عندما تتحول الأرض الى حالة وجودية- رياض مصاروة
للفلسطيني وطنان يسكنهما، أو فلنقل يسكنان فيه: اللغة والأرض.
فيهما وعليهما يمارس لعبة الحياة، والألم هو الجزء الأكبر والحيز الأكبر في هذه اللعبة، والوطنان توأمان سياميان، وهما يورثان بشكل مشابه كما ورد في قصيدة محمود درويش: والأرض تورث كاللغة".
في اللغة يرسم حالته الوجودية ويحددها وفي الوقت نفسه يكشف حقيقتها، وعلى الأرض يمارس وجوده، ولا يمكن للوجود أن يمارس إلا على موجود له ماهيته وحالته التي هو عليها، وهذا الموجود هو الأرض، وماهية وجود الفلسطيني تتطابق مع ماهية الموجود، تتطابق مع ماهية الأرض.
وإذا انطلقنا نحن الفلسطينيين من المقولة الانسانية التي أطلقها نيتشه ونقلها لنا محمود درويش: على هذه الأرض ما يستحق الحياة، وهو بدوره ، أي محمود درويش أضاف:
على هذه الأرض
سيدة الأرض
أم البدايات
أم النهايات
كانت تسمى فلسطين
صارت تسمى فلسطين
سيدتي، أستحق لأنك سيدتي
أستحق الحياة.
نسأل: لماذا هذا التأكيد الفلسطيني على استحقاق الحياة؟ هل هناك جدال ماهوي على عدم الاستحقاق؟ مقولة نيتشه تصلح وتنطبق على البشرية كلها، ان على هذا الموجود بمحتوياته وجزيئياته، بهوائه ورائحته ما يستحق الحياة. هل هناك من لم يستحق الحياة على هذه الأرض؟ والجواب على هذا السؤال يحيلنا الى ماهية الوجود وحقيقته.
ولكي أستحق الحياة على هذا الموجود بكليته، على الأرض بكليتها، على هذا الموجود أن يتحول الى حالة وجودية، أي الى مسلك يحدد وجودي التاريخي، ومن ثم يحدد لي أسلوبي في فهم ماهية الحقيقة، حقيقة وجودي على هذا الموجود بكليته.
وما أورده هنا ليس مشكلة تنظيرية أو مشكلة فلسفية عقلية محض، وإنما أحاول أن أحدد مسلكا وجوديا يحافظ على هذا الموجود بكليته، الأرض بكليتها، اذ ان كل المحاولات والممارسات التي طبقت على الفلسطيني انما هي محاولات لتجزئة هذا الموجود وإشغال الفلسطيني بجزيئيات هذا الكلي وصرف أنظاره عن جوهر وجوده وإبعاده عن ماهية الحقيقة، وماهية حقيقته، التي لا يمكن أن تتجلى إلا بعلاقته الوجودية مع الموجود بكليته، مع الأرض بكليتها، وهذه العلاقة يجب أن تكون مسلكا اساسيا يوجه كل كياننا ويحدد وجودنا التاريخي، والأمر في اختيار هذا المسلك واتخاذ هذا القرار يتوقف على درجة الأصالة التي يمكن أن يتوصل اليها الفلسطيني، وهذه الأصالة نفسها تعتمد على طبيعة علاقتنا بالوجود، ان كانت أصيلة أصبحنا أصلاء، وان كانت زائفة أصبحنا زائفين ضائعين، والأصالة لا تتم إلا بهبة النفس للموجود الكلي، للأرض بكليتها، وليست الأرض كمجموع موجودات مجزأة التي بالإمكان التعامل معها في أي مكان خارج الوجود نفسه، وباستطاعتنا القول أن نضال الفلسطيني التحرري انما هو نضال لتأسيس علاقته بالوجود التي تؤسس له تاريخه، ولا يمكن للتاريخ أن يتأسس إلا في الوجود، في الحضور، والوجود يبدأ بالموجود، يبدأ بالأرض بكليتها ، لا بجزيئياتها.
