كانت طائرة ابو عمار ترمز الى القضية الفلسطينية التي حاولوا إلقاءها في صحراء النسيان(5)
الاهداء
في ربيع الشجاعة والبطولة تزهر ذكرى الشهداء في قلوبنا.
العقيد طيار محمد درويش - العقيد طيار غسان ياسين
المهندس طيار تيودور جيورجي.
اليهم.. اهدي هذا الكتاب
«يحيى»
الفصل الخامس
حاول ان ينادي، فلم يخرج الصوت في البداية، لكنه اعاد الكرة عندما سمع صوت عماد:
- يا عماد.. اخرجوني من هذا المكان.. الآلام تمزقني.. اخرجوني يا عماد.
وجاء صوت عماد: لا نستطيع انقاذ احد الآن لاننا لا نرى شيئا اصبر قليلا فلعلنا نجد طريقة..
- صمت قليلا، سمع صوت الرئيس، انزاح غشاء عن الذاكرة، وعاد ذهنه فلملم مزق الصورة.. وفجأة وجد نفسه يصرخ:
- يا اخ ابو عمار.. هل انت بخير؟
- وانت كيف حالك يا ماهر؟
- الحمد لله.. الآن استطيع ان اطمئن واصبر واتحمل.
- بارك الله فيك يا بني.. اصبر قليلا.. سنحاول اخراجك في اقرب فرصة.
احس بشيء من الطمأنينة.. سمع ما رمم له شيئا من معنوياته المحطمة عاد اليه نوع من الهدوء.
وبعد قليل ابتعدوا، ولم يعد يسمع لهم صوتا عندما ابتعدوا بدأ يتفقد نفسه كان ممددا تحته حديد.. حديد مشروخ، نتوءات الحديد تنغرز في ظهره ورجله اليسرى قد التوت، وجع شديد عند الركبة او القصبة او الفخذ لا يدري. المهندس علي غزلان يئن بشدة لعله استيقظ الآن وبعد لحظات بدرت حركة من المهندس الروماني، ثم اخذ الكابتن محمد يسعل.. لقد كان يعاني في الماضي من حساسية في الصدر.
اما رأس الكابتن غسان فقد كان يتدلى على كتفه اليسرى كان يغفو ينام بهدوء طفل صغير حاول ان يحركه حاول ان يتصنت على شهيقه او زفيره لم يكن هناك تنفس فعرف اذ ذاك ان الكابتن غسان قد اسلم الروح صاح بصوت عال يا عماد يا عماد..
لكن احدا لم يجب ماذا يحدث في الخارج ماذا حدث للشباب.. من بقي حيا، من استشهد؟
انتبه الى ان ثقلا يحط على رأسه، صخرة تدق يا فوخه بلا رحمة حاول ان يرفع يده اليمنى المصابة وبصعوبة استطاع ان يتحسس ذلك الثقل الذي يضغط على دماغه.. تحسسه على مهل وظهر انه علبة زيت كبيرة علبة زيت الطائرة سقطت من مكانها فوق رف من الرفوف، سقطت على رأسه شجت الرأس واستقرت فوقه تحسس فتحتها وخطر له ان يفتحها ويترك الزيت يتدفق، فتفرغ وتصبح خفيفة ويكف هذا الضغط الهائل الذي يشبه الكابوس لكنه خشي من ان يشعل احدهم عود ثقاب ويحدث حريق، فاذا ما حدث حريق وهو محاصر داخل هذه الزنزانة فأية ميتة ستكون!!
مر وقت طويل الوقت يمر بطيئا الوجع يزداد يتفجر في الركبة والفخذ في الرأس في الظهر شعر بأن هذا الذي يعيشه هو مذاق الموت فاستسلم في بداية الامر ثم استيقظت غريزة حب البقاء تذكر (هبة الله) نهضت به حلاوة الروح فرفع يده وفتح العلبة.. تدفق زيت المحركات وغطى وجهه سال من ذقنه غطى ملابسه ولكن خف الضغط على الرأس. خف الوجع الذي لم يكن يطاق، وشعر بأنه كسب نقطة في جولة اولى وحاول ان يغفو قليلا.. وقفزت صورة (هبة الله) الى مخيلته رآها بعين خياله تقبل نحوه وتسبقها ابتسامة ليس لها مثيل.. وفتح عينه على صوت الرئيس يخاطب الكابتن محمد:
- لا تتحرك يا درويش لان الحركة تشكل خطورة عليك.. اننا نحاول انقاذكم اصبروا الى ان تهدأ العاصفة قليلا ويبزغ النور..
