الذاكرة والمكان- عدي مصاروة
إن معركتنا اليومية كفلسطينيين في إطار الحفاظ على هويتنا الوطنية والقومية، تتطلب منا جهداً وطاقةً على المستوى الفردي والجماعي، كونها معركة متعددة الجبهات، قد يكون أهم المحاور فيها الحفاظ على ما تبقى من الأرض والمطالبة باسترجاع ما صودر منها بالهيمنة العسكرية رغم وجود سوابق قضائية تعطي الحق للفلسطينيين بالعودة إلى قراهم المهدمة وإعادة بناء حيزهم الحضري فيها.
لا يمكن تجاهل العامل الزمني كأحد العناصر التي تؤثر سلبياً على علاقتنا بالمكان. الشعور بالوجود والانتماء يكمنان في إمكانية وتوفر الظروف الملائمة للشعوب في مواصلة عملية السرد التاريخي في حيّز جغرافي متواصل ومحدود. هناك عدة أمثلة لصراعات قومية ووطنية في أماكن أخرى من العالم، لكن الاختلاف الجوهري بينها وبين الصراع الفلسطيني يتركز على مقدرة هذه الشعوب على التمتع بحيّزها الجغرافي ولو أنها تقع تحت سيادة دولة مستَعمِرة. الأمر الذي يقلل من الضغط الزمني المتصاعد في معركة الحفاظ على الهوية ويتيح لهذه الشعوب شروط ملائمة ببناء مؤسساتها الخاصة واستقلالها الاقتصادي ويمنحها والفرصة لتنظيم قواها السياسية نحو "خارج ما".
تدعي الباحثة كارول باردينستين carol bardenstein في مقالها الأشجار الغابات وتشكيل الذاكرة الجماعية الفلسطينية والإسرائيلية أن الذاكرة الجماعية هي، في ذات الوقت، رد على وأعراض لحالة انقطاع، نقص وغياب شيء ما "وعملية استبداله والسلوان لفقدانه". تعرض باردينستين عملية بناء الذاكرة على أنها عملية بحث عن عناصر في الماضي، انتقائها وتسليط الضوء عليها. وتستند الباحثة هنا إلى فكرة "إنارة عدم الاستمرارية" للمؤرخ الفرنسي بيير نورا Pierre Nora التي تعرّف بناء الذاكرة كعملية "وعي لانقطاع الاستمرارية مع الماضي" مما يستدعي البحث عن "كيفية تجسيد الذاكرة في أماكن معينة حيث لا يزال الشعور بالاستمرارية التاريخية موجودا، متمسكا ويرفض الزوال".
الذاكرة الجماعية تعرض في هذا النطاق على أنها مادة حيوية، ذات طبيعة فعالة. هناك أماكن تبدو للوهلة الأولى على أنها جامدة أو "مادية بحتة" (كملف، غابة، بقايا مبنى أو قرية مهجَّرة) قد تصبح "أماكن للذاكرة" فقط إذا استثمر فيها التخيُّل وإحاطتها بهالة رمزية. عندها تتحول هذه الأماكن إلى أهداف "للمحافظة، الرصد والمراقبة التذكارية" النشطة.
وتشدّد باردينستين على أن الجوانب المنتقاة والمختارة لتسليط الضوء عليها لبناء الذاكرة الجماعية، يتمّ الاعتماد عليها كجزء من الماضي، إلا أنها أُطلقت من مواقع استراتيجية في الحاضر. يمكن ترجمة ذلك إلى مشاريع في واقعنا اليومي. فاستعمال أدب المقاومة للحنين إلى أماكن في الماضي هو فعل استراتيجي يتم إطلاقه من الحاضر من أجل تعزيز وترسيخ الذاكرة الجماعية. كذلك الأمر في الغناء والفنون التشكيلية، المسرح والعمارة، حيث تتم حتلنة أماكن الذاكرة كالأغنية، النص، الرسم أو المبنى بعصرنة لا تخلو من عمليات شدّ ورد مع الماضي. هنا تتوقف النظرة السلبية لعملية الحنين على أنها مجرّد عوارض مرضية لعملية الفقدان، لتصبح عملية بناء للذاكرة الجماعية منطلقة من الحاضر الذي يعي الانقطاع التاريخي ووجود شرخ وكسر للاستمرارية الطبيعية للرواية الوطنية. عملية تسليط الضوء على رموز تاريخية (كمبنى، موقع، شخص أو حدث)، لا يتم بهدف التقديس بقدر ما هو بناء للذاكرة الجماعية، التي تسعى أيضاً لإيجاد وسائل للربط بين مفهوم رواية تحلق في فضاء الفكرة المثالية والحيّز المادي.