على مدار العشرة عقود الأخيرة بدأت المحاولة لنزع شرعية " وجود فلسطيني"، وبدأ ذلك بمنازعته على موجوده، وعلى تجزئة موجوده، أي بدأت المحاولة بهدم "الحالة الوجودية" المتعلقة بالموجود الكلي... وبدأ الآخر يبني وجوده على موجود الانسان الفلسطيني، أي أنه، الآخر بدأ بتأسيس تاريخ ينفي تاريخ الفلسطيني الذي بدأ تأسيسه على الكلي، وبذلك أراد الآخر أن ينفي ويدمر ماهية حقيقة الفلسطيني التي ترتبط بالأرض بكليتها، واستدرك الآخر الصهيوني: أن لايمكن له أن يسيطر على هذا الموجود الا بهدم الحالة الوجودية المرتبطة بالكلي، والحالة الوجودية لا تكتمل الا "بالتواجد" الذي يحدث الانارة على الموجود، والإنارة هي التي تحفظ ماهية الإنسان هي التفتح على الموجود بكليته.
ان اقتلاع الفلسطيني من أرضه، أي سلخه عن موجوده الكلي، كانت المحاولة لنزع الحالة الوجودية للأنسان الفلسطيني، وبعد النكبة مباشرة كانت هناك عملية تجميد لحاجات شتى، وسيطرت على الفلسطيني حاجة واحدة وهي " حاجة البقاء الجسدي" وانشغاله الفردي مع مجموعته الصغرى، العائلة، بانقاذ جسده، والبقاء على قيد الحياة، مجرد البقاء الجسدي على أي موجود لا علاقة وجوديه معه وهذا ينطبق على فلسطينيي الشتات بالأخص، تواجدهم على موجود ليس لهم، على موجود غريب، لا يمكن أن يتأسس عليه وجود، ولا يمكن أن يتأسس عليه حضور يؤسس لتاريخ، أي انهم انسلخوا عن تاريخهم، وتحولت الأرض الى حالة وجودية تنشد الموجود الضائع بكليته...تنشد الموجود المسلوب، والحلم بالعودة إليه وكان المفتاح، مفتاح البيت هو الرمز وفي الوقت نفسه الشيء المحسوس بيد الفلسطيني الذي ساعده على الاحتفاظ بهذه الحالة الوجودية، العودة الى الموجود الكلي الذي أبعد عنه. أما فلسطينيي الداخل في اطار الكيان الجديد، اسرائيل فكان همهم أيضا مواصلة الصراع من أجل البقاء الجسدي على ذلك الجزء من الموجود الكلي،وفي الوقت نفسه خاضوا الصراع من أجل البقاء في هذا الجزء من الكلي، فكان على الأرض حتى بجزيئيتها أن تتحول الى حالة وجودية، ليس فقط الى حالة البقاء الفردي...
