في تلك الليلة، كانت طائرة الاخ ابو عمار بالنسبة لي ترمز الى القضية الفلسطينية التي حاولوا إلقاءها في صحراء النسيان
الاهداء
في ربيع الشجاعة والبطولة تزهر ذكرى الشهداء في قلوبنا.
العقيد طيار محمد درويش - العقيد طيار غسان ياسين
المهندس طيار تيودور جيورجي.
اليهم.. اهدي هذا الكتاب
«يحيى»
الفصل الرابع
أصبح هناك مصباحان، مصباح الرئيس الصغير، على شكل قلم، الذي يوضع في الجيب، والمصباح الكبير الذي أضاء المساحة الصغيرة التي كانت تستعمل كمخزن في ذيل الطائرة.
رأى الشباب بعضهم البعض بوضوح لأول مرة منذ أن حل الظلام، فأدخل ذلك شيئاً من الاطمئنان على الرغم من أن الوجوه كانت شاحبة ومتعبة، والأجسام مثخنة بالجراح. فتحي البحرية يلف نفسه باللحاف، والرواس ينام ويتدثر بغطاء صوف، أحمد جميل ابتسم على الرغم من كل شيء، وحاول خلدون أن يبتسم، وفيما كان الرئيس يبحث عن محتويات الحقيبة، وجد (ضمادة)، فقال:
هذه الضمادة لخلدون.. اربطوا بها يد خلدون.
كان خلدون ما زال يعاني من الآلام، لقد توقف النزيف، ولكن يده بدأت تتورم.
قال خلدون: أنا أتنازل عنها للأخ فتحي البحرية.
فرد عليه فتحي على الفور:
بل هي لك، لأنني ربطت رأسي بالقميص والوضع جيد.
عند ذلك مد خلدون يده، فلفوا الضمادة حولها، لفوها بسرعة وعجلة فقد ازداد عنف العاصفة، وبدأت الرمال تتسرب، جلس فتحي الليبي على طرف الباب، يحمل بيد مسدساً، وباليد الأخرى المصباح الذي يسطع بالانارة.
وعلى الرغم من عنف الرمال التي تصفع الوجه، فقد ظل يترقب ويضيء بالاتجاه الذي يفضي الى مقدمة الطائرة المهشمة.
كان الرئيس قد نبهه الى أن وحوش الصحراء قد تقترب اذا شمت رائحة الدم، وعند ذلك سوف تهاجم الاخوة العالقين داخل (كابينة) القيادة، قال له: خذ حذرك، حاول أن تطردها دون أن تطلق عليها النار، فالذئب اذا جرح ولم يقتل يصبح خطراً.. ليس هناك أخطر من وحش جريح، لذلك لا تستعمل سلاحك الا اذا أصبح الوحش في دائرة مرمى نيرانك.
زحف الرئيس بين الكراسي متلمساً طريقه نحو المكان الذي علق به جهاد الغول.. وظل فتحي الليبي يحرس المكان بينما الرياح تهب بقوة والرمال تغطي وجهه وشعره وتدخل عينيه وأذنيه. وبعد قليل أعطوه الطاقية الصوفية التي يضعها الرئيس على رأسه أحياناً، غير أنها لم تمنع عنه حبات الرمل التي لها لسع الدبابيس. وشد أحدهم ستارة كانت معلقة بنافذة من نوافذ الطائرة، ووضعها حول الطاقية الصوفية لعلها تقيه من الرمال.
قال الرئيس: يا جهاد.. هل أنت بخير..
وجاء صوت من وراء اللهفة والوحدة والضياع:
أخ أبو عمار.. هل أنت بخير؟
أجابه الرئيس: الحمد لله .. أنا بخير..
هتف جهاد بصوت يشبه البكاء من وراء زنزانة الحديد: ما دمت بخير ففلسطين بخير.
كان الرئيس اذ ذاك يحاول أن يتصور المعاناة التي كابدها جهاد الغول، ويعلم الله حجم الآلام التي تعذب روحه.
يا جهاد.. قل لي.. أين اصابتك..
