اميل حبيبي، المثقف الاشكالي، برؤية نبيه القاسم- احمد دحبور
ناداني الى هذا الكتاب سببان لا واحد، الاول انه حول ابي سلام، اميل حبيبي اديبنا الكبير، والثاني انه بقلم د. نبيه القاسم، الصديق الصدوق الثابت في الوطن المحتل، كأحد حراس الثقافة الوطنية الفلسطينية.
وان يكتب ناقد نزيه مثابر، مثل د. نبيه القاسم، بحثا عن قامة استثنائية بحجم اميل حبيبي، معناه ان القارئ العربي مدعو الى وجبة معرفية استثنائية، وان عليه استنفار حواسه وذائقته النقدية ليكون جديرا بالاقبال على لحظة الفرح الثقافي هذه.
واذا كان د. نبيه القاسم قد تولى في كتابه الثمين هذا، مهمة التعريف بالعالم الشاسع لاميل حبيبي، فإن من حقه علينا ان نستذكر بعض علاماته الفارقة، فنبيه القاسم، هو ابو فريد نبيه فريد قاسم حسين، وهو ابن عم شاعرنا الكبير سميح القاسم، وهو كسميح، من مواليد الرامة في الجليل - قضاء عكا، وقد تلقى في قريته هذه دروسه الاولى من الابتدائية الى الثانوية، ثم نال تباعا شهادات الاجازة في الادب ثم الماجستير فالدكتوراة، وكانت اطروحته حول الفن الروائي عند عبد الرحمن منيف.
عمل في تدريس الادب العربي في الكلية الاكاديمية العربية - حيفا، وترأس معهد الدراسات للتعددية الثقافية، واشرف على اصدار سلسلة كتب تندرج تحت اسم «مدارات» باللغات العربية والعبرية والانكليزية، وقد بلغ عدد كتبه التي اصدرها منذ عام 1979، ثلاثة وثلاثين كتابا شملت القصص والابحاث والدراسات النقدية والتغطية الاجتماعية، فله على سبيل المثال كتابان حول طائفة الموحدين -الدروز، هما «الدروز في اسرائيل: البعد التاريخي والراهن» و«واقع الدروز في اسرائيل» فضلا عن دراسات في التراث العربي، ولغز اخوان الصفا، ناهيك عن كتابيه «في الهم الثقافي» و «هذا الزمن العربي» اما في العمل الابداعي - القصصي، فنذكر من انتاجه «ابتسمي يا قدس» و «آه يا زمن».. ولا يزال ابو فريد في اوج عطائه ومتابعاته للشأن الثقافي.
ماذا عن اميل حبيبي؟
اما كتابه الذي هو موضوع هذه الزاوية، فهو بعنوان «اميل حبيبي - المثقف الاشكالي»، وحسنا فعل د. القاسم حين اطلق على ابي سلام هذه الصفة، فقد كان اميل حبيبي مثقفا اشكاليا بامتياز. سواء أكان ذلك من حيث اختياراته السياسية، ام من حيث الشكل السردي الذي اختاره، فهو اذا كان كاتب قصة قصيرة بامتياز، كما تدل على ذلك مجموعته الشهيرة «سداسية الايام الستة» فإنه اجترح شكلا في العمل الروائي اطلق عليه اسم «الخرّافية» تيمنا بتسميات اسلافنا لحكاياتهم المسليّة، وله في ذلك اربع خرّافيات، هي على التوالي:
الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد ابي النحس المتشائل.
لكع بن لكع «ونلاحظ انه حذف الالف من كلمة ابن، في اشارة مجازية منه الى ان اسم لكع هو اسم علم».
اما عمله التالي فكان بعنوان «اخطية» ليتلوها برائعته الشهيرة: سرايا بنت الغول. والواقع ان الراحل الكبير ابا سلام، لم يترجل بعد اعماله السردية الاربعة هذه، بل ظل في الساحة الادبية يصول ويجول، يملأ الدنيا ويشغل الناس، واذا جرّت كتاباته عليه بعض الخصومات والعداوات، فإن سيرته الادبية، وحضوره القوي، ومتابعاته الصحفية، فضلا عن متابعات النقاد لاثر المتشائل، جعلته الاسم الابرز في النثر الفلسطيني المعاصر. وكان قد توج مشروعه الثقافي بكتاب يحمل دلالته في عنوانه: «عالم بلا اقفاص».. ولكننا لا يمكن ان نغادر سيرته قبل الاشارة الى دوره الرائد في تحرير جريدة «الاتحاد» التي كانت تصدر في حيفا، فضلا عن تأسيسه مجلة «مشارف» التي ظل رئيسا لتحريرها منذ بدايتها عام 1995، حتى رحيله عام 1992، وكان قدر رأى النور في حيفا - مع ان اسرته من شفاعمرو - واوصى ان يكتبوا على شاهدة ضريحه: «باق في حيفا».