ثم شعر بأنه يغيب ويغيب شعر كأن على عينه غشاوة استيقظ على صياح جهاد الغول، كان يطلق الرصاص من مسدسه وينادي بأعلى صوته جاؤوا اليه تحدثوا معه.. عرف ان جهاد الغول محاصر مثله، لا يستطيع الخروج من قبضة الحديد.. ناداه بصوت عال: يا جهاد.. يا جهاد..
رد عليه بصوت واهن: لا حياة لمن تنادي..
حتى في احلك اللحظات تجد الدعابة طريقها الى روحه..
تحادث مع جهاد واحسن كما لو ان هناك من يطل عليه من شرفة مقابلة.
كان جهاد يحادثه يثير المزاح على الرغم من صعوبة وحراجة الوضع، ثم يغيب يشتد عليه الوجع والدوار يذهب في غيبوبة طويلة ثم يصحو فينادي عليه يصف له حالته، يصف له وضع الشهيد غسان، وحالة الكابتن محمد وآلام المهندس علي غزلان، وانين المهندس الروماني تيودور.. يرد عليه جهاد التحية بمثلها يصف له جرحه الذي دملته الرمال، وصعوبة تنفسه، ومرارة فمه.
وذات لحظة تكلم المهندس الروماني تكلم باللغة الرومانية.. خاطب المهندس علي سأله:
- كيف انت يا علي؟
رد عليه المهندس علي بالرومانية:
- اشعر انني اموت وانت؟
- اجابه المهندس الروماني:
- انني متعب.. اني متعب..
قال ذلك وصمت ولم يضف اي منهما كلمة واحدة.
مر الرئيس وزاره عدة مرات خلال الليل، وفي كل مرة كان الرئيس يطمئنه اصبر يا ماهر.. ننتظر الضوء وسكون الرياح.
مرت ساعات طويلة حاول ان يتعايش مع الالم وعند الهزيع الاخير من الليل اشتد السعال على الكابتن محمد لم يكن يتحدث او يتكلم، كان يسعل بشدة وكان من الواضح انه في غيبوبة.
اما المهندس الروماني فقد صمت دفعة واحدة ولم يعد يحس بأنينه أو بأنفاسه.. لقد اسلم الروح هو الآخر.
مرت اللحظات حرجة.. وخيل اليه ان الكابتن محمد قد صمت لعله الصمت الاخير اهكذا تكون النهاية؟
كان يعرف ان الكابتن محمد الذي يحمل شهادة كابتن طيار (خطوط دولية) تدرب في الباكستان والولايات المتحدة ويوغسلافيا وطار فوق سهول وجبال نيكاراغوا وعبر شواطئ ميامي وفلوريدا، طار في ظروف اشد صعوبة فوق المحيطات وقطع المسافات الطويلة عبر القارات.. عمل دون ان يطلب اجازات لم تكن له حياة خاصة فكر في الرحلة الاخيرة ان يطلب اجازة ويذهب الى عمان ليبحث عن فتاة يتزوجها.
تذكر ماهر ان الكابتن محمد والكابتن غسان كانا يتباريان دائما ويتراهنان على من يستطيع فيهما الهبوط برقة اكثر على المدرج.
يدير احدهما دقة الهبوط في الذهاب، ويدير الآخر الدفة في الاياب.. وكان المرافقون هم لجنة التحكم.
كانا يتعادلان في النتيجة او هكذا اراد المرافقون وتنتهي الرحلة بالابتسام والمرح مع ما يرافق ذلك من صخب وضجيج ومزاج..
يتدلى رأس الكابتن غسان وينام مثل طفل صغير.. يا لهذا الرجل الطيب، الذي تخرج من باكستان كطيار مقاتل، ثم تدرب في يوغسلافيا وبريطانيا.. ومنذ سنوات وقع له حادث عندما كان يقود طائرة (انتينوف 24) من نفس نوع هذه الطائرة كان يقلع من مطار الحديدة باليمن في طريقه الى صنعاء، ويحمل معه سبعة وخمسين راكبا معظمهم من افراد الجالية الفلسطينية، لم تتمكن الطائرة من الارتفاع بعد الاقلاع بسبب عطل فني رافقته حرارة شديدة.
