مستعمرون يقطعون عشرات الأشجار جنوب نابلس ويهاجمون منازل في بلدة بيت فوريك    نائب سويسري: جلسة مرتقبة للبرلمان للمطالبة بوقف الحرب على الشعب الفلسطيني    الأمم المتحدة: الاحتلال منع وصول ثلثي المساعدات الإنسانية لقطاع غزة الأسبوع الماضي    الاحتلال ينذر بإخلاء مناطق في ضاحية بيروت الجنوبية    بيروت: شهداء وجرحى في غارة إسرائيلية على عمارة سكنية    الاحتلال يقتحم عددا من قرى الكفريات جنوب طولكرم    شهداء ومصابون في قصف للاحتلال على مناطق متفرقة من قطاع غزة    "فتح" تنعى المناضل محمد صبري صيدم    شهيد و3 جرحى في قصف الاحتلال وسط بيروت    أبو ردينة: نحمل الإدارة الأميركية مسؤولية مجازر غزة وبيت لاهيا    ارتفاع حصيلة الشهداء في قطاع غزة إلى 43,846 والإصابات إلى 103,740 منذ بدء العدوان    الاحتلال يحكم بالسجن وغرامة مالية بحق الزميلة رشا حرز الله    اللجنة الاستشارية للأونروا تبدأ أعمالها غدا وسط تحذيرات دولية من مخاطر تشريعات الاحتلال    الاحتلال ينذر بإخلاء 15 بلدة في جنوب لبنان    شهداء ومصابون في قصف الاحتلال منزلين في مخيمي البريج والنصيرات  

شهداء ومصابون في قصف الاحتلال منزلين في مخيمي البريج والنصيرات

الآن

يوسف الخطيب من جديد ودائما.. في القلب والذاكرة- احمد دحبور

ليست هي المرة الاولى، ولن تكون الاخيرة بطبيعة الحال، ان اتناول هذا الشاعر الاستثنائي، بالتعريف واعادة القراءة. فيوسف الخطيب واحد من الشعراء الفلسطينيين النوعيين الذين تماهى الموضوع والذات في عطائهم، فكان شعره بطاقة تعريف، لا لشخصه الكريم وحسب، بل للارق الوطني الذي ظل يشغله زهاء ثمانية عقود. فهذا المولود في الخليل مع ثلاثينات القرن الماضي، المنتقل من الضفة الى دمشق، ظل امينا طوال تجربته الوطنية والادبية لما كان يسميه بالارثوذكسية الفلسطينية، بمعنى الطريق الصحيحة في الاختيار الوطني، معبرا عن ذلك في مجموعاته الشعرية المتتالية: العيون الظماء للنور - العندليب المهاجر - واحة الجحيم - رأيت الله في غزة - بالشام لاهلي والهوى بغداد. وقد اجمل اعماله في ثلاثة مجلدات بعنوان شامل هو: مجنون فلسطين. ثم توج مجنون فلسطين هذا، نتاجه بمجموعة قصصية عنوانها «عناصر هدامة»، وقبل ان يغادر عالمنا منذ بضع سنين، لم ينس ان يترك لنا «معلّقة الخليل» و«دفتر الرباعيات» الذي استدرك فيه قصائده اللاحقة التي لم يودعها مجموعة معينة.
على ان اعمال هذا الشاعر الكبير تتجاوز قصائده واشعاره، الى نظام حياته المنذورة، حتى الرمق الاخير، لفلسطين ومن وما ينتمي اليها من بشر وشجر وحجر، واذا كان قد شمل اشعاره بتوقيع «مجنون فلسطين» فهو مجنونها الخلاق بامتياز وجدارة.
وكان، الى ذلك، يتميز بصوت جهير واداء فريد، حتى ليمكن وصفه - في غير مكان - بأنه صناجة فلسطين والعرب، وللمناسبة لا يزال صوته يتردد يوميا في اذاعة فلسطين من دمشق التي اسسها وادارها بكفاءة نادرة..
