ما كان في ساحة الدار-رياض مصاروة
عدت من أمسية "في ساحة الدار" التي نظمتها مؤسسة توفيق زياد بمناسبة ذكرى الـ85 لميلاد القائد، الشاعر، والانسان توفيق زياد، عدت الى البيت محملا بأسئلة واستنتاجات، وربما الاستنتاج الأصح والأصيل كان " أن السنوات لا تبهت الأسباب". وأن بعض الأسئلة لا تفقد معناها في الطريق، ربما الأسطورة هي التي تفقد معناها في الطريق، اذا تقوقعت في مفهوم يتحول الى استعارة متخثرة لمعنى ما تجمد.
تجمعنا في ساحة داره لنتذكر، لنتذكر ما كان، ولا أستعمل هنا كلمة "الماضي" لأن ما يمضي لا يعود كونه حضورا، أما ما كان، فانه يتحول الى حاضر، ينفتح على المستقبل، وربما تجمعنا ليس بهدف ما كان في الأساس، وانما بهدف انفتاحنا واستباقنا لما سيأتي، وهذه هي الأصالة بهذا التوجه.
وما لفت نظري بالأساس، أن اليافطة المعلقة كعنوان للأمسية احتوت الصفات الثلاث لتوفيق زياد: القائد، الشاعر والإنسان، وكان يكفي حسب اعتقادي اختزال الصفات الثلاث بصفة الانسان التي أنتجت الصفتين الأخريين، القائد والشاعر، وهذا ما كان بالفعل، لأن "الإنسان" تنزع الأسطورة، ولكنها لا تخفي معالمها، كلمة الإنسان تقف أمام امكانية تحويل معالم الأسطورة الى أيقونة، والأيقونة تخثر المعاني وتجمدها. ولأننا نزعنا عنه الأسطورة، بقي الإنسان الذي أنتج تراثه الذي يحمل صفات الامتداد، وبذلك عندما نظرنا الى "ما كان" امتد الى حاضرنا، لكي نواجه اللحظة الممتدة الى المستقبل، واللحظة هي التوتر، القلق، اللذان يستجمعان ما كان، لكي ننتبه الى حاضرنا، وننفتح على المستقبل.
تركز الحديث عن الصدق الذي تحلى به توفيق زياد، في حياته، في مواقفه السياسية، في مواقفه الاجتماعية، في علاقاته الإنسانية وهو، توفيق زياد وجد المتعة في علاقته مع الأطفال ومشاكساته لهم ولعبه معهم، حتى أنه هرب من طفل مساعده الاداري ناظم بدر آنذاك في ساحة الكنيست، عندما لحقه الطفل راميا عليه حجرا، وأثار دهشة السياسيين ومن رآه "هاربا" من الطفل.
وأتوقف هنا عند كلمة "الصدق" وماذا تعني عند توفيق زياد. لا يمكننا أن نفهم الصدق في حالة توفيق زياد كصفة، لأن الصفة من الممكن أن تتحول الى نقيضها، عندما يتحول ظرف الإنسان ...الصدق عند توفيق زياد يتجاوز الصفة ليتحول الى نهج حياة وأسلوب، ولكن هذا لا يعطينا معنى الصدق...الصدق هو أن لا أحجب حقيقتي، أن أكشف حقيقتي في كل الظروف والحالات الانسانية. البصيرة هي التي تمكن الانسان أن يعيش اللاتحجب، بمعنى أنه دائما مكشوف، والبصيرة هي الانفتاح على النور، على تلك الشعلة الأبدية التي تحدث الإنارة ،والإنارة تجعلك دائما في حالة انفتاح، في حالة اللاتحجب، في حالة المجابهة الحياتية دون أن أختفي وراء اللاحقيقة، كان يسير في أوردة هذا الواقع شاهرا حقيقته في داخله وفي سلوكياته، وعلى وجهه، كل كلمة، كل ايماءة منه، وكل حالة جسدية كانت تشير الى حقيقته . هذا هو نهج وأسلوب توفيق زياد الحياتي، والصدق الذي نتحدث عنه عند توفيق زياد هو اللاتحجب، الانفتاح على المستقبل، الذي يتجاذب مع ما كان ومع لحظة الحاضر. للأسف لم يتحدث الحاضرون عن الحزن، وعن الخجل عند هذا العملاق الشرس. وكيف لنا أن ننسى قصيدة "صديقي عمر"؟ وهذا العملاق الشرس لم يخف ولم يحجب حزنه، ولم يحجب خجله، كان أيضا خجولا وقد شاهدت هذا الخجل بأم عيني.
تحدث الحاضرون عن توفيق زياد الانسان الذي تضامن كل حياته مع الفقراء والمظلومين، كل الفقراء وكل المظلومين، وتضامنه لم يقتصر فقط مع المظلومين من أبناء شعبه، وإنما امتد الى كل المظلومين في العالم.انسانيته هي التي صقلته أمميا، ورسخت في روحه التواضع، ذلك التواضع المبدع، الذي جعله في الوقت نفسه شاعرا، فسكن اللغة وجعلها وطنه الثاني، والشاعر نبي يحلم، يحلم في مصير الانسانية جمعاء، ويريد لها العدالة والعيش بكرامة. ومن عدا عن الشاعر الذي يملك هذا الحلم؟ انه الطفل الذي يسعى الى الحرية المطلقة، انه لا يملك لغة الكبار ولا يعرف سلوكيات الكبار، هكذا كانت الانسانية نفسها في طفولتها...توفيق زياد يعرف كل ذلك....ونطرح السؤال: هل لعب مع الأطفال فقط من أجل المتعة الصافية؟ أم للعبه هذا فكر يدعمه؟ توفيق زياد كان يلعب مع الأطفال ويشاكسهم حالما...حلمه كان في تلك اللحظات أن تعود الانسانية الى طفولتها، الى سذاجتها، الى انسانيتها. لقد كان الانسان الشاعر الحالم الذي يلعب مع طفولة الانسانية.
هذا هو توفيق زياد، ولا أقول ما كانه، هذا هو توفيق زياد في لحظة الحاضر التي تجعلنا ننفتح على المستقبل.