جواد أبوعيشة ترك عائلته دون وداع ولقاء مجهول الموعد
بتجاعيد وجهه تقرأ قصة كفاح وألم مستمر، وببريق عينيه الذابلة ترى طيف عائلته البعيدة عنه، وبرجفه يديه وهو يرتشف رشفة من فنجان قهوته تتملكك مشاعر الحزن والحيرة والقلق، وبهيئته المعهودة يجلس هادئاً على كرسيه، وتندفع الكلمات من بين شفتيه بصعوبة بالغة، ليسرد تفاصيل حكايته المشابهة لمئات الحكايات الأخرى، والتي ما هي إلا قصة تُبكي الحجر لما بها من مآسي وآهات مكبوتة تحاكي واقع الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات، معاناة رجل ضحى بعائلته في سبيل الوطن والقضية الفلسطينة، لأنه يعتبر العائلة والوطن جزء لا يتجزأ حيث الترابط الجدلي بينهما، ليجد نفسه وحيداً في مواجهة مصاعب الحياة.
ترك جواد أحمد عبد الغني أبو عيشة أولاده الثلاثة نور إبنة الست سنوات، وحمزة إبن التسعة أعوام، وأصغرهم ميلاد إبن الأربعة أشهر، وزوجته في بيت مقصوف في حروب لبنان آيل للإنهيار في شهر فبراير من العام 1992م في جنوب لبنان رغماً عنه، بعد إعتقال مخابرات الجيش اللبناني له لطبيعة عمله في المقاومة الفلسطينية التي تتنافى مع قرار لبنان بإلغاء المليشيات، وإعتبار أي سلاح غير سلاح الجيش غير شرعي، وبموافقه القيادة الفلسطينية في تونس.
ومكث جواد في السجن اللبناني إثنا عشر يوماً، وشاءت الأقدار أن يحدث ظرف عسكري في السجن الذي يقبع فيه جواد ليكون بمثابه طاقة الفرج له، فإستطاع الهروب من السجن بمساعدة من إحدى سيدات العمل النسائي الفلسطيني في لبنان.
ويقول جواد:"لأنني لست لاجئاً من أبناء المخيمات الفلسطينية كان وجودي غير قانوني في لبنان، لعدم حملي للأوراق الرسمية فأجبرت على المغادرة على أن أحل مشكلتي خارج لبنان".
ولم يكن يعلم جواد أن هذه المرحلة ما هي إلا بداية رحلته القاسية في السجون، بعيداً عن عائلته فأثناء مغادرته للبنان على الحدود السورية اللبنانية أوقفته دورية للجيش السوري، ولأن عمله كمقاتل في منظمة التحرير تحت قيادة ياسرعرفات، كان لا يتفق مع السياسة الرسمية السورية في ذلك الوقت، فإعتُقل أمنياً ولم يكن له مصير سوى السجون السورية، لأن الأردن رفضت دخوله لها بسبب العلاقات المتوترة في ذلك الوقت بين الأردن وسوريا.
وجاءت اتفاقية أوسلو عام1993م لتكون المنقذ الوحيد لجواد من ظلمات السجون السورية التي عانى فيها شتى أنواع التغذيب، وأدرك أن له دوراً جديداً في المنظمة، فبدأ بالأتصال بمكتب منظمة التحرير الفلسطينية في دمشق لعله يستطيع إنقاذ نفسه من حياة السجون، وفعلاً نجح في ذلك حيث وفرت له كل الوسائل للهجرة ومغادرة سوريا إلى اليمن، ومكث جواد في اليمن حتى عودة القوات الفلسطينية إلى الوطن تنفيذاً لبنود إتفاقية أوسلو في شهر مايو من العام1994م، ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان حيث لم يسمح له بالدخول عبر العريش، ورجع من حيث أتى في نفس الطائرة ليقضي شهراً كاملًا على الحدود اليمنية-السعودية حتى تجد الجهات الرسمية الفلسطينية مخرجا له للعودة الى أرض الوطن، ولكن دون جدوى فلم يستطع أحد تلبية رغبته، وعاد إلى اليمن التي كانت تعاني في تلك الفترة من حرب أهلية ضارية بين الشمال والجنوب.