فماذا يقول مجنون فلسطين وشاعرها في القرن العشرين؟
العندليب المهاجر
يشتمل المجلد الاول من اعمال يوسف الخطيب الشعرية الجاهزة، وعنوانه «العندليب المهاجر» على اول مجموعتين شعريتين من نتاجه الحافل، وهما «العيون العظماء للنور» وقد اصدره عام 1955، و«العندليب المهاجر» وكان قد اصدره عام 1959 بعنوان «عائدون». واوضح مما يدل عليه هذان العنوانان، ان الشاعر كان، يترقب فجر الثورة والحرية، متمسكا بلحظة العناد على امل العودة، ومع ان ابن دورا الخليل هكذا لم يكن مصابا شخصيا بالنكبة فترة اصدار هاتين المجموعتين، الا ان رؤياه التاريخية الفاجعة قد وضعته في محرق النكبة، وهو القائل: «كأنني جميع امتي» فالنكبة جرح فلسطيني لا يبرأ منه من كان لا يزال خارج الحيز الجغرافي للنكبة، اذ هو يعتبر نفسه بحق، ابن النكبة حتى لو ان بلدته دورا الخليل كانت لا تزال خارج دائرة الاحتلال.
والمجموعة الاولى من مجلده الاول، هي «العيون الظماء للنور» التي ارتأى الشاعر يوسف الخطيب ان يكتب مقدمتها الاستاذ ميشيل عفلق شخصيا. ومن يعرف تاريخ الرجلين ميشيل ويوسف يذكر ان الاول هو مؤسس حزب البعث، وان الثاني كان من رعيله المنادي بمشروعه القومي الكبير.
واذا كان لا بد من التنويه بالمقدمة الضافية التي وضعها شاعرنا يوسف الخطيب لمجموعته الاولى «العيون الظماء للنور» فإن من حق مراد السوداني ان اشير الى التفاتة شاعرنا الخطيب اليه بما يستحقه من اشادة واعتراف.
فإذا دلفنا الى الشعر، وجدنا القصيدة الاولى من هذه المجموعة، بعنوان «عرش الفداء» وهي قائمة على نظام البيت الشعري، من البحر الخفيف، ولا تأخذنا الدهشة فقد كان الشاعر حتى العام 1955 - تاريخ مجموعته الاولى هذه - لا يزال يتبع نظام القصيدة البيتية - وان كان قد بدأ يتلمس الخطاب التجديدي، حتى لا اقول الحداثي، منذ بداياته اللافتة، مع ملاحظة انه لم يكتب القصيدة الحديثة في تلك الفترة، وغاية ما شغله آنذاك ان يحدث بعض التململ في تمرد جزئي خجول على البناء التقليدي مع ان تلك القصائد تموج بفكرة الثورة والتغيير في حدود الافكار فقط، وما دمنا في حضرة الشعر فلنستبدل الافكار بالاحلام، فالشاعر حالم كبير بامتياز.
العيون الظماء
وكما هو متوقع وطبيعي، ترك الشاعر قصائده، ضمن اعماله الناجزة، حسب تواريخ كتابتها، مفسحا للمتلقي فرصة ان يتابع النمو الدرامي والملحمي لهذه المسيرة الحافلة. ولهذا كان طبيعيا ان نبدأ رحلتنا معه، بمجموعته الاولى «العيون الظماء للنور» التي كان امرا ذا دلالة، ان يكتب مقدمتها الاستاذ ميشيل عفلق، مؤسس حزب البعث، والاب الروحي لشاعرنا.
وما قاله الاستاذ ميشيل - الذي كان مشهورا باقتصاده في الكلام - ليس كثيرا، وان كان عميقا وخطيرا، فهذا المبشر بالفكرة الانقلابية - بمعنى الثورية الراديكالية - يرى ويختم مقدمته القصيرة المركزة بالقول «ان اخلاص الشاعر لجيله وقضية امته، يكون بمقدار اخلاصه لفنه وحريته» كان ذلك 1955، اي عندما كان الشاعر في بداية بزوغه الشعري الحافل بالوعود حيث العيون ظمأى الى النور، واحلام البعث تتراءى لجيل متطلع الى الثورة والتغيير.
