"على ضفاف النهر" لأبي علاء منصور- عصام السعدي
في نهاية سبعينيات القرن الماضي، كنتُ أستقل الباص في مواعيد محدّدة مُسبقا، متوجّها إلى حيّ ركن الدين في دمشق، أنزل من الباص قبل الموقف المحدّد بموقف أو اثنين كما تقضي بذلك التّعليمات، وأسير على هيئة المُتسكِّع حتى أصل باب البناية التي أقصدها، فأدخل بسرعة صاعدا الدرج إلى الطابق الثاني، حيث يكون في انتظاري الأخ زهير يفتح الباب ويقودني إلى غرفة ليس فيها أحد ويغلق الباب. التعليمات تقضي أيضا بعدم الحركة داخل المكتب.
كان ذلك مكتب لجنة التنظيم 77 التابعة للقطاع الغربي في حركة فتح... في إحدى غرف ذلك المكتب تعرفت إلى "منصور" الذي يكنى اليوم "أبو علاء منصور". شاب نحيل، وسيم، أنيق دون تكلّف، خفيض الصوت، وتشي لهجته الفلاحية أنه من إحدى قرى منطقة رام الله. مستمع جيّد، يجيد طرح الأسئلة ويجيب بأقل قدر ممكن من الكلمات، ولا تغادره ابتسامة ودّ، غير أن أخطر ما فيه نظراته الذكيّة المتفحّصة التي كنتُ أتحاشاها.
كنتُ ألتقي منصور أو زهير بمعدل مرة كل أسبوعين، قادما من جامعة
حلب لتقديم صورة عن وضع تنظيمنا الطلابي فيها، ثم أخرج من لقائي بمنشورات وكتب وأخبار وتحليل سياسي للوضع الفلسطيني والعربي والدولي، أحمل كلّ ذلك وأعود إلى جامعتي وتنظيمي في حلب.
ولأننا تعلمنا في لجنة 77 أن المعلومة على قدر الحاجة، فإن تلك القاعدة لم تتح لي أن أعرف كثيرا من المعلومات عن منصور...غير أنني كنت أحدس أنه على قدر كبير من الأهمية في إدارة اللجنة، وأنه قريب جدا من الأخوين أبي حسن قاسم وحمدي محركي اللجنة الرئيسين. في ذلك الزمن كان الوحيد الذي ينكشف أمامنا ونعرف عنه كل شيء هو الشهيد. من يستشهد منا تذاع سيرته بين الأخوة، فنتفاجأ أنه كان على ذلك القدر من البطولة والتضحية، أما من يبقى على قيد الحياة وتخطئه الشهادة فيبقى يواصل عمله بصمت. كانت هذه هي معرفتي بأبي علاء منصور مسؤول مكتب لجنة 77 في سوريا. ثمّ كان أن سقطت بيروت وحدث الانشقاق في حركة فتح، وساءت علاقة الحركة بالنظام السوري فأغلق المكتب وتفرقنا في بقاع الأرض...
بقي ذلك الخيط السحري المغمّس بذكريات وحنين إلى زمن جميل كانت فيه فلسطين قريبة من أحلامنا في السير على أرضها. بقي ذلك الخيط يشدّنا إلى بعضنا بعضا. حتى أن اللقاء بأخ لم تره منذ عشرين عاما كفيل بإزالة غبار تلك الأعوام، واستئناف العلاقة بكل حميميتها، كأنها لم تنقطع قط...
رغم عملي تحت قيادة الأخ منصور، وتتبعي لأخباره فيما بعد، خاصة دوره في قيادة الانتفاضتين الفلسطينيّتين، إلا أنني لم أعرفه على حقيقته إلا حين فرغتُ من قراءة مخطوط كتاب "على ضفاف النهر". هذا الكتاب فتح لي الأبواب المغلقة في لجنة 77. الكتاب سيرة تجربة مرويّة على لسان أبي علاء منصور، وهو شكل ملتبس من أشكال الكتابة، ليس سيرة ذاتية بالمعنى الذي نعرفه، فالكاتب ليس حريصا فيه على الحديث عن نفسه، بمقدار حرصه على نقل التجربة، والكتاب ليس رواية بالمعنى المستقر لهذا اللون من الكتابة رغم أن شخصيات الكتاب تولد وتبنى وتتفرع وتنهدم أو تذهب إلى مصائرها، بما لا يدع مجالا للشك أنها شخصيات روائية بامتياز، وهو ليس كتاب معلومات توثيقيّ، وإن توفّر على قدر كبير من المعلومات التي تعرف لأول مرّة، وليس كتاب نقد للتجربة رغم أنه لا يترك فرصة لتقويم كل حدث أو شخصية في الكتاب، كما أنه ليس كتاب فلسفة مع أنك تجد فيه تأمّلات لا تشكّ معها أن كاتبها قضى وقتا طويلا في صياغة مفاهيمه عن الكون والحياة والإنسان، ناهيك عمّا ستجده من شطحات شعرية بين دفّتي الكتاب.