صدري ثقيل وأتنفس بصعوبة، وهناك جرح في رأسي وأوجاع أجهلها في الفخذ.. لا تقلق علي أيها القائد.. أطرق الرئيس قليلاً، وبحث عن كلمات يرفع بها معنويات جهاد، ويسلحه بالأمل:
اصبر.. سوف نخرجك في أقرب وقت.. وما دمت تتكلم يا جهاد فهذا يعني أنك أيضاً بخير.
وجاء صوته خافتاً من أعماق الحديد: الحمد لله.. الحمد لله.
عاد الرئيس، فوجد أن عماد قد سوى مكاناً بين الكراسي ليخفف من الاكتظاظ في المخزن.
تمدد خليل الجمل على راحته، وبجانبه جلس الرئيس، وظل عماد وعبد الرحيم يتحركان.. هبطا منذ قليل وقاما بدورية حول الطائرة، تفقدا الكابينة، وتحدثا مع ماهر والمهندس علي عزلان.. وكانا يحملان أخباراً سيئة عن الكابتن محمد والمهندس الروماني، فالكابتن محمد الذي طالما عانى في الماضي من نوبات الربو، بدأ يسعل ويتنفس بصعوبة، ويبدو أن الرمال قد بدأت تنفذ الى رئتيه. أما المهندس الروماني فقد كف عن الحركة وأسلم الروح.. لكن أياً منهما لم يقل أمام الرئيس وأمام الجرحى كلمة واحدة، لكن الرئيس كان في تلك اللحظة يفكر بطريقة يمكن فيها انقاذ جرحى الكابينة.
عاد الرئيس وجلس على أرض الطائرة، بجانب المهندس خليل الذي كان يضع قميصه فوق عينه ويحاول أن يغفو:
كيف تشعر الآن يا خليل؟ سأله.
فأجاب خليل:
لا أعرف أين اصابتي.. أهي في الحاجب أم الجفن، أم هي في أعماق العين.. لا أدري.. ولكنني أشعر أن عيني قد ضاعت.
قال الرئيس: ارفع القميص عنها لكي أكشف عليها.
رفع المهندس خليل قميصه عن عينه، وأخرج الرئيس المصباح الصغير من جيبه، وأضاء على الجرح.. عندما سقط الضوء على العين تحركت الرموش، فقال الرئيس بصوت مشحون بالأمل:
الحمد لله.. عينك سليمة والاصابة خارجية. قال ذلك، ثم نادى على فتحي الليبي..
يا فتحي اقتصد بالانارة.. وأضاف عندما لاحظ أن ذرات الرمل تنفذ من خلال فتحة الباب:
أغلق باب الطائرة وادخل. وبعد أن تم اغلاق الباب، قال الرئيس:
أين فتحي البحرية.. أين أنت؟
وخلدون.. كيف حالك يا خلدون..
الحمد لله..
والرواس.. أنا لا أسمع صوته..
انه نائم يا أخ أبو عمار..
من بقي.. أحمد جميل.. هل أحمد جميل بخير..
أنا بخير.. شكراً أخ أبو عمار.
أحس المهندس خليل براحة تغمره، إذن فإن عينه سليمة، ولم يمسسها سوء.. وفكر وهو مستلق بالرئيس والقائد الذي يجلس الى جانبه، لقد كان الجميع في الماضي يقومون بخدمته، وكان الجميع يحرسونه ويسهرون على راحته، وها هو في هذه اللحظات العصيبة يقوم بخدمة مرافقيه، ويقوم بحراستهم ويسهر على راحتهم.. انها لحظة الألم العظيم التي تبرز فيها السجايا الانسانية.
فجأة، دوت طلقة في الفضاء.. من اطلق النار؟ استيقظ أولئك الذين أخذتهم سنة من النوم. قال الرئيس:
انه جهاد.. جهاد معه مسدس.
هتف فتحي الليبي:
ماذا تريد يا جهاد؟
جاء صوته كأنه قادم من أعماق بئر:
أريد أن أرى الرئيس.
شعر الرئيس أن جهاد في ضائقة، أو لعله يتصرف بلا وعي، من يدري.. دوت في الفضاء، طلقة ثانية، وعند ذلك، وقف الرئيس وتوجه اليه:
يا جهاد.. أنت معك مسدس؟
أجاب جهاد بصوت لا يشبه صوته: نعم.
