يوم التقيت " بيكت " في شارع بابل ببرلين- فاروق يوسف*
ماذا كان صموئيل بيكيت يفعل في شارع بابل إيليه ببرلين؟ بورتريه بالحجم الطبيعي. صورته الشهيرة. رجل صامت يذكّر بحصان نافر. الصورة التي تشبهه تماماً كما لو أنها قفزت من مخيّلة قرّائه. "إنه أنا. عليك أن تصدّق أن ما من صورة لي تشبهني"، يقول. كانت صورته تلك من صنعه.
أقف امام تلك الصورة لأتذكر السلّم الذي ارتقيته ذات مرة من أجل أن أصعد إلى أعلى بناية لأرمي بنفسي من على سطحها متأثراً بالصمت الذي غرقتُ فيه منتظراً غودو. نظرتُ إلى العالم من فوق فلم أر شيئاً يستدعيني إلى الهبوط.
أخبرني حسن حداد أن كلمة "إيليه" تضاف إلى اسم الشارع حين يكون مشجراً. لكن بابل كانت تستدعي خطوتي للمشي في شارع الموكب. كان أثر الرجل الذي سعى إلى أن يوهمني بأننا كنا في امستردام، لا يزال يقيم تحت جلدي. خيِّل إليَّ أن زوجته التي دعتني إلى بيتها، هي نوع من زوجة نبوخذ نصر التي بنى ملك بابل الجنائن المعلّقة من أجلها. كل امرأة تستحق أن تُبنى من أجلها جنائن معلّقة.
أقف أمام بيكيت لأكفّ عن السؤال. كان الرجل الصامت قد نشر أسئلته اليائسة عبر العالم. كنت أفتح دفاتري المدرسية لأجدها مسطّرة كما لو أن قبائل قد مشت بها من بخارى إلى بغداد. أرى الأقدام من غير أن يسمح لي الوقت في أن أعلو بنظري إلى الرؤوس. هناك قطة نائمة بخيالها في منعطف الشارع.
لم أسال حسن: "أين الأشجار التي حدثني عليها؟". كانت هناك أشجار يوم أقيم الشارع. ولكن ما من أثر لبقايا شجرة. هناك أصل متخيَّل لكل شيء. الشيء يحارب نفسه لكي يكون لا شيء. خلاصة لا تنفع.
كنت مشدوداً إلى بناية، شرفاتها أشبه بالشاشات الزجاجية البيضاء. كان بيكيت يحدّق فيَّ. أنا رجل صامت مثله. أتوقع أن أصرخ في كل لحظة: "يا أبي"، وهو النداء الذي لن ينتظره أحد. كانت لغتي مليئة بالتأوهات. قال لي يوسف الناصر، وهو رسام عراقي يقيم في لندن منذ رحلة نوح الأولى: "إنها تنهدات".
كان صديقي يصف رسائلي التي كنت أبعث بها إليه من بغداد. كنت يومذاك أسعى إلى إبكائه. لمَ لا يبكي وهو عراقي مثلي؟ سنبكي لأننا نواجه العالم من غير أسئلة. كنت أبكي من أجل أن أُبكي العالم من حولي. حفلة منسيين يتامى وشعراء غدر بهم البيت الأول من القصيدة.
لقد خُيِّل إليَّ أن يوسف الناصر يوم التقيته بعد فراق ثلاثين سنة، كان يستفيق من نومه بين جملتين ليعود بعدها إلى عالمه الذي قرر أن يرسمه بالأسود. لن يتمكن يوسف من رسم بابل إيليه بالأسود وحده.
كان بنطالي بنفسجياً وجواربي وردية. يحسدني المثليون على إريحيتي المثالية. لن يضحك بيكيت. لم يكن الرجل حزيناً بل كان يائساً. يحب العراقيون ارتداء الملابس ذات الألوان الصارخة نكايةً بالرمادي والزيتوني في الملابس الحزبية. كنت سعيداً بوقع خطواتي على شارع رطب. متى توقف المطر؟ لن يكون في إمكان بيكيت أن يجيبني. كان في صورته ينظر إلى ما يتجاوزني. تخترقني نظرته كما لو أني كنت ناحلاً يتذكر بيت المتنبي: "لولا مخاطبتي إياك لم ترني". كنا إثنين في شارع خصّه الله بالسعادة. سعادة وثنية تحطّ مثل طائر على كتف الكاهن الذي عثرتُ عليه وحيدا في الحانة. قال لي: "لقد رأيتك تقف غير مرة متأملاً صورة بيكيت. كان صديقي". كان لبيكيت أصدقاء إذاً، وهذا ما لم أكن أتوقعه. لقد خيِّل إليَّ أنه ذهب وحيداً ليكون صديقا لله في وحدته. ضحك صاحب الحانة، قائلاً: "كان بيكيت ظريفاً مثلك وهو يذكر صديقه في الآخرة. هل قلت إن الله كان اسمه؟ إنه اختراع اسلامي. أليس كذلك؟". كان عليَّ أن أكون مثالياً في ردود أفعالي. فصاحب الحانة كان كاهناً، وهو في الوقت نفسه كان صديقا لبيكيت. هل كان عليَّ أن أمثّل دور أنكيدو في انتظار أن يظهر جلجامش؟
كان معلّم التاريخ في المدرسة الثانوية يشبه جلجامش. نسمّيه جلجامش ونهرب إلى المقهى الذي كنا نتصور أنه الحانة التي لجأ إليها أنكيدو. "لكي تبقي مذاق العنب تحت لسانك أنصحك بشرب النبيذ"، قال لي صاحب الحانة وهو يضع كأساً حمراء أمامي. كنت أفكر في الطبيعة التي أحبّها جلجامش وهو يقتفي أثر الأفعى في شمال لبنان. الطبيعة ليست صورتها. لكن صورتها تلهم. نحن نقيم في الصور وننسى الطبيعة.