اضطر هو وزميله الكابتن بدران ان يهبطا بها اضطراريا في مطار الحديدة، وقد تمكنا من الهبوط بسلام تحطم جزء من بطن الطائرة لكن احدا من الركاب لم يخدش..
كان رأسه الآن يتدلى وخطر لماهر ان هذا الشهيد حي وانه ثمة ما يدور في خلده.. اتراه يفكر بتلك المرأة الطيبة التي تزوجها قبل ثلاثة اسابيع؟
وجد ماهر نفسه منساقا في التفكير بهذين الرجلين اللذين عرفهما عن قرب، وصادقهما واصبح له معهما ذكريات عزيزة، لقد حرصا على ان تكون الضربة الاولى في المقدمة، امتصا الصدمة الاولى حرصا على الرئيس ومرافقيه.. فمتى ينجلي هذا الليل، ويجد المرء نفسه ممددا على الارض، يحدق في افق ازرق، وسماء صافية، ويملأ رئتيه بالهواء النقي؟!!
غفا ورأى فيما يرى النائم طفلته (هبة الله).. تسرع الى سماعة الهاتف كلما جاء رنين، تسرع الى الباب كلما طرق بشهورها الخمسة عشر، بوجهها الصبوح بضحكتها العذبة.. انها غاليته التي رزق بها بعد ستة اعوام من زواجه، وبعد متاعب اسقاط واجهاض حدثت مع زوجته.. لذلك بحين من الله عليه بهذه الطفلة، ورزقها الحياة، اطلق عليها اسم (هبة الله).. رآها بعين خياله تقف مع امها على الشرفة، تنتظر عودته.. وداهمه احساس حاد بالحنين، والرغبة في البكاء..
الصحراء
تنطلق السيارات فوق فيافي الرمال بأقصى سرعتها تاركة وراءها زوابع من الغبار، ولا اثر يرى.
يحدق الريفي الذي يلف رأسه بغطاء ابيض، ويلبس الزي العربي الليبي، يحدق في اقصى مكان يدركه بصره باحثا عن اثر او علامة، عن هيئة او هيكل او لون مختلف..
لقد ظل منذ ساعات الصباح الاولى يندفع عبر الرياح الهوجاء، ووراءه الدليل عيسى واستطاع على الرغم من الجو الغامض ان يقطع المسافة ما بين الكفرة والسارة بثلاث ساعات ونصف الساعة او او اربع ساعات، وامتلك القدرة والحماس الكافيين لمواصلة الرحلة الى جفجف الصغير دون ان يأخذ قسطا من الراحة..
بعد ان تلقى امرا من آمر الدفاع الجوي بالتحرك الى الكفرة للبحث عن طائرة الرئيس عرفات، خف الى زميله عيسى، واستنهض همته، فلبى على الفور، وفي مقر الامن الشعبي بالكفرة وجدا خمسة عشر دليلا ينتظرون بسياراتهم..
زودهم الرائد ابو جلال بالامكانيات التي يحتاجونها وقال لهم ان هناك خطة متكاملة لانقاذ الرئيس عرفات وان دورهم اساسي في هذا الخطة.. وفي الساعات الاولى انطلق وزميله عيسى كطليعة لبقية الادلاء. الهمه الله القوة، والارادة الصلبة، فانطلق لا يلوي على شيء، وخلفه سيارة عيسى.
مشى على هدى البوصلة التي حددت له اتجاه السير، الغبار.. الغبار، ومع ذلك فعجلات السيارة تنهب الارض نهبا مشى على هدي البوصلة، وعلى هدي نقاء ضميره وصفاء سريرته، واحس بأن الطريق تجذبه اليها جذبا وانه يندفع بالاتجاه الصحيح.
والى جانبه النقيب مسعود والمقدم رسمي ومعهما البوصلة ومنظار الميدان الذي يقرب المسافات البعيدة.. يحدقان مثله عبر الزجاج هنا وهناك ويخيل اليه انه يسمع وجيب قلبيهما.