هات المسدس يا جهاد.
لا.. لا..
لم يستطع الرئيس أن يفسر الدوافع التي جعلت جهاد يطلق النار، وشعر أن جهاد لن يتخلى عن سلاحه، ولم يشأ أن يجرح شعوره أو يحبطه أو يزيد من أزمته. تحدث اليه بهدوء محاولاً اعادة الثقة والتماسك اليه:
يا جهاد انتبه.. أنت تحمل مسدساً، وعليك أن تأخذ معنا نوبة حراسة، لا داعي لاطلاق النار، ولا بد أن نخرجك قريباً فاصبر ان الله مع الصابرين.
قال الرئيس ذلك، وعاد الى مؤخرة الطائرة، كان الاجهاد والتعب أخذا منه كل مأخذ، وبدأ يحس من جديد بألم في جفنه، وآلام أشد حدة في أضلاعه، عاد الى مؤخرة الطائرة، وجلس على العجلة التي كان قد جلس عليها من قبل.
جلس واستغرق في التفكير، لكنه لم يذهب بعيداً، فقد كانت حركة الواقع أسرع من حركة الخيال. تململ في جلسته، ثم مد يده الى مسدسه، وقرر أن ينزل ويقوم بدورة حول الطائرة. أخرج مصباحه الشخصي، وهبط.
الرياح ما زالت تشن هجومها مدججة بالرمال الناعمة التي بدأت تغطي أطراف الطائرة، وتغطي قطع الحديد والأمتعة المتناثرة. ثبت من وضع الحطة والعقال على رأسه، وشق طريقه بين أمواج هذا البحر الهائج من العواصف الرملية. عند الكابينة، كانت الرياح الشديدة قد أطاحت ببقايا الزجاج المكسور عن حواف النوافذ، ودخلت من الشقوق والثغرات، صمت، أنين خافت في هذا الهزيع، أنين خافت فقد تعبت الحناجر وظل ما يشير الى رمق أخير. أنين، أنين، نادى عليهم واحداً واحداً، لم يسمعوه، لعلهم في غيبوبة، نادى بصوت عال فلم يجب الصدى، لم يجب سوى صفير الرياح.
ليكن الله في عونكم يا أبنائي، لتمتلئ قلوبكم بالصبر وقوة الحياة.
عاد الى الطائرة، عاد الى مكانه، جلس على عجلة من عجلات الاحتياط الموجودة في المخزن. دخل وأضاء فوجدهم يحدقون به، كأنهم ينتظرون منه أن يمدهم بالأخبار، جلس وظل صوت الأنين يعذبه.
كان يقول دائماً ان هذا الشعب الجريح هو شعب جبار، شعب يستعصي على الانقراض والابادة، شعب مثل طائر الفينيق ينهض بين كل مجزرة وأخرى من تحت الرماد. مرت بخياله ذكريات شتى، وتذكر ثاني الاثنين إذ هما في الغار، إذ يقول لصاحبه: لا تحزن ان الله معنا. سالت دمعة لم يشاهدها أحد في هذه العتمة، وعند ذلك ردد لنفسه: ألا بذكر الله تطمئن القلوب.
كانوا ينتظرون، على الرغم من هذه العتمة وصفير الرياح، كانوا ينتظرون منه أن يقول شيئاً. خاطبهم بهدوء، خاطب الآلام الصامتة التي تسبح في عروقهم. قال:
رددوا ورائي يا أبنائي. قرأ ما تيسر بصوت خاشع:
"لقد جاءكم رسول من أنفسكم، عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم، بالمؤمنين رؤوف رحيم، فان تولوا فقل حسبي الله، لا اله الا هو، عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم". ثم قرأ آية الكرسي وآية الصمد. قرأ ورددوا وراءه، رددوا بصوت متهدج، رددوا بكل ما في قلوبهم البيضاء النظيفة من رمق، ومن قدرة على النبض، ومن حنين الى الدفء والسكينة والنسيم الهادئ الذي ينتشل الزرع ويوقظه من غفوته.