عملية بناء الذاكرة الجماعية كأداة للحفاظ على الهوية الوطنية والقومية تستدعي وضع مفهوم الذاكرة أمام العوائق التي قد تواجهها والتناقضات الداخلية التي تحملها. فالذاكرة كما ذكرت باردينستين هي ناتج "لاستثمار التخيُّل ومحاطة بهالة رمزية" مما يجعل منها مادة يمكن دحضها أو تبديلها، استحضارها أو دفنها لأهداف سياسية (كالتناحر السياسي الضيق على قيادة الأقلية الفلسطينية في البلاد أو مشاريع أيديولوجية كمسح الكيان الفلسطيني وتثبيت الرواية الصهيونية من قبل دولة إسرائيل تجاه مجمل الفلسطينيين).
إدوارد سعيد هو أحد الباحثين الذين أشاروا إلى أن الذاكرة ليست بالضرورة حقيقيّة، لكنها مفيدة. ويشدّد على الموقع الذي يحتله فن الذاكرة في عالم الحداثة بالنسبة للمؤرخين كما للناس العاديين والمؤسسات كشيء يمكن استعماله، توظيفه واستغلاله. أي أن الذاكرة ليست مادة جامدة تجلس في مكان ما ليحتضنها الناس ويتبنوها، إنما هي مادة حيوية يمكن تعديلها، صياغتها، فقدانها، تركيبها وخلقها.
يدعي سعيد أن هناك قوة لمواقع جغرافية معينة لدى مجموعات مختلفة عندما نتحدث عن الذاكرة ويتخذ وصفها وتجليها حداً مبالغ فيه أحيانا في بناء قصص وتقاليد هذه المجموعات. كل هذه القصص والتقاليد تنبع من ذات المكان، وفي كثير من الأحيان فإنها تكون في صراع فيما بينها (ويذكر مدينة القدس كمثال). يتوصل سعيد أن لفلسطين كان تأثير كبير على الصليبيين بالرغم من المسافة الهائلة بينها وبين بلادهم. ويجد خلال بحثه أن الكثير من مناظر ولادة وصلب المسيح في لوحات النهضة الأوروبية تم تجسيدها على خلفية لمشهد غير طبيعي، وذلك لأن لا أحد من هؤلاء الرسامين زار فلسطين. تدريجياً، تم تبديل الخلفية الغامضة بمشهد طبيعي مثالي واستحوذت هذه الخلفية المثالية غير الحقيقية لفلسطين على خيال وتصوّر الأوروبيين لمئات من السنين. ويذكر سعيد أن الجغرافيا، المكان الذي تخلد به الذاكرة الجماعية والمشهد الحضاري للفرد، هي مادة يمكن التلاعب بها، اختراعها ووصفها بشكل منقطع لحدٍ كبير عن حقيقة المكان المادية. فاليهود الصهاينة وبعد مئات السنين من الحياة في أوروبا، كانوا لا يزالون يشعرون بأن فلسطين توقفت عن الحياة بعد خروجهم منها وأنها لا تزال كما تركوها، بعد آلاف السنين من تاريخ ووجود سكانها الحاليين.