وبعد كل هذه المعاناه فتحت أبواب السماء لجواد من جديد للعودة إلى فلسطين، عندما سمح بتوسيع إنتشار قوات السلطة الفلسطينية في محافظات ما بعد غزة وأريحا، فتلقى طلباً من السلطة بالمجيء من الخارج لحاجتهم له فعمل على إصدار هوية وجواز سفره له، ويقول جواد:"ولأن مثل هذه الفرصة في نظري نقطة من التاريخ ولا يجوز إهمالها لم أعمل على إلحاق اسرتي بي فجئت منفرداً لإستطلاع الأوضاع في الوطن".
وعمل جواد على إصدار تصاريح لعودة عائلته إلى فلسطين، وظل جواد على أمل أن يُلحق أٌسرته به في الوقت المناسب، ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن فبسبب المعطيات في فلسطين وتطور الأحداث لصالح إسرائيل على حساب السلطة الفلسطينية أصبح طرح قضية جواد وأمثاله في ملف الماضي.
فكر جواد في العودة من حيث أتى فرغم رضاه وسعادته بوجوده في أحضان وطنه إلا أنه كان يأمل أن تعمل المنظمة التي يتنمي إليها وهي السلطة الفلسطينية، والشعب الذي لطالما حلم بالعيش معه على تحقيق رغبته ولم شمل عائلته من جديد، لأنه من ضمن شروط إتفاقية أوسلوا يحق للمقاتلين الفلسطينين خارج بلدهم بإلحاق أسرهم بهم على أن تلتزم السلطات الإسرائيلية بتحقيق ذلك بعد ثلاثة أسابيع من وصول المقاتلين لفلسطين، ولكن هذا البند لم يكن سوى حبر على ورق، وكل آمال جواد تبددت.
ووجد جواد الجانب الاسرائيلي كعادته يبحث عن حجج للتنصل من هذا الحق حيث إدعت بأن الأحداث الأمنية والتفجيرات في المدن الكبرى (تل أبيب والقدس)لا تسمح بحل القضايا الانسانية حيث أن للأمن عندهم قدسية خاصة، ولم يكن بيد الطرف الفلسطيني أن يأتي بموافقه حيث أن الطرف الإسرائيلي هو الأقوى على الأرض وهو من يملي الشروط .
ويقول جواد :" لم أدخر جهداً بعدما أصبح حق عودة أبنائي إلي، قضيتني الشخصية فتوجهت للمسؤولين وإستثمرت كل الجهود والمساعي ولكن دون جدوى، وبدأت الأحداث في الأراضي الفلسطينية تزداد سوءاً يوماً بعد يوم مما أفقدني القدرة على الحل الإنساني لقضيتي"
ويضيف:" الحق هو الحق ولا يجوز التنازل عنه وسأبقى وفياً لهذه القضية، قضية أبنائي وقضية الوطن حيث أنهما جزء لا يتجزأ إلى أن أضم عائلتي إلي من جديد وسأظل أطرق باب الخزان".
ومنذ إثنين وعشرين عاماً لم يرى جواد عائلته وأولاده الذين كبروا بعيدين عن حضن أبيهم، وزوجته التي كانت بمثابة الأم والأب لأبناءها في ظل غياب والدهم عنهم، ويضيف جواد :" وبسبب هذه الهجرة القسرية التي أُجبرت عليها أصبح بيني وبين أبنائي فجوة كبيرة تجعلني أشعر بحالة من اللاإنسانية التي هي أقصى علي من السجن، وهكذا أجد نفسي حائراً عاجزاً عن التقرب من أبنائي، وهذا ليس فقط حالي بل حال 500 أسرة فلسطينية موجودة في لبنان تفرق أبناؤها عن أبائهم في حالات مماثلة ".