وبعد ذلك قرأ خلدون بصوت رخيم سورة ياسين.. وعلى الرغم من العتمة فقد فتحت نوافذ واسعة للأمل، وران الصمت والهدوء بعد ذلك، غفا من هدة التعب والنعاس، وظل الآخرون يتفيأون ظل لحظة الرحمة.
مرت فترة طويلة من الصمت، لم ينم خلالها الرئيس وانما ظل يقظاً، مر في خياله شريط طويل، وصور شتى، تذكر وجوهاً يحبها، وجوه شهداء قاتلوا معه في الكرامة، والأغوار، وصمدوا معه في الأحراش وعجلون وبنوا القواعد الارتكازية في قمم جبل الشيخ، وفي صور، والخيام، والهبارية، وواجهوا الموت في تل الزعتر، وصبرا، وشاتيلا، وبرج البراجنة، والدامور.. ورابطوا في الكمائن المتقدمة في المتحف والمطار والاوزاعي.
أضاءت في خياله صور اطفال بيت الصمود، وتذكر الانتفاضة: الشهداء، الأطفال، الجرحى، النساء المجهضات، المطاردين في الجبال. كان يجلس على العجلة، ورغب في أن ينظر الى ساعته، لكنه لم يضئ الكشاف خوفاً من أن يقلقهم، أو خوفاً من أن يرى أحد دمعة عابرة مثل غيمة تنقلت في فضاء هذه المسيرة على مدى عقود ثلاثة..
حاول أن يتخيل ما يجري الآن في الخارج، تذكر اخوانه في اللجنة المركزية، واخوانه في اللجنة التنفيذية، وتذكر اجتماعات المجلس المركزي التي هي على وشك الانعقاد، وكان على يقين أن معظمهم قد وصل الى تونس من المواقع كافة. تنحنح أحدهم، أو ندت عنه حركة توحي بالوجع.. فقال الرئيس:
فتحي يا حبيبي.. كيف حالك الآن؟
كان فتحي البحرية قد راح في نوم أو غيبوبة ثم استيقظ، هل استيقظ تماما؟
الحمد لله يا أخ أبو عمار.. اذا حدث لي شيء، أوصيك بأولادي؟
شعر الرئيس بالغصة، لكنه حاول ان يقول ما ينهض المعنويات:
ماذا تقول يا رجل.. أنا الذي يوصيك أن يكمل أولادك المشوار.
وهنا جاء صوت خلدون.
يا أخ أبو عمار.. لقد ربطوا لي يدي بطريقة خاطئة.. هل تكشف لي عليها؟
أضاء الرئيس مصباحه، ووجهه الى اليد الممدودة، ثم قال:
الحمد لله.. توقف النزيف.. ولكنهم ربطوها خطأ.. ومد الرئيس يده، وفك الرباط، ثم أعاد ربط اليد من جديد، وحرص على أن يترك الابهام حراً..
ارتاح خلدون.. اسند ظهره الى جدار الطائرة وقال:
لماذا حدث لنا ذلك؟
يا بني انها مشيئة الله – هذا قضاء وقدر.. قل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا.
وهنا تدخل أحمد جميل وقال:
المهم.. الحمد لله الذي حماك وحفظك سالماً، الشعب الفلسطيني ما زال يحتاجك لقيادته.. الشعب الفلسطيني فيه مئات الآلاف مثلي ومثل خلدون وفتحي وعماد وعبد الرحيم والمهندس خليل، والكابتن محمد، والكابتن غسان، وقبل أن يتم حديثه، قاطعه الرئيس قائلاً:
لا تقل ذلك يا بني.. أبو جهاد استشهد واستمرت الثورة.. أبو اياد وأبو الهول استشهدا واستمرت الثورة، لجنتكم المركزية أصبح عندها نصاب في الجنة، وما زالت الثورة مستمرة.. والتفت بعدها وسأل:
يا فتحي.. كيف حالك..
ثم نادى على عماد:
يا عماد اذهب والق نظرة على المحصورين داخل الطائرة.
وهنا، تكلم محمد الرواس: فتساءل:
يا أخ أبو عمار.. هل تعتقد أنهم سيبحثون عنا ويجدون طريقنا؟
أجابه باقتضاب: قل.. ان شاء الله.