طبيعي ان هذا اختزال مؤلم لسيرة احد اهم المثقفين الفلسطينيين في القرن العشرين، وحسبي اني سأحاول، من خلال هذه النافذة، تعريفا بقامته الشاهقة التي تظل علامة فارقة في المشروع الثقافي الفلسطيني.
على اني لن اخرج، في تعريفي هذا، عن مسار كاتبنا الصدوق د. نبيه القاسم، بعنوان: اميل حبيبي، المثقف الاشكالي..
خطة الكتاب
ينزع هذا الكتاب بصفحاته المئتين، الى تغطية المشروع الذي دأب عليه اميل حبيبي كاتبا وصحفيا ومناضلا. وقد رأى د. القاسم ان يبدأ بتشخيص الحالة التي كان يمثلها ابو سلام بوصفه مثقفا اشكاليا يتبع القضايا الشائكة او تتبعه، بادئا بعمله - الذروة وهو «المتشائل» مرورا بروايتيه لكع بن لكع وسرايا بنت الغول، وصولا الى موقعه الثقافي والسياسي بوصفه واحدا «من العصافير المتمردة على اقفاصها» واذا كان من الطبيعي والمتوقع ان يحتل «المتشائل» صدارة اي تعريف باميل حبيبي، فهو ليس درة اعماله وحسب، بل ان المتشائل هو نفسه اميل حبيبي، كما صرح بذلك ابو سلام شخصيا غير مرة على امتداد سيرته الحافلة.
والحق انه اذا كان بعض المبدعين يضيقون بالتركيز على عمل واحد لهم، وكأنهم لم ينتجوا سواة، فإن أبا سلام كان ينزل ذلك التركيز بردا وسلاما على قلبه، على ما انتجه من اعمال ادبية متنوعة. اذ لم يكن المتشائل بالنسبة اليه بيضة الديك التي لا تتكرر، بل كان المتشائل حاضرا في مجمل اعماله، بوصفه انه هو المتشائل.. بمعنى ان ادبه كان هويته وصورته وواقع حاله منذ كتابة هذا العمل حتى اليوم الاول من الشهر الخامس للعام 1990 يوم انهى سنواته التسعين، تاركا لنا تراثا، قد لا يكون كبيرا بمقياس تعداد الصفحات، ولكن حسبنا ان المتشائل قد تناقلته اللغات الحية، وغير الحية احيانا، حتى لنصعب ان نحصي عدد طبعاته العربية والعالمية. وكانت «سرايا بنت الغول» - حسب تعبير د. نبيه القاسم - هي آهة اميل الاخيرة، وحسنا فعل حين جعلها مسك الختام فهي تتلألأ في عقد انتاجه ببريق خاص ووهج متميز من غير اغفال خصوصية المتشائل لا في ادبه وحده بل في مجمل ادبنا الحديث.
متوالية سردية
يستشهد د. نبيه القاسم برأي الناقد الفلسطيني فخري صالح في ادب اميل حبيبي الذي تتميز اعماله «بتوليدها سلسلة من الحكايات الصغيرة التي يصعب علينا السيطرة على تشعبها الدلالي وانفتاحها على بعضها وتراكبها طبقات فوق طبقات» - انتهى الاستشهاد بفخري صالح، فيما يواصل د. القاسم عرضه للمتشائل مركزا على الشخصية الرئيسة، اي على سعيد ابي النحس المتشائل العربي الفلسطيني الفاقد لشخصيته من حيث هزيمته الروحية التي دفعته الى احضان العدو.