واللافت ان يوسف الخطيب - في مجلداته الثلاثة التي ضمت اشعاره - كان يمشي على ارض تمشي، بمعنى انه كان يواكب التحولات والاحداث النوعية، كما يليق بشاهد على تجربة أليمة وسمت عصرها بإيقاع الغضب والتحفز والثورة.
وكان يميل الى مد مجموعاته الشعرية، بمداخل نثرية مكثفة، تنبئ عن هواجسه الوطنية والفنية معا، كأنه يحذر الالتباس او سوء الفهم فهو معني بارسال صوته من القلب الى القلب. ومن يدقق في المجلدات الشعرية الثلاثة ليوسف الخطيب، تأخذه حالة «الكرشندو» اي الايقاع المتصاعد في اعماله، واذا كان مجلده الاول «العندليب المهاجر» يشي بمرحلة الحنين والاصرار على العودة الى الوطن، فإننا نرى المجلد الثاني - بعنوانه اللافت: سيأتي الذي بعدي - متضمنا ذلك الغضب المشفوع بالتوعد والتحفز، مع يقين بأن الصرخة ليست يتيمة في واد، وصولا الى المجلد الثالث المترع بالالم والامل، حتى ليعلن: «امنع الخمرة عني».
مجنون فلسطين
اسبغ الشاعر على مجلداته الثلاثة الزائد عدد صفحاتها عن الالف، عنوانا شاملا دالّاً هو «مجنون فلسطين» ولقد كان رحمه الله، مجنون فلسطين وشاعرها المجلّي بامتياز، اما مجموعاته الشعرية - حسب المجلدات الثلاثة - فهي على التوالي: العيون الظماء للنور - العندليب المهاجر - واحة الجحيم - امنع الخمرة عني - رأيت الله في غزة - بالشام اهلي والهوى بغداد - معلقة الخليل - ماذا تلدين الليلة يا بيروت - بيان القيامة - دفتر الرباعيات - مختتما مشروعه ببطاقات شعرية دعاها بـ «المستدركات».
لعلي اشير الى مجموعات شاعرنا بشيء من الحذر والتردد، فهي لم تصدر كلها - حسب علمي - كمجموعات فردية، ولكنه جعل ترتيبها في مجلداته الثلاثة، على النحو المشار اليه، مع تنبيه اراه ضروريا، الى مجموعته الشعرية الثانية «عائدون» وكان قد اصدرها عام 1959.
وقد خص المجموعة الاولى «العندليب المهاجر» بثلاثة اهداءات: الى انسان فلسطين بوجه عام - والى كل من يكرهون الدول الاستعمارية وابنة السفاح اسرائيل -والى ما وصفها بشجاعة العقل وطهارة الضمير لدى الشاعر الامريكي عزرا باوند، مع غمزة ساخرة بوصفه باللاسامي على حد تعبير الدوائر الصهيونية علما بأن باوند نفسه كان من اسرة يهودية.
وكعادته ممعنا في تقديم افكاره الشخصية والسياسية، وضع الشاعر مقدمة ضافية لهذا المجلد -وان شئت فلشعره كله - بعنوان لافت: «على كرسي الاعتراف» ثم اردف مقدمة الاستاذ ميشيل عفلق التي سبقت الاشارة اليها، بمقدمة منه على اعتبار انها كلمات اولى.
وعندي ان الشاعر لم يكن متزيدا بهذه المقدمات، بل كان حريصا على التعريف بنفسه وبمشروعه الشعري وبأفكاره، ما يعطينا انطباعا اكيدا عن رغبة اصيلة لديه في البوح، وعقد صداقة مع قارئه الذي يعتبره ممثلا للجماهير التي يخاطبها.