خلفه مباشرة كانت سيارة العميد خالد سلطان.. عندما انطلقت عملية البحث في الساعات الاولى كانت الارض تنبسط تارة ثم تعلوها النتوءات والصخور، وفجأة تعرضت سيارته الى مطب مزدوج عنيف، افقد السائق توازنه وافقده السيطرة على عجلة القيادة..
وتسبب ذلك في اصابته بجرح بسيط وفي سقوط جندي من الصندوق الخلفي.. لم تكن هناك امكانية للوقوف، غير ان السائق خفف السرعة، والتقطت السيارة الخلفية الجندي الذي سقط. التفت العميد خالد ينظر الى صندوق السيارة الخلفي من الكوة التي خلفه فلاحظ ان الجندي الآخر الذي بقي متمسكا بحديد السيارة قد جرح في جبينه، ومع ذلك ظل واقفا وسلاحه على كتفه.
استأنف السائق القيادة بسرعة موازية لسرعة الدليل الريفي، اذ ذاك دعا العميد خالد من اعماقه الا تكون طائرة الرئيس قد هبطت فوق ارض صخرية مشابهة.
اخذت السيارات تشق طريقها وسط منطقة شديدة الوعورة.. المقدم ابو رجب، والمقدم ابو طاقية في سيارة خلفية يتحدثان، ويضعان الاحتمالات، ويؤكد كل منهما للآخر ان مع العسر اما الملازم اول ناهض الذي كان واقفا في صندوق سيارة الدليل الريفي، فانه ظل ممسكا بطرف السيارة بينما سلاحه المعلق بظهره يهتز مع اهتزاز السيارة، فيطرق رأسه مرة، ويطرق ظهره مرة اخرى.. ثم انتهت منطقة الصخور فانبسطت الارض الرملية، وعند ذلك داس الريفي على دواسة البنزين، وترك مؤشر السرعة يصل الى مئة واربعين.
دخلت السيارات في منطقة السيوف الرملية انتقلت من ارض ترابية صلبة يتناثر فيها الحصى والحجارة والتلال والوهاد، ووصلت الى منطقة السيوف.
كانت سيارات من نوع (لاند كروزو) التي صممت خصيصا لهذا النوع من الطرق، فهي تدخل حقول الرمال بقوة واندفاع.. لقد خففوا من حجم الهواء المضغوط داخل عجلاتها، ففي هذه الرمال ينبغي ان تكون العجلات منبسطة، ومرتاحة لكي لا تغوص وتعلق في الارض الرملية العميقة..
عبر النوافذ لا يرى من خلال ذرات الغبار سوى الافق السديمي الاصفر، فكأن الشمس في حالة كسوف، لا تشاهد عبر هذه الفيافي سوى الرمال الصفراء.. لا شجرة خضراء، ولا نبتة شوكية، وليس في الافق طيور. الرمال تسلم المرء الى مزيد من الرمال، الرمال تشبه بعضها بعضا ليس هناك شاخص يدل على درب، ولا علامة مميزة تشير الى طريق.
يندفع الدليل الريفي بسرعة مئة واربعين.. كأنه يسير على طريق عريض معبد يراها ولا يراها سواه، يندفع طاويا صفحة، لينتقل مباشرة وبلا انقطاع الى صفحة اخرى.
الجو حار، والرياح الحارة تهب وتذرو في طريقها ذرات الرمال، فكأن الارض تحترق، ويتصاعد من على سطحها الدخان. ومن بعيد يظهر السراب، ولا شيء غير السراب.
يتذكر المقدم صيدم اللحظات الرهيبة والبطيئة التي ظلت تلوك الاعصاب في الليلة الفائتة الطويلة.. ليلة العواصف والرياح. يتذكر حالة الانتظار، والجنود الذين ارادوا الخروج ليلا سيرا على الاقدام للبحث عن الطائرة، يتذكر العقيد عبد الرحيم، ويتخيله في هذه اللحظات يرابط في مقر الاشارة ينتظر اتصالا لاسلكيا بين لحظة واخرى.
وفي السيارة الخلفية كان الطبيب الملازم بسام يدير في ذهنه شريطا لاحداث الليلة الماضية. الساعة الثامنة سمع ان طائرة نقل عسكرية من نوع (انتينوف 42) تحاول الهبوط الاضطراري في مطار السارة. الساعة الثامنة والنصف، اتصل به العقيد عبد الرحيم، وطلب منه ومن زميليه د. خالد، ود. محمد عامر الاستعداد وتجهيز الادوات الطبية اللازمة لحالة الطوارئ.