ومع أن الكاتب لم يضع على غلاف كتابه أية صفة تحدّد تصنيفه في لون معين من ألوان الكتابة، إلا أنني أميل لوصفه بالسيرة الروائية، ولا أشكّ للحظة أن هذا الكتّاب إذا قُدِّر له أن يقع بين أيدي روائيين موهوبين، فسيكون مولدا لروايات كبيرة وجميلة. إن كتابا كهذا إن لم تكن رواية فهي أمّ الروايات.
وإذا كانت أهميّة الكتاب تأتي في المقام الأول من كشفه لمعلومات لم نكن حتى نحن أبناء التجربة نجرؤ على الاقتراب منها أو السؤال عنها، فإن الكتاب برأيي ربما لا يكون مسبوقا من حيث تقديمه للفدائيّ كإنسان طبيعي بعيدا صورة البطولة المُتخيّلة الطاهرة. الفدائي في الكتاب واحد من البشر، هو من يطعن الجنود الصهاينة أمام بنك لؤمي في رام الله بكل رباطة جأش، وهو ذاته من يتفتّت قلبه شوقا لفتاة يحبّها. هو من يضحك لنكتة بسيطة ومن يبكي لألم صديق بعيد، من ينتصر في معركة وينهزم في أخرى. هو من يصمد أمام عتاة المحقّقين ومن يمكن أن توقع به امرأة عميلة فتنقله إلى صفّ الخيانة. الفدائي في الكتاب لا يختلف عن الآخرين سوى أن لديه هدف عام قد يحققه أو يموت من أجله، وقد يفشل في تحقيقه، وقد يصل إلى قاع اليأس من تحقيقه. الكتاب يقول لنا إن كل واحد من الناس قادر على أن يكون فدائيا، إذا امتلك القدرة على التضحية من أجل أهداف شعبه في الحرية والاستقلال والانعتاق من العبودية والخلاص من الطغيان والظلم. وأن الفدائي لم يُخلق فدائيّا بمقدار ما صاغته ظروف محدّدة ووضعته في هذه الطريق، فاقتنع بها وسار فيها إلى منتهاها منتصرا أو شهيدا أو محطّما....
وإذا كان من شروط الكتابة الأدبية أن تمنح القارئ متعة ولذّة، فالكتاب برأيي واحد من تلك الكتب التي تأخذ القارئ إلى ذرى الانفعال سخطا ورضى، حزنا وفرحا، ترقّبا وتوقّعا، وتأمّلا، وتحليقا وارتطاما بأرض الواقع. تلك هي لذة القراءة التي تسقط الكتابة الأدبية إذا لم توفّرها للقارئ. والكتاب يعدكم بكثير منها.
لستُ معنيّا في هذه العجالة بتقديم تلخيص لكتاب لا يمكن تلخيصه، فالكتاب تجربة متصاعدة لا بد من السير فيها ومعها، والوقوف على تفاصيلها، كي نُحصِّل المقصود من سردها، لكنّني سأشير إلى ضرورة وضع التجربة في سياقها الزماني والمكاني ومحاكمتها في ظروفها الخاصة التي اجتهد الكاتب في إيضاحها ما استطاع إلى ذلك سبيلا. ربما يتوجّب عليّ أن ألفت النظر إلى أن هذه التجربة ( تجربة منصور ورفاقه في لجنة 77) هي جزء من تجربة تيار عريض في حركة فتح سمّيناه ذات يوم "خط الجماهير" وتبلوّر في أطرٍ تنظيمية ثلاثة هي لجنة 77 التي عني بها هذا الكتاب، والسرية الطلابية ( أو كتيبة الجرمق) التي قادها الشهيد سعد جرادات ثم معين الطاهر، والتنظيم الطلابي التابع للجنة والممتد في ذلك الحين من أقاصي الصين في المشرق إلى أقاصي أمريكا اللاتينية في المغرب.
وإذا كان خط الجماهير لم يعد موجودا- اليوم- كأطر تنظيمية، إلا أنه مبثوث في صدور الرجال والنساء الذين عاشوا التجربة، ولعلّ من الواجب عليهم، أو على نفر منهم أن يكتبوها، أملا في أن تجد من يستفيد منها، ووفاء لأرواح الشهداء الذين حملوها، من أمثال أبو حسن قاسم، حمدي، سعد جرادات، مروان كيالي، علي أبو طوق، أبو خالد جورج، دلال المغربي، مروان زلوم، جهاد العمارين... إلى آخر تلك السلسلة المباركة.