لأجل التحقق من إدعاء إدوارد سعيد سنقوم باللجوء إلى الرواية الإسرائيلية، حيث يشير الباحثان بارنير وموريا-كلين أن شعوراً بالإحباط أصاب المستوطنين الجدد، الذين كانوا قد اعتادوا المشهد الطبيعي الأوروبي المفعم بالأشجار، بعد لقائهم الأول مع ما اعتبروه المشهد الطبيعي الفلسطيني "الفارغ". لم يكن المكان كئيباً فحسب بل اعتبروه معادياً ومخيفاً. مهمة المستوطنين تحولت من التعامل مع مشهد معطى إلى مشهد مرغوب به. نقطة الانطلاق المرئية للمجهود الذي تم توظيفه كان ذكرياتهم من المشهد الطبيعي الأوروبي. ما يؤكد وجهة نظر سعيد بأن الذاكرة الجماعية ليست بالضرورة حقيقية وأن الجغرافيا هي مادة يمكن التلاعب بها.
شلومو أهرونسون، مصمم للحيز الطبيعي، يوافق بارنير وموريا-كلين الرأي بأن المهاجرين الأوروبيين أتوا وهم يحملون في مخيلتهم صوراً مستوحاة من لوحات النهضة الأوروبية للأراضي المقدسة، التي كانت نسخة عن المشهد الطبيعي لأوروبا الوسطى. عملوا في حر الصحراء مثابرين ولم تتغيّر الصورة في مخيلتهم بالرغم من الواقع المعطى. لكنه يشير أنه بعد مرور الوقت، فإن طبيعة الأرض، المناخ ونسبة المياه في المنطقة وقفت كحدود طبيعية لأي فكرة أو تصوّر. مما أدى إلى استيعاب لما هو ممكن أو حتى مستحب في ظروف طبيعية كهذه، وتغيير تدريجي في النظرة للمشهد الطبيعي المعطى.
نعود إلى تقييم الذاكرة الجماعية والطاقة الهائلة التي نقوم يومياً بتوظيفها للحفاظ على هويتنا الوطنية والقومية، لنرى أن الصعوبة تكمن في كون الذاكرة والجغرافيا مادتان حيويتان يمكن تغييرهما والتلاعب بهما من قبل مجموعات مختلفة وأن الزمن كعنصر أساسي يعمل على توسيع الفجوة بين الواقع اليومي وأماكن الذاكرة. كلما تقدمت الأجيال زادت هذه الفجوة وانكسرت الروابط بين الحاضر وما يحويه من دلائل تاريخية والأماكن التي يمكن العودة إليها لإعادة بناء الذاكرة. خاصة ضمن حيز جغرافي تسيطر عليه مجموعة قومية أخرى وتقوم بسرد ورسم دلائلها التاريخية مما يضيّق يومياً من حصتنا فيه ويقلل من إمكانيات سرد تاريخنا بشكل مستقل. هنا تجدر الإشارة والتشديد على وعي إدوارد سعيد إلى أن الصراع الفلسطيني هو صراع من أجل وجود (واقع) يمكن تذكره. هذه الملاحظة تحمل في داخلها الحل لتناقض الذاكرة الجماعية مع العنصر الزمني. أي أن بناء وجود وواقع يمكن تذكره هو تفادي للفجوة التاريخية. والوعي لانقطاع الاستمرارية التاريخية يتم حله ببناء حاضر يمثل حلقة وصل دائمة التقدم. هذا يحوّل نظرتنا ليوم الأرض والانتفاضة الأولى "كظواهر" أو أحداث تاريخية إلى فعل بنّاء تمّ تحقيقه ليكون وجوداً وحاضراً يمكن تذكره مستقبلاً. هناك حاجة لتقييم الماضي على أنه سلسلة أفعال وردات فعل تسعى إلى رسم وجود نتذكره الآن. وبذلك يكمن واجبنا الآني نحو المستقبل بالبحث عن وجود يشكل يوماً ما ذاكرة جماعية.