بعد العاشرة تسربت انباء عن ان دائرة الرئيس ابو عمار قد فقدت، ومصيرها غير معروف. بعد ذلك بدأت الاذاعات تبث النبأ..
في الثانية عشرة ذهب الى مقر القيادة وقابل العقيد عبد الرحيم وسأله عن موضوع الطائرة، فأكد له العقيد ان الطائرة هبطت مضطرة في مكان قريب، وان قيادة القوات وبالتنسيق مع القيادة الليبية في المنطقة تنتظر انقشاع الغيوم السوداء، وسكون العاصفة للتحرك.. وعندما اراد الرجوع الى العيادة، فقد طريقه واحتاج الى ساعة من الزمن لكي يعود الى موقعه..
لم ينم ولم ينم زميلاه ولا الممرض محمد قويطة، انهمكوا في اعداد ثلاث حقائب فيها معدات للاسعاف السريع، وفيها الادوية والشاش والاربطة والمسكنات واتفقوا فيما بينهم ان يرافق كل منهم مجموعة من مجموعات البحث.. عندما بزغ الفجر، وسكنت العاصفة ووضحت الرؤية وتبين ان مجموعة البحث ستنقسم الى دوريتين تم الاتفاق على ان يرافق هو هذه الدورية، وان يرافق الدكتور خالد الدورية الثانية، وان يبقى الدكتور محمد عامر في مقر القوات للطوارئ.
ظهر على الطريق هيكل عظمي لحيوان ضخم، لعله هيكل لجمل نفق منذ عدة عقود، ففي هذه البقاع الرملية الجافة لا تتحلل الاجسام بسهولة، نظرا لعدم وجود الجراثيم، فالجراثيم لا تجد مناخا مناسبا تعيش فيه..
وثمة طائرة يرفرف في الجو، انه من فصيلة الصقور الجارحة وهو لا يدخل في العمق، وانما يظل على حواف الصحراء، ويصطاد طيور الحجل التي تضل طريقها، او الفئران البيضاء التي تعيش في مناطق الاعشاب على الاطراف..
في هذه الغابة المتوحشة من الرمال، تعيش الثعالب التي تتحمل العطش، وتعيش الفئران التي تدفن نفسها تحت الرمال.. وتعيش العقارب ذات السم القاتل..
في غابة الرمال المتوحشة هذه يأكل القوي الضعيف، تقتات الفئران من جذور النباتات، وتقتات الثعالب من لحوم الفئران، واحيانا تقوم العقارب بلسع الثعالب حتى الموت، فتكون عند ذلك طعاما للصقور الجارحة التي تنهش الجيف.
نظر العميد خالد الى العداد، لقد قطعوا مسافة سبعين كيلومترا، وكانوا قد حددوا في غرفة المراقبة الارضية المسافة بهذا القدر.. لماذا لم يظهر شيء حتى الآن، لماذا لا يبدو ما يشير الى المكان الذي هبطت او سقطت به الطائرة.. لماذا.. لماذا؟
الطائرة
نظر الرئيس الى ساعته كانت تشير الى الخامسة والنصف صباحا دفع باب الطائرة فتدفق الضوء بزغ الفجر وهدأت الرياح وظهرت الصحراء، الرمال الصفراء والبرتقالية تمتد حتى آخر مدى يدركه البصر. ظهرت شظايا الطائرة المتناثرة بين الرمال على مسافات قريبة. واخرى بعيدة ظهر محرك الطائرة والمروحة المكسورة، كان بعض الشباب قد استيقظوا قفز الرئيس الى الارض. التحق به عماد وعبد الرحيم وفتحي الليبي، حاول الرواس ان ينهض، غير ان الآلام الشديدة في فخذه اقعدته فظل مستلقيا.
استيقظ خلدون سكن الوجع، وتوقف النزف، وخف الورم.. لحق بهم.
كان الرئيس آنذاك يوزع المهمات.
اولا: اشعال الاطارات كاشارة على مكان وجودهم.
ثانيا: العمل على اخراج الاخوة المحتجزين داخل الطائرة.
ثالثا: البحث عن الاسلحة والاوراق والمواد الغذائية والماء.
