شيء عن جبرا ابراهيم جبرا- يحيى يخلف
منذ عشرين عاما على وجه التقريب رحل الاديب الفلسطيني الكبير جبرا ابراهيم جبرا عن عمر يناهز الرابعة والسبعين عاما، عاش منها ثمانية وعشرين عاما في فلسطين، وقضى ما تبقى في العراق، العراق الذي أحب، والذي كتب فيه اعماله الروائية والنقدية، وترجماته، ورسوماته ولوحاته التشكيلية.
لم يكن أهم مبدع فلسطيني فحسب، بل كان يشغل مساحة هامة في المشهد الثقافي العربي والعالمي، ولعلنا جميعا نتذكر رواياته التي اضافت الجديد للرواية العربية المعاصرة، مثل البحث عن وليد المسعود، يوميات سراب عفان، صيادون في شارع ضيق، السفينة وغيرها، وكذلك ترجماته العبقرية للعبقري وليم شكسبير، وترجماته ايضا لبعض روايات اندريه مالرو، واوسكار وايلد، وصاموئيل بيكيت، واخيرا رواية الصخب والعنف للاميركي وليم فوكنر، واعماله النقدية العديدة التي جمعها كتاب: أقنعة الحقيقة، وأقنعة الخيال.
عرفته في بغداد منذ منتصف السبعينيات عندما كنت اشارك في فعاليات مهرجان المربد الشعري، الذي كان أهم حدث ثقافي سنوي في العالم العربي، وصرت أزوره في منزله الكائن في حي المنصور في بغداد، هذا البيت الذي كان يجمع لنا فيه كبار ادباء العراق، والذي كانت تزدحم في صالته وغرفه رفوف الكتب، وقد صار البيت يضيق يوما بعد يوم بهذه الكتب التي تتدفق عليه كما لو انها موجات بحر أو تيار نهر.
وكانت زوجته (ام سدير) تشكو أمامنا من ازدحام البيت بالكتب التي يصطف بعضها على رفوف المكتبة، وبعضها الآخر في أركان الغرف.
عرفته، وعرفت من خلاله الشاعر عبد الوهاب البياتي، والروائي الكبير عبد الرحمن منيف، وأدباء آخرين، عندما كان الزمن مديدا، والعراق في أوجه، وبغداد في قمة ألقها، وعرفته في سنواته الاخيرة عندما ضاق به الحال، وداهمه الفقر بعد ان سلطت على العراق العقوبات، وانهار الدينار العراقي، وكان في مرحلة الكهولة يعيش من راتبه التقاعدي، الذي كان يمكنه من ان يعيش حياة يسيرة، ثم اصبح هذا الراتب بعد ان انخفض بل انحدر سعر الدينار، لا يساوي اكثر من اربعين دولارا.
وأذكر مرة، وكنت مع اصدقاء نلبي دعوته للعشاء في مرحلة ضيق ذات اليد، سألته كيف تعيش؟ فأجابني انه كان يصرف من مدخراته، وبعد ان نفدت هذه المدخرات صار يبيع شيئا من ممتلكات البيت، وفي تلك الايام صار يبيع سيارته قطعة قطعة، مرة يبيع الابواب، ومرة اخرى يبيع المقود، وهكذا، فعدت أسأله: وأي قطعة من السيارة بعتها لتعد لنا هذه الوليمة، فأجاب ضاحكا: بعت عجلات السيارة. ضحك وضحكنا، ولكن في وقت لاحق تدخل صديقنا عزام الاحمد وكان سفيرا لمنظمة التحرير في العراق لدى الرئيس ياسر عرفات، وكان الرئيس عرفات كعادته شهماً وكريماً، فخصص له راتباً شهرياً يمكنه من العيش الكريم.
وعلى ذكر الرئيس عرفات، فقد حدثني الاخ عزام، ان ابو عمار رغب في ضم جبرا ابراهيم جبرا الى عضوية المجلس الوطني الفلسطيني فاعتذر جبرا متذرعا انه قد تجاوز الستين من العمر آنذاك، وأصبح كهلاً، ورأى انه يتعين ان تعطي منظمة التحرير الفرصة لجيل الشباب.
وبعد سنوات انعقد المجلس الوطني وانتخب الشيخ عبد الحميد السائح رئيسا للمجلس الوطني وكان عمر الشيخ السائح رحمه الله قد تجاوز الثمانين، وبعد المجلس التقى عزام بجبرا ابراهيم جبرا، ومازحه عزام وقال له لقد نفذنا رغبتك ووصل جيل الشباب الى رئاسة المجلس، فضحك جبرا وقال بما معناه: "ابو عمار أدرى بمصلحة شعبه، وأثنى على الشيخ السائح ورزانته وحكمته وخبراته".
تمر السنون، ونصل الى الذكرى العشرين لرحيل جبرا ويثبت الزمن ان جبرا رحل، لكن ابداعه لم يرحل.