أستعيد ذكرى صورة التقطها لي أحد أصدقائي وأنا جالس في مقهى البرلمان. كان زجاج المقهى يشفّ عن جامع الحيدرخانة. كانت بغداد كلها هناك. الحفاة الملوك الذين يرتادون الأزقة رافعي الرؤوس هم ملائكة الأحياء الجانبية. لقد خلقوا من أجل أن يكون لتلك الصورة معنى. الشاب الذي كنته لم يكن يحدّق في المكان إلا من خلال سيرة زمان، كانت ميزاناً لما يمكن أن يقع في كل لحظة مقبلة. كنت أقيم في الزمان متأملاً مكاناً سيفنى. ألقي خطواتي على رصيف الشارع البرليني لأنصت إلى وقعها القادم من شارع الرشيد. سبقني المكان ليجدني قد سبقته.
أنا في برلين. ما الذي كنت أفعله هناك؟ لكن بيكيت الذي صار جاري لم يعش في برلين يوماً واحداً، مع ذلك من يرى صورته على واجهة الحانة لا بد أن يظنه كائناً برلينياً. كنت في برلين إذاً وليس في مدينة أخرى. سيكون عليَّ بسبب ما أرى، أن أصدّق الكذبة. أنا كائن برليني مثل بيكيت تماماً. لو كان بيكيت حياً لما سمح لي بمثل ذلك المزاح. كان بيكيت إيرلندياً، على الرغم من أنه كتب بالفرنسية. لم تكن عراقيتي قادرة على أن تنافس إيرلنديته. الرجل الذي محا بقوة شيئاً من ذاكرتنا البلاغية، نجح في أن يضع دبلن على خريطة الصمت باعتبارها عاصمة اللاكلام.
يسألني صاحب الحانة: "أين تقيم؟". أجيبه: "33 بابل إيليه". فيردف: "ستصلك صحيفتنا أسبوعياً. إنها أوراق تهذي بما لم يتمكن سكان الحي من إبقائه في دائرة ما لا يتذكرونه. هذه الحياة تسخر منا بسرعة مرورها. نحن نحاول أن نوثّق ما نشعر أنه يذهب سريعاً إلى النسيان من الوقائع".
لن يفكر أحد في خيانة الصمت. كنت أمشي في ذلك الشارع كمن يلقي بخطواته بحذر على أرض الطائرة في الممر الضيق الذي يقود إلى قمرة القيادة، خشية أن يصرخ أحد المسافرين "الارهابي بيننا". هل كان بيكيت يعيش حياته غاصاً بتلك الصرخة؟
أنا برليني مثله تماماً. لكننا لسنا كذلك. هناك حواس ضالة لم تعد تشبهنا، هي التي تمشي بجثتينا بين ممرات الماضي الضيقة. نمشي معاً. أتخذه مرشداً سياحياً وأضحك من عالم صرنا نخدعه بالطريقة التي كان من قبل يستفزّنا برذيلتها. هي فرصة لي لكي أفكّ ارتباطي ببابل التي أعرفها لأستأنف العيش في الكوكب الجديد، الذي صار بيكيت بالمصادفة واحداً من رواده. "كان صديقي"، الجملة التي قالها صاحب الحانة وقد علقت بخيالي، صارت ذريعة للاقتصاص من رجل حاول أن يعلّمنا الصمت. "ألا تبالغ؟" خُيِّل إليَّ أنه صار يشفق عليَّ من عذاب الضمير. أنا ابنه الذي ورث شجرة وحيدة في حديقة ثلجية. في اللحظة التي وصلت فيها إلى بيتي، فارقني شبحه وكنت وحيداً اضرب الأرقام السرية لينفتح الباب على حياة لم أعشها من قبل.
كنا غريبين التقيا في شارع بابل إيليه بخفة، وافترقا بالخفة نفسها.
* كاتب عراقي عن موقع الامبراطور