تحرك عماد وعبد الرحيم وفتحي الليبي ومعهم الاطارات، وعلى بعد خمسين مترا من الطائرة وضعوا العجلات فوق بعضها بعضا، ثم جمعوا بعض الاوراق ووجدوا قريبا منهم علبة محارم ورقية (كلينكس) فوضعوها واشعلوا النار. بعدها صنعوا من اجسامهم حاجزا امام الرياح لكي لا تطفئ الشعلة، ثم اداروا تنكة زيت من ذلك الذي يستعمل لمحركات الطائرة.. انتظروا قليلا.. الزيت يحتاج الى فترة لكي يسخن، وعند ذلك يشتعل.. يشتعل بضراوة ارتفعت ألسنة اللهب، امسكت النيران بأطراف العجلات وانبعث دخان اسود، ومضى كل شيء على ما يرام.
ظل عبد الرحيم يلقم النار بكل ما تقع عليه يداه من مواد صالحة للاشتعال، فيما عاد عماد وفتحي الليبي لانقاذ المحتجزين. لم يكن لديهم ادوات لثني الحديد، فتشا في المخزن الامامي الذي يضع فيه الطيارون حقائبهم. وجدا صندوق حديد يحتوي على عدة مهندسي الطائرة، كما وجدا ادوات للقص، وعتلات قوية، واشياء اخرى مشابهة، كان لا بد من الوصول الى جهاد اولا..
دار الرئيس حول الطائرة تفقدها على عجل، ثم توجه الى كابينة القيادة كان قد تلقى تقريرا شفويا عن وضع الطيارين في الكابينة لذلك لم يكن هناك مجال للمفاجأة. القى نظرة سريعة على الوجوه الصامتة، الكابتن غسان، والكابتن محمد كأنهما ينامان ويستغرقان في النوم. اغرورقت عيناه، قرأ الفاتحة قرأ بعض السور القصيرة وخلال ذلك كان يتذكر سجلهما المشرف.. ثم القى نظرة على المهندس الروماني، وخاطبه: (ايها الصديق تيودور جورجي.. لقد كنت انسانا شريفا، ومهندسا بارعا.. لتمتلئ روحك بالسكينة والراحة..)
وهتف فجأة بصوت عال اذ لاحظ حركة ما:
يا علي.. كيف حالك؟
كان المهندس علي غزلان يخرج من غيبوبته بين فترة واخرى، وما بين الصحو واليقظة اجاب:
- انني اموت.. انني احتضر..
وهتف الرئيس مرة ثانية: - لا.. لن تموت يا علي.. ما دمت تتكلم فإن الله سيكتب لك النجاة، وما عليك الا ان تصبر علينا لحظات قليلة. ثم استدار الى الناحية الاخرى، وخاطب ماهر من الفتحة الصغيرة:
- وانت يا ماهر.. اخبرني.. اريد ان اسمع صوتك.
كان قد عانى طوال الليل، وكابد الآلام، ولعله الآخر خرج لتوه من غيبوبته:
- انني بخير.. اعملوا على اخراجي من هذا المكان..
فأجابه الرئيس: اخوانك بدأوا العمل، وان شاء الله نتمكن من اخراجك بعد قليل. انتشرت رائحة احتراق الاطارات.. واخذ خلدون يجمع ما يجده امامه من فاكهة متناثرة بين الرمال، الرمال التي غطت كل شيء، والتي ظلت طوال الليل تصنع طبقة فوق طبقة، وجد عددا من حبات البرتقال والجوافة، ووجد مسدسا، وحقيبة السلاح التي قذفتها قوة الدفع من مقدمة الطائرة الى الخارج.. كانت فارغة.. مفتوحة ومحطمة. وجد زجاجة ماء، تسرب نصفها، فحملها ووضعها جانبا. ثم رأى الرئيس صندوقا تغطي الرمال اطرافه، فسحبه ونفض عنه الرمال، وقال لخلدون:
- ضع الفواكه هنا.
وانحنى يلتقط حبة مدفونة تحت الرمل، فلاحظ خلدون ان الرئيس يتوجع وهو ينحني بصعوبة، فقال له: - يا اخ ابو عمار ارتاح انت.. انا اقوم بجمع الاشياء..
- لا تقلق.
يتبع