وعلى طريقته المدوية في السخرية، يشير ابو سلام الى ان حياة المتشائل انما استمرت بسبب فضلة حمار! «اذ كان حمار سائب هو الذي انقذه من الرصاص المنطلق نحوه، حين صرع رجال المقاومة أباه فتلقى الحمار الرصاص بدلا منه، وهرب هو ناجيا بجلده الى عكا، ومنها الى لبنان» لكن المتشائل سرعان ما يعود الى البلاد.. والواقع ان شذرة السخرية المرة هذه، ليست الا تعبيرا بلاغيا عن عبث المفارقات في حياة المتشائل، وما كان لابي سلام ان يبدع هذا العمل الكبير - المتشائل - الا بتصعيد المفارقات وضبطها في متوالية سردية، تليق بعرض تاريخ النكبة، ولنا ان نسأل بعد كل شيء وربما قبل كل شيء: من هو المتشائل؟
اظن اننا بحاجة، لاستيضاح الرؤيا، ان نطرح جانبا فكرة ان المؤلف هو المتشائل. ولا يمكن لهذا العلم الفلسطيني ان يكون لا سمح الله، عميلا كما انتهى الامر بالمتشائل، لكننا اذا اعملنا التفكير في تفسير هذه الشخصية المركبة نرانا متفقين مع تفسير د. القاسم بأن المتشائل «يمثل هذا الشعب في كل حالاته، من ضعف وقوة، واستسلام وتمرد.. بل ومن بلادة وذكاء، اما ان يصرح اميل حبيبي بأنه هو المتشائل، فذلك امر لا يدعونا الى الجزع كما جرى مع د. نبيه القاسم، ذلك ان المتشائل هو اميل حبيبي بما هو حالة مركبة من جسارة ويأس، وليس صورة فوتوغرافية عن الشخصية الروائية التي ابتكرها بدراية ودهاء فني، فالمتشائل هو اميل حبيبي، بوصفه صاحب الفكرة الروائية وليس بوصفه حامل رسالة المتشائل، ان الامر على شيء من التعقيد، ولكنه التعقيد الذي ألحق سوء الفهم بكثير من سلوك الكاتب شخصيا، فأن تكتب موضوعا في الملل مثلا، لا يعني ان تكتب قصة مملة، ولكن لا بأس في - ويجب ان تتابع حيثيات الملل حتى تعرف كيف تصفه وتعبر عنه.
ثم.. لا نملك الا المتابعة، لنعرف مصير هذه الشخصية الاشكالية كما رسمها كاتبنا الاشكالي.
الدمعة والبسمة
ينطلق د. نبيه القاسم في فهم شخصية المتشائل، من ان حياة شعبنا تجسد الصراع بين الدمعة والبسمة، واليأس والامل، والتشاؤم والأمل: «فقصة سعيد هي قصة الشعب بكل قطاعاته» وعندما يصرح اميل حبيبي من غير مواربة بأنه المتشائل شخصيا، نكون مطالبين بتفسير ذلك مجازيا، على اساس ان الاسلوب هو الرجل، وليس ان الرجل هو البطل المطلق والوحيد لعمله الفني.
لقد رسم شكسبير صورة خالدة لشخصية مكبث، ولكن ليس معنى هذا بأي حال ان شكسبير هو مكبث الدموي المتعطش للسلطة، وكذلك هو الامر مع متشائل حبيبي، فالشخصية هي المؤلف بوصفها نتاج عبقرية المؤلف، لكن الهوية الشخصية لكل انسان، يتم الاستدلال عليها حسب منطق معين، وسياق معين وقراءة مسؤولة تفرز الخبيث من الطيب.
أما ان المتشائل يشكل جدلا بين الدمعة والبسمة، فهو امر ممكن، بل يمكن اعتباره نقطة ايجابية في صالح رواية المتشائل التي ابدعها ابو سلام فالمبدع حين يودع نصه الابداعي بعض روحه لا يعني ان ما كتبه كان فصلا من مذكراته اليومية، ولكنه يمكننا، مع ذلك من النفاذ الى دخيلته وقراءة مرآة نفسه.
ويرى الشاعر حنا ابو حنا ان سر السخرية في المتشائل، عائد الى شخصية المؤلف، اذ ان عارفي اميل حبيبي يذكرون ما يتمتع به من خفة دم وذلاقة لسان، حتى ان الفكاهة تجري على قلمه كأنها بعض حبره «ونحن نعلم ان اليونانيين القدماء كانوا يعتبرون الفن الكوميدي فنا لاذعا موجها والعرب ترجموا كلمة كوميدي الى العربية بأنها هجاء» واذا كان هذا صحيحا، وهو كذلك الى حد بعيد، فإن ما يهجوه كتاب المتشائل هو التخلف او السذاجة، كما انه في الاساس يهجو لانه يصور المفارقة، وقديما قالوا: شرّ البلية ما يضحك..
وحسنا فعل د. القاسم، حين استحضر شهادات وازنة لقراءة مغزى «البسمة» - اي الضحك الساخر عند ابي سلام - فتناول ما كتبه صليبا خميس في هذا الشأن، وكذلك ما كتبته الناقدة المصرية الكبيرة فريدة النقاش، ونقل على لسان اميل حبيبي تأثر الاخير بألف ليلة وليلة وكتاب وكاميرون لبوكاشو، مستحضرا حتى طرائف العقد الفريد.