عاد الرواس يقول: عندما كنا في السارة، في الزيارة الأخيرة، علمت أن هناك طائرة اسبوعية تأتي من طرابلس الى السارة، تحضر لهم التموين الطازج، كل يوم أربعاء.
لفت ذلك انتباه الرئيس واهتمامه: هل أنت متأكد؟
أجل .. واننا الآن في الساعات الأولى من يوم الأربعاء.
خاطب الرئيس فتحي الليبي:
يا فتحي منذ الفجر قوموا باشعال الاطارات، فلعلهم يرون الدخان ويعرفون مكاننا.. وفكر الرئيس قليلاً: ومع ذلك، فعلينا أن نتصرف وكأننا سنبقى مفقودين لفترة طويلة.. عليكم منذ الفجر ان تجمعوا ما لدينا من زاد وماء، وعلينا أن نقوم باستهلاك الطعام والماء حسب خطة لكي يكفينا أطول فترة ممكنة.
ثم التفت الرئيس حوله وقال بصوت عال:
أين خليل.. أنا لا أسمع صوتك يا خليل.. هل انت نائم؟
كان خليل في تلك اللحظة يتمدد، ويفكر بطفلاته الثلاث، كان يستحضر صورهن في خياله، رنا (سبع سنوات)، ومنال (خمس سنوات)، وربى (سنة ونصف)، وكان يحلم أن يلتقي بهن وبزوجته في العطلة الصيفية.. لقد عشن معه فترة من الزمن في صنعاء، والجزائر، ولكن ظروف العمل جعلته يرسلهن للعيش مع أهله في مخيم صبرا ببيروت. كان يفكر بالألعاب التي اشتراها لهن خلال الشهور الماضية، والتي جمعها في صندوق: دب الباندا المصنوع من القماش والاسفنج، طائر البطريق المصنوع من الصوف، والدراجة الصغيرة، ومكعبات ليجو، والعرائس. لم يكن هناك بيت ينام فيه. كان ينام هنا وهناك.. في الفنادق، في بيوت الضيافة، ولكن لم يكن يملك منزلاً خاصاً به.
أنا بخير يا أخ أبو عمار.. الحمد لله .. الحمد لله..
تململ خلدون، ثم حاول الوقوف:
ماذا يا خلدون..
أريد أن أخرج لقضاء حاجتي..
قال له الرئيس: يا خلدون.. ابحث عن زجاجة أو علبة فارغة للتبول بها.. من يدري كم سنبقى في هذه الصحراء!!
وأضاف بعد قليل:
عند الضرورة القصوى قد يضطر الانسان لشرب بوله لا بول غيره.. الماء بالنسبة للانسان أهم وأكثر ضرورة للبقاء من الطعام.. سنحتاج للماء أكثر من أي شيء آخر اذا ما طال بقاؤنا بين هذه الرمال.
إذن، من الممكن أن تطول الاقامة قبل أن يكتشف الباحثون مكان وجودهم، حدث عبد الرحيم نفسه، وصمت.. تذكر قصة قرأها عن مجموعة من الناس تسقط بهم الطائرة في منطقة نائية، فيعيشون على أمل انقاذهم، يطول انتظارهم، وينفد منهم الماء والطعام، فيكتبون وصاياهم، وعندما يأتي المنقذون يكون كل شيء قد انتهى..
وانتقلت العدوى الى محمد الرواس.. فكر بدوره أن يكلم الرئيس ويوصيه بوالدته خيراً.. لم يكن يفكر الا بها، تلك المرأة العجوز الطيبة، التي امضت عمرها، وهي تركض وراءه من عاصمة الى عاصمة، ومن منفى الى منفى. تذكرها في اللحظة التي شعر فيها بأن البقاء قد يطول. لم يكلم الرئيس فقد كان يعرف أن مصير الجميع مجهول، من الأخ الرئيس حتى آخر مرافق.. لم يشأ أن يفتح باب الهواجس والوساوس.. عاد عماد وقدم تقريراً عن حالة الشباب في الكابينة، الكابتن محمد، الكابتن غسان، المهندس الروماني، المهندس علي غزلان، ماهر.. تأمل الرئيس بصمت وقال: يتعين علينا أن نحاول اخراجهم حالما تخفت العاصفة وتتضح الرؤية.