وكان على هذه الحالة الوجودية أن تبحث لها عن وطن توأم، فكانت اللغة، الكلمة، هي الوطن البديل الذي استقبل منفانا بكل معانيه، فتحولت تهليلة الأم لطفلها هي الحنين الى الأرض، وتحولت الى شكوى، والى اشتياق الى هذا الموجود الضائع، الذي أمارس عليه حقيقتي وأمارس عليه حريتي، وعليه أسترد انسانيتي، وفيه أجد قيمتي وكرامتي، فأضحت التهليلة هي وطن ألم الأم ، وكان الشعر بالأساس الذي جعل الأرض تكون أرضا ، وكان هو الوسيط بين الفلسطيني الجسد وبين موجوده الكلي، أرضه بكليتها.. وحتى اذا نظرنا وأمعنا النظر في الجزء الآخر من الكلي، فيما يسمى اليوم " السلطة الوطنية الفلسطينية على أرض الضفة الغربية، وفي الجزء الثاني من الكلي الذي اتخذ التسمية عليه اسرائيل، فنجد أن اللغة ساعدت على بلورة هذه الحالة الوجودية حتى المازوخية، وكادت اللغة أن تكون خطرا على وجود الفلسطيني وعلاقته بالموجود الجزئي، أي أن اللغة حاولت كوطن بديل أن تقوقع الفلسطيني في ألمه وتخدره بأن: المكتوب على الجبين لازم تشوفو العين.. وهذه المقولة تحتاج الى بحث معمق في أثر اللغة كموطن بديل، وفي الوقت نفسه نحن بحاجة الى عملية نقد النقد العاطفي للغة الشعرية بالذات التي استنزفت مشاعر الشاعر واستنزفت في الوقت نفسه مشاعر المتلقي حتى المازوخية، الا أن الفلسطيني حاول أن يخترق بوتقة الألم، أولا بتغيير اللغة التي مكنته من الفعل، واللغة الجديدة مكنته ايضا من بلورة حالته الوجودية المرتبطة بالكلي، فكان يوم الأرض الذي انبثق عن حالة وجودية،وخلق حالة وجودية أرقى، ومن بعدها في الجزء الثاني كانت الانتفاضة التي استوعب الفلسطيني فيها الموجود بكليته، واستوعب أنه لا يمكن للحالة الوجودية أن تكتمل إلا بفعل منبثق عن حالة وجودية بعلاقتها مع الموجود الكلي.
وبالمقابل علينا أن نعي أن الآخر، العدو الذي جزأ الموجود الكلي ، ويحاول أن يجزيء المجزأ، يعي هذه الحالة الوجودية، ويعي خطورتها، ويعي أن هذه الحالة الوجودية تسعى الى لملمة الأجزاء لتتوصل الى ماهية حقيقتها والى حقيقة وجودها على الكلي، على الأرض بكليتها ويحاول أن يخترق هذا الوعي الوجودي الساعي الى تأسيس حضور وتواجد، والساعي الى تأسيس تاريخ لوجوده.
العالم العربي ترك الحصان وحيدا، ونحن في هذه الحالة التي لنا قسط لا بأس به في ترديها، لا بأس أن نتوحد مع أنفسنا وأن نطرح السؤال : ماذا فعلنا بأنفسنا؟من انشغال بكل ما أبعدنا عن ماهية حقيقتنا، وأبعدنا عن ترسيخ تاريخنا والرقي به الى حالة وجودية أصيلة تهب نفسها للأرض بكليتها. هل تركنا نحن أيضا الحصان وحيدا؟ علينا أن نتعامل الآن مع عملية تقييم جذرية وماهوية لفعلنا على الأرض ومن أجل الأرض..ماذا يفيدني التغني بالأرض وماذا يفيدني كل هذا الشعر المازوخي الذي يخدرني؟ لقد سئمت الأرض كل هذا التغني الذي يقوقعني في دائرة الألم الشيطانية، والآن بالذات حالتنا الوجودية تحتاج الى تغيير اللغة المازوخية، وفي الوقت نفسه نحن بحاجة الى تغيير لغتنا السياسية والفكرية التي من المفروض أن ترتقي بحالتنا، حينها سيتمخض عن كل ذلك فعل سموه في حينه كما شئتم....وأخيرا.. لايكفي أن ننتظر آذار لكي تقول لنا الأرض أسرارها الدموية، للأرض أسرار تقولها على مدار الأشهر كلها، وليست كل أسرارها دموية، وهي بدورها تريد أن نبوح لها بأسرارنا، كل صباح، ولكن الأرض... هذه القصيدة الأرض ، لا تعطي أسرارها إلا لمن يوقظها بخطاه عند الصباح..على الطريق الترابي ( كما قال الشاعر سليمان العيسى).
*هذه المداخلة ألقيت في احتفالية يوم الأرض في جامعة بيرزيت 31/3/2014