العظم عند الفخذ..
وخلدون.. هل يدك أحسن الآن..
أشعر بالوجع، ولكنني أشعر بالعطش..
وقال الرواس:- وأنا أشعر بالعطش..
بحث في جيب سترته، فوجد بضع حبات أقراص (ستربسلز) الذي يتناوله أحياناً لتخفيف احتقان الحنجرة وترطيبها، فوزع على كل منهم حبة واحدة.. لم يكن هناك ماء.. ولا بد أن الزجاجات القليلة الباقية قد تناثرت مع قطع الطائرة بين الرمال، وحتى لو كان هناك ماء فإنه لمن الصعب اعطاؤه لهؤلاء الذين ينزفون.
قال أحدهم فجأة: يا أخ أبو عمار.. أسمع عواء يشبه عواء الذئاب..
أنصت الرئيس، كانت الرياح الشديدة تطلق كل سمومها. خيل اليه أيضاً أن ثمة دبيباً لذئب جائع أو ضبع جذبتها رائحة الدم. وتذكر الشباب العالقين في كابينة الطائرة المهشمة فطلب من فتحي وعبد الرحيم أن يذهبا ويلقيا نظرة. وبعد أن عادا، مد يده يتفقد مسدسه، وأيقن أنه أصبح يتعين عليهم البحث عن السلاح للدفاع عن النفس، وللشعور بالثقة.. لقد دفعت الصدمة ببعض الرشاشات الى الخارج، وأنه لمن الصعب الآن البحث عنها بين الرمال، لحظة اشتداد العاصفة. تذكر أن هناك مسدساً آخر في حقيبته، وتذكر أنه قد لمح الحقيبة عندما كان يعبر الممر لإبعاد الأمتعة عن الباب..
كان بداخل الحقيبة مسدس من نوع (جولد) تلقاه هدية من رئيس دولة عربية، مسدس (جولد) أسود كبير. وفيما هم يبحثون، وجد عماد المصابيح الكبيرة التي يستعملها المهندسون عادة للكشف على الطائرة ليلاً، فمعظم رحلات الرئيس تتم في الليل.. وجد ثلاثة.. فحصها، أضاء مصباح واحد في حين كان الآخران غير صالحين.
وجدنا مصباحاً آخر.. سطع الضوء.. غطى مساحة واسعة، وظهر المصباح الصغير عند ذلك مثل ضوء عود الثقاب. وجدوا الحقيبة بيسر وسهولة، أحضروها له، فتحها تحت ضوء المصباح الكبير. وجد قبعته الصوفية القديمة وفي مقدمتها شعار نحاسي عليه شارة جيش التحرير الوطني الفلسطيني. ثم وجد المسدس، مسدس الجولد الأسود الذي لم يستعمل بعد ومعه خمسون طلقة!! قوبل مرآه بالرضاء والاستحسان..
أمسك فتحي البحرية بالمسدس، فيما واصل الرئيس البحث.. وجد الحربة العسكرية، انها من نوع حربة المارينز.. تحتوي على سكين ومنشار ومقص وبوصلة.. قال لهم: سنحاول استعمالها لقص الحديد واخراج المحتجزين في الكابينة، واخراج جهاد.. أخذها فتحي البحرية، وناول المسدس الى فتحي الليبي.. كان الرئيس يبحث عن أشياء أخرى، كان يبحث عن الراديو الصغير الذي اعتاد أن يضعه في حقيبته، ويستمع منه الى نشرات الأخبار، لكنه لم يجده.. سألهم الرئيس: هل رأى أحد منكم المذياع الصغير؟
لم يشر أحد الى أنه رآه، ومع ذلك فقد شعروا جميعاً بالحاجة الى معرفة ما يجري في الخارج.. هل أذيع خبر سقوط الطائرة؟!!
يتبع