النكبة شهادات لا تنتهي؛ شهادات من إجزم ووادي الجمال
توفيق عبد الفتاح- حكاية ندى نايف صفدي، أم ماهر، مع الاقتلاع والتهجير مثلها مثل مئات بل آلاف الحكايات لشعب اقتلع بين عشية وضحاها من أرضه دون أن يقترف جرما أو ذنبا.. نزف لم يتوقف وجرح لن يندمل، لكن رغم المرارة والأسى لازالت بذا كرتها المتقدة تستعرض بما تسعفها من شريط ذاكرتها النازف.
التقيناها في منزلها في حي الألمانية في مدينة حيفا. تحدثت إليها أم ماهر عن مرارة التهجير والغربة. وقالت: "كنا نعيش سعداء وأحرارا في قرية إجزم القريبة من الفريديس، وكان والدي ميسور الحال، وننعم بالأرزاق من مزارع وبيارات وغيرها. ولكن كل ذلك توقف دون أن يتوقعه أحد".
وتتابع: "عندما بدأنا نسمع عن جيش اليهود لم نتوقع حجم الكارثة، وما سيحل بنا، وبدأ الرعب يدب في قلوبنا عندما بدأنا نسمع عن احتلال الطيرة وعين غزال والقرى المحيطة، وعن مذبحة الطنطورة التي وصلتنا أخبارها التي تتحدث عن إيقاف الشباب بالطوابير وإعدامهم بشكل جماعي، وعندها لم نجد أمامنا سوى الخروج من البلدة بسبب الرعب والفظائع التي ارتكبتها عصابات اليهود وركبنا الجبال نحو الدالية وعسفيا حتى غصت عسفيا بالمهجرين".
وتضيف أم ماهر أن والدها استأجر بداية بيتا هناك لدى أبو فرنسيس، رافضا إلحاح الأخوين طاهر وعبد الرؤوف قرمان بالتوجه إلى إبطن للسكن هناك. ومكثت العائلة قرابة العام في عسفيا، لتنتقل بعدها إلى إبطن، ويلتحق بها إخوة زوجها الذين سكنوا في الكبابير بداية.
تقول الحاجة أم ماهر: "بعد أن هجرنا من إجزم ترك أخي أيضا البلدة وبيارات من الحمضيات والفواكه بمساحات شاسعة، إلا أنه وبعد الهدوء وبسبب علاقته ومعرفته بالمدعو "شطريت"، وهو مسؤول كبير في الشرطة وبواسطته، عاد أخي لبيارته في إجزم، إلا أنه بعد نحو 5-7 سنوات أنهك بالضرائب والمضايقات حتى استولوا على البيارة. لقد كان ذلك فخا محكما لإجباره على التنازل عن البيارة وإغراقه بالديون، حيث اضطر للانتقال بعدها والسكن في حيفا، وهناك توفي بعد فترة قصيرة، بينما مكثنا نحن في إبطن عشر سنوات بعد أن توفي والدي هناك، ودفن بجانب قبر الزير سالم على مدخل قرية إبطن.
وتتابع الحاجة أم ماهر أن العائلة انتقلت بعدها إلى شفاعمرو، وعاشت هناك مدة 17 عاما، لتنتقل بعدها إلى حيفا بسبب عمل زوجها في المدينة، وتمكنت من شراء منزل صغير فيها، رغم محاولة جار يهودي من أصل روماني تحويل حياة العائلة إلى جحيم بالصراخ والشتائم والألفاظ العنصرية.
وتضيف: "استطعنا في النهاية شراء البيت منه، واستطعنا أن نربي أبنائنا الخمسة فيه. وهم ناجحون اليوم بحياتهم، لكن حنين العودة لبلدنا وبيوتنا وأرضنا هو حلم سيرافقني للقبر، وآمل أن يعود إليها أبنائي وأحفادي".
وأنهت حديثها بالقول "فكرت وحاولت أن أساهم بعمل وطني وإنساني ما، وأنا أتقن الخياطة، فقمت منذ فترة وقبل بمبادرة لشراء القماش وخياطة احتياجات بيتية، وصنعت آلاف القطع، وبعتها بأسعار بسيطة تبرعت بها لأهلنا في قطاع غزة".
أم نصري: احتمينا بكنيسة مار الياس ولم نهرب لأننا لا نملك المال..
من حي الألمانية إلى وادي الجمال والحليصة فوادي النسناس ووادي رشميا وساحة الحناطير.. جميعها وجه واحد يحكي فصول النكبة التي لا تنتهي. مادلين أسمر عبود، أم نصري، من حي الجمال غرب مدينة حيفا تجاوزت الـ90 عاما من عمرها، التقيناها داخل البيت الذي هجرت منه، وعادت إليه بعد أشهر من عام النكبة، لتروي لنا ما أسعفتها به ذاكرتها.
تقول أم نصري: "علمنا عن قدوم اليهود، وعن اشتباكات وتفجيرات داخل المدينة، وعن التهجير والقتل. وكنا قد استنفذنا ما لدينا من مال في هذا البيت الذي شيدناه حديثا إلا أن زوجي طلب مني أن أحمل الأولاد وأخرج من البيت بعد أن خرج غالبية الناس من الحي تاركين منازلهم، وهكذا فعلت حيث احتمينا بكنيسة مار إلياس باتجاه جبال الكرمل، ومكثنا هناك قرابة الشهر، إلا أن "عصابة الهاغاناه" طلبت منا ترك المكان، والتوجه إلى وادي النسناس حيث كانوا يركزون معظم العرب هناك –ربما بهدف الترحيل الجماعي أو التحقيق أو القتل- ومن وادي النسناس انتقلنا الى منطقة عباس حيث سكنا هناك مؤقتا".
وأضافت أم نصري: "بعد أشهر من الهدوء، وانتهاء السيطرة على المدينة، عاد المرحوم أبو نصري ليتفقد بيتنا في وادي الجمال، فوجد عددا من العائلات اليهودية تعمل على احتلال البيت، وعندما أخبرهم بأن هذا بيته، أشهروا السلاح بوجهه".
وتضيف أن أبا نصري كان مصمما على العودة إلى بيته. فاضطر للتفاوض مع 9 عائلات استقدمت للاستيطان فيها، ليتوصل إلى اتفاق بالحصول على جزء من البيت، من خلال مقايضته بمنزل آخر في عباس، كان يعتبر ما يسمى "أموالا متروكة"، وهو بالأصل يعود إلى قريب له. ولم تنته الأمور عند هذا الحد، لأن من تبقوا من المستوطنين استمروا بمضايقة العائلة داخل منزلها، وحاولوا مرارا الاعتداء عليها لأنهم لا يريدون عربا في المكان.
وتقول أم نصري: "واصلنا، من خلال علاقات زوجي، وكان من بينهم رئيس اتحاد العمال في مستشفى رامبام وعبر المحاكم التي استمرت قرابة 5 سنوات من المرارة ومحاولات الاعتداء علينا وبعد ان كلفنا ذلك مبالغ باهظة، محاولة استعادة البيت، وتمكنا من ذلك، لكنهم سيطروا على المنجرة التابعة للعائلة وعلى البيت في عباس. لم يكن هناك إمكانيات أخرى متاحة، لأننا أردنا أن نحافظ على بيتنا في وادي الجمال، ونحمي أنفسنا من التهجير خارج حيفا أو خارج الوطن".