كلام السمك
يمضي د. القاسم في تعقب اسلوب اميل حبيبي، حتى يصل الى ما يسمى صفوة القول، وهي ان هذا الكاتب المطبوع كان في شعبه كالسمكة في الماء، ولا ادل على ذلك من شهادة ابي سلام شخصيا في هذا الصدد، فهو يقول: «لقد اجتهدت في المتشائل ان اكون امينا للشعب الذي اكتب عنه وله» ويضيف انه باجتهاده هذا ركز على الايجابيات وحذر من السلبيات وحاربها، واضاف ما ملخصه ان صياح الديك لا يطلع الصباح ولكن ديوكنا ستصيح حين يطلعونه ولا بأس بالبرق ولكنه لا يزيل ليلنا الصامت. وبهذه اللغة المجازية يؤكد ما يعيه من ان التبشير النظري لا يغني عن الفعل، ولكن لا بد من هذا التبشير حتى يظل الوعي هاديا ومشيرا الى بر السلامة.
والطريف المهم في تحليل د. القاسم هو انتباهه الى وضوح الخطاب الثقافي عند ابي سلام حتى ليقول بصريح العبارة: لا رموز عند اميل حبيبي، والمقصود بهذا التعبير الحاسم الجازم لا ينتقص من فنية اداء حبيبي بل ينتصر لوضوحه وعدم مواربته في تأكيد ما يراه حقا وحقيقة. ونحن لا نكتفي بتأكيد ما ذهب اليه د. القاسم، بل نأخذه دليلا على ما عاناه اميل حبيبي من افتراء وسوء فهم عندما كان الخطاب المحافظ يجفل من وضوحه الحاد كأن يقول للأعور أعور..
على ان ناقدنا د. القاسم يأخذ على المتشائل انه - حسب تعبير القاسم - آراء ان ينصف التاريخ ويسرّ المؤرخين لكنه لم يدر انه بعمله هذا اغضب محبي الادب وافقد قصته روعتها. واعتقد ان موقف د. نبيه القاسم هذا فيه الكثير من التزيد في التشدد، فنص ابي سلام لم يساوم السياسة على حساب المستوى الفني بديل صمود نتاجه الادبي للزمن على كثرة خصومه وضراوتهم في نقده بحق حينا وبغير حق في معظم الاحيان.
وكان من اخطر ما ووجه به اميل، حكاية ذهابه مع صموئيل ميكونيس الى تشيكوسلوفاكيا لجلب السلاح الى اسرائيل، وقد نفى ابو سلام هذه الرواية بشدة جملة وتفصيلا وتحدى القائلين بها ان يثبتوا انها وقعت الا في مخيلة اصحابها.. على انه كان ينفي شائعة ذهابه الى بلغراد مع ان التهمة لم تذكر ذلك بل قالت انه ذهب الى براغ!! فيا لنا من مشكلات مع اللحظات الملتبسة في هذا التاريخ المشوّش المضرج بالروايات المتناقضة.
اسطورة البطيختين
في سياق تقويمه الماسوشي لمسيرته السياسية - الادبية، يتحسر اميل حبيبي على فرص اضاعها بسبب من انشغاله بحمل بطيختين في يد واحدة: بطيخة السياسة وبطيخة الادب، والمثير ان هذا التقويم الذاتي، رأى من يؤيده ويتبناه ومن القائلين بهذا الرأي كان د. نبيه القاسم.
وفي رأيي المتواضع ان الاختيار الادبي لم يكن ضاغطا اضافيا على مشروع اميل حبيبي، فقد كان يكتب كما يعيش، او - على وجه الدقة - كان يحيا لانه يكتب ولهذا يمكن وصف ما عاناه من نقد بلغ حد التحامل، بأنه الضريبة التي كان يدفعها ليكون هذه الشخصية التي ملأت دنيا العرب وشغلت ناسهم. واذا كنت اوافق د. القاسم في ان اميل قد عاد «في آخر عملين له - اخطية وسرايا - الى ذاته، فإني اعزو ذلك الى ان مصفاة تجربته، بعد ان بلغ من العمر عتيا. قد اعادته الى ينابيعه الاولى التي لم يفارقها اصلا، فقد عاد الى الطفل الذي كانه، ولكن بخبرة الشيخ التي لا تزال تنبض، تستعد للوثوب، فخرجت وقد همس لها بسر الحرف فجاءته متراكضة مرتجفة» وهو بهذه الطفولة المستعادة انما يؤكد شخصيته المتكاملة ادبيا وسياسيا، فهما ليستا بطيختين بل ثمرة نوعية لتجربة نوعية.
وقد افاد ابو سلام من كنديد فولتير - كما ذكر د. القاسم - كما افاد الى حد بعيد من كنوز التراث العربي، كالامتاع والمؤانسة على سبيل المثال لا الحصر، بمعنى انه اذا كان من بطيختين في يده فهما الثقافة المكتسبة والثقافة الموروثة، وقد اجتمعتا في شخصية لتفرزا كاتبا استثنائيا فلسطينيا امميا، ساخرا نعم ولكن الدمعة حاضرة في عمق ابتسامته، رحمه الله ولنعترف له بأنه من معجزات فلسطين التي لا يجود بها الزمن مرتين.