عاد خلدون بعد أن قضى حاجته، وصعد الى مكانه في ذيل الطائرة. كان الرئيس آنذاك يفكر بخزان الماء الموجود في مؤخرة الطائرة، خزان الماء الذي تتزود منه الطائرة بماء الشرب والغسيل.. أيكون ما زال على حاله أم أنه تعرض لرجة وتسرب منه الماء؟.. لم يشأ أن يسأل خليل بصوت عال اذ كان يعتقد ان الخزان ما زال بحالة جيدة، ولكنه عندما لاحت الفرصة، قال لعماد همساً:
عندما يبزغ نور الفجر، لا تنس أن تفتش على خزان الماء..
خزان الماء يتسع عادة لخمسة وعشرين لتراً، يستطيعون بهذه الكمية أن يصمدوا عدة أسابيع.. لا بد من التفكير بكل شيء.. حدث الرئيس نفسه، لقد تعود على مواجهة المآزق والصعاب، واستطاع في كل المنحنيات أن يتغلب على اليأس بتمسكه بالحياة.
ثم قال بهدوء: ناموا قليلاً يا أبنائي.. حاولوا أن ترتاحوا، فنحن في الهزيع الأخير من الليل.
وقرر أن يتسلم الحراسة، جلس عند الباب وهو يشهر مسدسه، عاد الصمت يلف كل شيء، وبدأت تخفت حركة الرياح، لكن الأفكار كانت تصطخب في الأعماق، وكان الأنين الخافت يعلن بين فترة وأخرى عن أعلى درجات الألم المكتوم.
ماهر
دخل ماهر كابينة القيادة في اللحظة التي كان بها قائدا الطائرة يهيئانها للهبوط الاضطراري.
دخل بجسده السمين، ووجهه الممتلئ الذي يميل الى السمرة.
الكابتن محمد يجلس على اليسار، والكابتن غسان يجلس على اليمين، وعلى كرسي الوسط يجلس المهندس الروماني تيودور.. وقف ماهر خلف المهندس الروماني، وتمسك بأطراف الكرسي فقد كاد يختل توازنه نتيجة لاهتزاز الطائرة، وقال مخاطباً الكابتن محمد:
- أريد صورة عن الوضع لأنقلها للأخ أبو عمار.
أطفأ الكابتن الاضاءة الساطعة للكشافات، والتي كانت ترتد وتنعكس على العيون، وتؤثر على الرؤية..
الكابتن محمد يحتفظ بأعصاب هادئة، والكابتن غسان يركز كل تفكيره في مراقبة اللوحة أمامه.. كانا يتحكمان بالقيادة بكل رباطة جأش. التفت اليه الكابتن محمد، وقال بهدوء:
- توكل على الله يا ماهر .. وعد الى الخلف..
في اللحظة ذاتها، دخل المهندس علي غزلان، دخل وقال انه قام باجراءات أمن وسلامة الرئيس والمرافقين.. وعند ذلك ارتطمت الطائرة بالأرض.
حدث الارتجاج، فقد ماهر توازنه وضرب رأسه بالكرسي فشج وسال الدم، وفقد الوعي.. عندما استعاد وعيه، وجد نفسه في قفص محطم.. وجد أن نصفه السفلي قد أطبق عليه الحديد، وأن المهندس علي غزلان قد سقط قربه ووقع بثقله على رجله اليمنى.. أما رجله اليسرى فقد لواها الحديد، وربما حطم عظامها. وعلى بطنه تتمدد رجل المهندس الروماني.. وكان رأس الكابتن غسان يتدلى باتجاه كتفه من ناحية اليسار.
عندما استعاد وعيه، حاول أن يتحرك فلم يستطع، ثم حاول ترتيب الأحداث. حاول أن يعيد جمع قصاصة تمزقت أو صورة تقطعت الى مربعات.. لم يستطع، وظل الطنين أو الدوي يكاد يفجر رأسه. ظل ثقل هائل صخرة.. كابوس يكاد يحطم جمجمته، أحس بالرمال تتسلل من الفجوات وتدخل الى عينيه، فتذكر في تلك اللحظة (هبة الله)..
يتبع