هذا المثقف لهذه المناسبة - احمد دحبور
ما إن تلقيت نبأ رحيل الكاتب العالمي غارسيا ماركيز، حتى قفز إلى ذهني اسم صديقي العزيز جدا صالح العلماني. فنحن من أبناء مخيم واحد جمع طفولتنا معا، ذلكم هو مخيم الثكنة الخاص باللاجئين الفلسطينيين في حمص، وكان صالح قد عاد الى المخيم غير محبط من اسبانيا، مع أنه حاول أن يدرس فيها طب العيون، الا ان مزاجه الأدبي أوقف ذلك المشروع، والطريف أن أهله البسطاء الطيبين لم يلوموه على تركه الدراسة، وتركوا الأمور تمشي في مقاديرها متكلين على الله، ولم يكونوا يعلمون أنه جلب من اسبانيا ما هو أهم بكثير من شهادة الطب، اذ لم تمر بضع سنوات حتى أصبح أشهر مثقف عربي من المتعاملين مع اللغة الاسبانية.
ولعلنا نذكر معا، أنا وصالح، تلك المصادفة الطيبة التي فتحت له هذا الباب، فقد كنت في احدى زياراتي إلى موسكو يوم تعرفت على شاعر شاب - يومذاك - من تشيلي، اسمه عمر لارا، وقد جند السوفييت ثقلا اعلاميا للتركيز على هذا الشاعر، فكان من نصيبي نسخة باللغة الاسبانية من احدى مجموعاته الشعرية، فحملت النسخة الى صديقي وابن مخيمي صالح، سائلا أن يعطيني ولو فكرة عن هذا الشاعر الذي صرصعونا به في موسكو. وكانت المفاجأة المذهلة أنه بعد ثمان وأربعين ساعة فقط، أتاني صالح بمجموعة عمر لارا وقد نقلها إلى العربية بمستوى متميز من نصاعة اللغة وتلقائية الصياغة، ولم أكن كسولا، فقد أخذت ما ترجمه صالح وأرسلته إلى شاعرنا الكبير محمود الذي كان يحرر مجلة «شؤون فلسطينية».
ذهل محمود درويش بالمفاجأة، فرد علي برسالة مقتضبة يقول فيها: من صالح علماني هذا؟ أرجو أن تسارع إلى تأميمه!! واطلب منه أن يبعث إلي بشيء مما ينقله عن الاسبانية.
وأن يأتي تشجيع بهذا الحجم من شاعر مثل محمود درويش، كان أمرا مثيرا للغبطة والفرح لدى صالح الذي سرعان ما نقل إلى العربية مجموعة شعرية للاسباني الكبير رافائيل ألبرتي الذي أعطاني السوفييت، بوصفي أحد الضيوف، نسخة من كتابه فأعطيتها بدوري لصديقي صالح، فقام بدوره بترجمتها فورا إلى العربية، وأصبح في المكتبة العربية اسم كاتب جديد يترجم عن الاسبانية، اسمه صالح عمر العلماني..
غني عن القول ان ترجمات أبي عمر، قد لفتت أنظار عدد من الناشرين العرب، وتدفقت عليه الطلبات حتى أصبح الاسم الأبرز لدى العرب في مجال تعريب الأدب الاسباني..
ولا أزال أذكر ذهول الكاتب الكبير المرحوم سعيد حورانية، وأنا أطلعه على نص نقله صالح من أدب لوركا، وكان بعنوان «شؤم الفراشة» حتى أنه أشار إلى ذلك في محاضرة له ألقاها على منبر المركز الثقافي العربي في دمشق، مع أن أي قريب من عالم المرحوم سعيد حورانية، يعرف كم كان هذا الكاتب المتطلب ضنينا في الاشادة بالأسماء الجديدة..
وكما هو متوقع مني، أنا المتباهي بمعرفة صالح وصداقته، رحت ألح عليه أن يترجم رائعة ماركيز «مئة عام من العزلة»، الا أن صالحا تحفظ قائلا إن القارئ العربي لا يزال يذكر ويشكر ترجمة د. سامي الجندي لتلك الرواية مع أنه عربها نقلا عن الفرنسية لا الاسبانية، ولكن صالحا يأمل أن يعيد تعريبها ذات يوم، ولو بعد بضع سنين.
وها هو ذا صالح يحقق أملي قبل أمله، فأفاجأ، منذ أيام، بصدور «مئة عام من العزلة» وقد نقلها صالح، بلغته الرشيقة البهية، إلى اللغة العربية.. يا الله، كأن حظي مع صديق العمر صالح علماني، ان نواصل الحوار حتى بعد المسافة الجغرافية التي تفصل ما بيننا هذه الأيام، ودعوني أعترف بأن شيئا من النرجسية قد هيأ لي أن هذه الترجمة، انما تمت - بمعنى ما - من أجلي أنا، ولكن ليس لهذا السبب أشكر صديقي أبا عمر، بل أشكره لأنه هو: الصديق الصدوق أبو عمر، فأحييه وأحيي لهذه المناسبة رفيقة عمره أم عمر، نادية وأغبطها على وقوفها إلى جانب سفير اللغة الاسبانية لدى العرب، أخي الحبيب، صالح علماني واسمه للمناسبة: علماني بفتح العين واللام لا كما يغيظني بعض الأصدقاء الذي ينطقونه بكسر العين وتسكين اللام، حتى أنه استسلم لهذا الالحاح وأصبح يرضى باسمه حسب ذلك النطق. وفي كل خير.
ويبقى، بعد كل شيء، ان نطلب الرحمة لأديب كولومبيا والعالم غابريل غارسيا ماركيز الذي كان رحيله المباغت مناسبة لكتابة هذه الخاطرة.
ـــ