حسين البرغوثي في ذكرى الحضور*- جبر شعث
إذاً ، لقد شاغلتنا يا -أبا آثر**– ورحلت دون أن تعطينا حقنا عليك في أن نودعك ، ونسبل عينيك الشكاكتين الباحثتين اللامعتين ، بعد أن نتزود من شعاعهما ؛ حتى نقدر أن نحافظ
على توهجك فينا . أم حسبتَ أن العتم الذي تبدد في حضورك لن يعود في غيابك ؟
لِمَ تعجلتَ ؟
أما كان هناك وقت للتريث ؟
أم أنك لم تحتمل عجز الوجود عن استيعاب أسئلتك؟
حقاً ، كانت أسئلتك أكبر بألف كون من هذا الوجود الصغير .
كان سؤالك الوجودي يلقف إفرازات / إجابات الكتبة السحرة ؛ حاملي مخالب الشعوذة والترهات ... الثرثارين سكان السفح .
كانوا يخشون عصاك المقطوعة من شجر اللوز ، ويختبئون إذا بدوت لهم بيدك البيضاء
الممسوحة بزيت الجبل . شككتَ ، فجادلتَ ،فسعيتَ ، فاكتشفتَ ، حتى وأنت على آخر درجة
من درجات سلم الغياب ، كنت لا تكف عن طرح الأسئلة الإشكالية ، التي سعيت من ورائها
إلى جس الفكر وقياس حواس الأنماط ، واكتشاف بل وتأطير العلاقة الجدلية الدقيقة بين الرؤيوي والجمالي .
تحاورتَ والموت كصديقين ، غلبته بمنطقك ، فتنازل لك – ولو لبرهة – فأمهلك حتى تكمل ضوءك الأزرق – للمرة الأخيرة – بلوزك الآذاري الأخضر .
لم تحبس نفسك داخل أيقونة مثل بعض الشعراء ذوي القامات الباذخة . لم تلهث خلف أعمدة الصحافة سعياً للتكسب ، شأن كبار موظفي الثقافة ، الذين ينهكون أقلامهم ، ويستحلبون مخيلاتهم الناشفة المترهلة ؛ لا من أجل المعرفة والتأسيس ، بل أجل نهايات الشهور السريعة
ومحصلة الأعمدة السقيمة .
لو أن الموت يتعاطى الصفقات ؛ كنا عقدنا معه صفقة ؛ يأخذ من أعمارنا ويعطيك وما كنا سنندم أو نشعر بالخسارة ؛ لأننا كنا سنأخذ ما هو أجدى وأبقى من الوقت الذي سيقتطع من أعمارنا : ما ينفع الناس يمكث في الأرض .
كنا سنزيد ونكمل نقصاننا يا أيها الحاضر الكبير الغائب الكبير ، لكن الموت لا يتعاطى الصفقات إلا مع سكان السفح ، وأنت قمة يا – أبا آثر – يجللها الضوء الأزرق ونوار اللوز .
*توفي الشاعر والمفكر حسين البرغوثي بتاريخ 1مايو / أيار عام 2002
** أبو آثر ، كنية الشاعر .