الأسير المحرر وائل النورسي: الشهداء قبل أمي
عميد زايد
عندما وصل الأسير المحرر وائل النورسي (32 عاماً)، من مخيم جنين، إلى باب بيته في السابع من أبريل/ نيسان الجاري، بعد 12 عاماً قضاها في معتقل رامون، لم ينزل من السيارة ليسلّم على أمه، قال للسائق: "خذني إلى زياد العامر".
وزياد العامر هو أول شهيد سقط في معركة مخيم جنين عام 2002، وقتل أول ضابط إسرائيلي برصاص المقاومة في معركة المخيم التي كانت أبرز علامات الانتفاضة الفلسطينية الثانية.
"ليس فقط قبل أن أرى أمي.. أخي ربيع استشهد في المعركة ودفنوه دون أن أراه.. ومع ذلك وجدتني أقف قبل أي شيء عند قبر زياد".. يقول النورسي.
وهكذا كانت مقبرة الشهداء، محطة النورسي الأولى يوم خروجه إلى الحرية، والذي صادف إحياء الذكرى الثانية عشرة لمعركة المخيم. ومن الليلة الأولى وقبل أن يتنفس وائل أي هواء، شَمَّ رائحة تغيّر مخيمه، عندما وجد حركته، فتح، تحيي الذكرى بمفردها، فيما تجهّز حركة حماس لإحيائها في الحادي عشر من الشهر الجاري.
يقول وائل، وقد بدت عليه مشاعر المرارة والأسى: "أنتم لا تعلمون طبعاُ أنني والأسرى، عندما كنّا نتحدث عن حال المخيم، كنا نتّفق في النهاية على شيء واحد: ليتنا متنا قبل أن نشهد مرحلة كهذه. لم نكن هكذا قبل اثني عشر عاماً".
وعلى ذلك نام وائل ليلته الحرة الأولى على وسادة الصدمة، وفي الصباح كانت أمه المقعدة تُرتّب بلسانها لاستقبال المهنئين بعودته، تطلب من الأولاد نقل الكراسي المصفوفة في زقاق المخيم من الشمس إلى الظل، وتسأل البنات عمّا إذا كانت القهوة ساخنة، وتستعين بفناجين إضافية من الجيران، ثم تبتسم قائلة: "أول مرة أشعر بالسعادة منذ اثني عشر عاماً، حسبتها له باليوم والساعة. قبضوا عليه في أرض المعركة في السابع من أبريل/ نيسان 2002، حكموه 12 عاماً، وها هو قد عاد".
يقطع حديثها رجل خمسيني جاء يسلّم على وائل، فترد هي: "عقبال عند ابنك ثائر"، ثم تتابع: "ابني ربيع استشهد قبل اعتقال وائل بثلاثة أيام، أخي أيضاً شهيد، ابن سلفي شهيد".
في عام 1948، كان عمر أم وائل سنتين، عندما اقتلعتهم قوات الاحتلال من قرية نورس بالقرب من زرعين، شمال فلسطين.
إلى جوار أم وائل تجلس أم خالد التي فتحت دفاتر ذكريات لا تنتهي: "نحن أيضاً شاركنا في معركة المخيم، كنا نُعلّق طنجرة الطبخ بطرف حبل ممدود من حارة إلى حارة، نكتم أنفاسنا قبل أن نتنهّد بوصول الطنجرة إلى المقاومين".
يغطس وائل في بحر الذكريات، يأخذ نفساً عميقاً، ويغمض عينيه بهدوء، ويتذكر بصوت حزين: "ذهبت لإنقاذ مُصاب، التفتُّ خلفي فوجدتهم. كان كمين، سحبت المسدس من جانبي وأخفيته عندما اكتشفت أنني وقعت. كنت أعلم أنهم يبحثون عني قبل الاجتياح بعام. تحايلت عليهم، قلت اسمي ربيع النورسي، وبعد نصف ساعة جاء الضابط يضحك ويقول: كيف حالك يا وائل؟.. أيقنت أنهم أمسكوا بي".
وائل لم يكن يخشى الأسر ولا الموت، كان يخاف من شيء واحد: الإصابة.
اثنا عشر عاماً قضاها النورسي في السجن ولم تفارقه صورة صديقه منير الوشاحي الذي أُصيب في بطنه، ونزف أربعة أيام قبل أن يستشهد، لم يكن في المخيم أي طبيب، ولا قطعة قماش بيضاء نظيفة لتضميد جراحه، ولا خيط وإبرة لتقطيب الجسد. لذلك كانت تلك الحقيبة التي غامر المقاوم محمد الخطيب والتقطها عن الأرض على بعد أمتار من الجنود، كانت أغلى كنز يخطفه الخطيب علها تختطف رفاقه من الموت، إنها حقيبة إسعافات أولية.
ويؤكد فارس جرادات صديق وائل "في الفترة الصعبة، في عز المعركة، بين الرابع والثاني عشر من أبريل/ نيسان 2002، كان المقاتل يتمنى أن يطلق النار على رأس صديقه المصاب ليريحه من الألم، أو يخرج ليموت عارياً ويرتاح من عذاب رؤية المصابين، كانوا يذبلون ساعة بعد ساعة، إذا خفّ صراخهم، يعلو صوت الموت".
يسأل وائل عن محمد البدوي ما إذا كان لا يزال مفقوداً، والبدوي مقاوم كان يتنقل بين حارة طوالبة وحارة الحواشين كغيره من المقاومين، اختفى البدوي منذ الاجتياح، كان وائل قد شاهده آخر مرة مصاباً ينزف في "بيت المقاومة"، وهو بيت وسط المخيم كان يجتمع فيه المقاتلين، هُدم البيت بجرافة تابعة للاحتلال وضاع البدوي. سقط في المعركة ثمانية وخمسون شهيداً، واعترف الجيش الإسرائيلي بمقتل سبعة وعشرين من جنوده، لكن الشهود يؤكدون عكس ذلك، قالوا: "عندما أحضر الجيش برادات الموتى قلنا راح الشهداء، سرقوهم، فوجئنا أن البرادات كانت للجنود". وانتهت معركة مخيم جنين بتسليم آخر سبعة وعشرين مقاتلاً أنفسهم لقوات الاحتلال، التي نجحت بمحاصرتهم في بيت واحد لمدة ثلاثة أيام، لكن جيلاً صغيراً في المخيم ولد من جديد.
عن العربي الجديد