ورغم كل ما حدث لجواد إلا أنه لا زال يحلم كل ليلة بلحظة لقاءه بإبنائه وضمهم إلى صدره ولو مرة واحدة قبل أن يفارق الحياة، ولكن الايام ما زالت تمضي دون عودتهم وتفشل في كل مرة بلم شملهم .
جواد الآن إستطاع بظروف خارجة عن المنطق والمألوف أن يبني مسكناً لعائلته عندما تسمح الظروف لهم بالعودة إلى أرض الوطن بمبلغ قليل من المال وبعض وسائل إجتهاده الشخصي، وبمساعدة أصدقائه على قطعة من الأرض تبرعت بها إحدى عائلات قرية بيت وزن .
ويشير جواد :" وحلم عودة عائلتي إلى الوطن هو حلم الكثيرين غيري وسيصبح حقيقة إذا ما توافرت السياسة الناجعة، ولست ممن حلم بعسل أوسلو والشقق السكنية في الأبراج والسيارات الفارهة والوظائف".
ويضيف وملامح الحزن بادية على وجهه:" الوطن أصبح مجرد معتقل مغلف بشعار وطني، وبهذا فقدت عواطف ومشاعر وأفكار كانت تشكل معالم شخصيتي وضرورية للحياة الإجتماعية المحلية، ولم أعد كما قال الشاعر الفلسطيني عبد الرحيم محمود " فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدا"، بل أصبحت وكما في رواية رجال في الشمس لغسان كنفاني أختنق في داخل خزان الحياة وعاجز عن دق جدرانه فاليد الواحدة لاتصفق" .
الأن بعد مرور كل تلك السنين حمزة إبن جواد البكر في الثلاثين من عمره متزوج من فلسطينية مهجرة من مخيم صبرا وشاتيلا، ولديه بنتان ويسكن مع والدته في نفس البيت المقصوف، ويعمل حارساً لمحل للأدوات الصحية في جنوب لبنان.
أما نور والتي تبلغ من العمر الثامنة والعشرون عاماً متزوجة من رجل فلسطيني من مخيمات سوريا ولديها ثلاثة أولاد، ولم تسنح الفرصة لحمزة ونور لإكمال تعلمهم بعد الصف العاشر حيث لا يسمح بدخولهم للمدارس الحكومية اللبنانية بسبب عدم وجود وثائق رسمية تدل على هوياتهم، وأصغر أبناء جواد الآن في العشرين من عمره حصل منذ فترة وجيزة على شهادة في الإدارة والأعمال من إحدى الجامعات اللبنانية .
وتقتات العائلة على معاش جواد الذي يتقاضاه من السلطة الفلسطينية ويبعث بأكثر من نصفه إليها في لبنان، ويترك الجزء القليل ليؤمن لنفسه أبسط متطلبات حياته .
وفي الوقت الحالي ليس لدى جواد سوى طريقة واحدة للإطمئنان على أبنائه من خلال مكالمات هاتفية متقطعة كل بضعة شهور، ورغم التطور التكنولوجي إلا أن جواد لا يمتلك هذه الأدوات التي تمكنه من التواصل مع أبنائه صوت وصورة، وهو أيضا لا يؤمن بهذه الوسائل الحديثة.
ورغم كل هذه الظروف التي تحول بينه وبين عيشه مع عائلته تحت سقف واحد ما زال لدى جواد ذلك الإيمان القوي بأن الله سيحقق حلمه وحلم كل من يعاني مثله، ويقول وملامح التحدي والأمل تغزو وجهه:" لأن لمثل شعبنا مكان على هذه الأرض المباركة ومثلما نستطيع كتابة الشعارات عن حقنا نستطيع أن ننتزع هذا الحق فكما قال شاعرنا العظيم محمود درويش على هذه الارض ما يستحق الحياة .