سيأتي الذي بعدي
كثيرا ما انضم الى غيري من جمهور هذا الشاعر، بالسؤال عما اذا كان يكفيه انه صاحب قصيدة «هذي الملايين» فقد كنت في التاسعة عشرة من عمري حين استولت على مشاعري اول مرة، وها انذا، وانا في العقد السابع من العمر، استعيدها بنشوة من يسمعها لاول مرة. وليس مردّ ذلك انني امام شاعر منبري، مع اني لا ادري ما يضيره في ذلك ما دام خطابه نفّاذا وعميقا، بل انه قبل ان يحوز على اي وصف شعري، يظل شاعرنا نبوءة بالمعنى الحضاري للكلمة، وما عنوانه الجامع الذي اسبغه على مجلده الثاني «سيأتي الذي بعيدا، الا تأكيدا لهذا الصوت الرسولي الجامح:
توزعتني دروب لا لقاء لها:
الذل في الناس والعلياء في الكتب
اغزو عمورية، في الليل احرقها
ولحم اختي غذاء الطير في النقب
ومن وعيه الحاد للحظة التناقض هذه، يصهر قصيدة البيت التقليدية في اتون القصيدة المدورة التي كان من اوائل من كتبوها، حيث يشمل البيت احيانا خمسين تفعيلة متصلة او اكثر. ومن الشيق انه يشير - تحت عنوان كل قصيدة - الى البحر الذي اتبعه في كتابتها، فهو فيما هو ذاهب الى ابعد مدى في مغامرة التجديد، يظل ممسكا بناصية الخطاب التقليدي، تاركا لهذا الآتي بعده ان يلتحم بالماضي فيما هو منحاز الى الغد. وقد استعملت تعبير الغد لا المستقبل وفاء مني لنبرته الرسولية وايمانه بما يجمعه لهذا الغد من وعود واشواق تترسم المصير العربي
ويوم كفنت في بغداد معتصمي
لم ادر ان صلاح الدين تاليه
لكنني كي اردّ الموت ثانية
بعثا اجلجل شعري، لا اغنيه
فهو يعي تمام الوعي ان صرخته فاقعة، ولا شأن له بمن يتهمه بالخطابية او المباشرة ما دام يؤمن بأن خطابه هذا سيصل جيدا الى من يأتي بعده، وهكذا تأخذ فكرة البعث عنده معنى ابعد من السياسة واخطر من الشعار.
امنع الخمرة عني
وليوسف الخطيب قصيدة عريقة بعنوان «النبي الثمل» وقد اشار اليها في احدى حواشي مجموعته «واحة الجحيم» ليرد عليها، او يقوّمها، بعنوان مجلده الثالث «امنع الخمرة عني» فما من مكان او متسع للثمالة عند من ندب شعره ورسالته للثورة والخروج على الثقافة السائدة، بل انه يواجه الطغاة رأسا برأس مؤمنا بنتيجة «الرهان» الذي عقد عمره عليه:
ستعلم يا ايها المجرم
غدا من يفوز بهذا الرهان،
ومن في حصاد غد يندم
ونلاحظ بطبيعة الحال، انه يواصل عزفه على ايقاع الغد، والا لكان الرهان مجرد مكابرة عبثية وانتظار مجاني.
والمثير المتميز في هذا الصاحي اليقظ، انه يسمي الشهود بأسمائهم، فلا مفاجأة لدى قارئ هذا الشاعر اذا تتالت عنده اسماء وصفات لشخصيات محددة مثل محمد الماغوط او انسي الحاج او حتى محمود درويش، على ما ينزله بأصحاب هذه الاسماء من غمز ونقد قد يصل احيانا الى حد التطاول:
أسع الشعر جميعا في متاهات قصيدي
مع اقاصي جاهلييه الى ماغوطه
فإذا احرنت في شكل قديم او جديد
لست ادري كستناء الفن من بلوطه
مع ملاحظة اني اخترت مثالا «معتدلا» في محاولة ان اتجنب لغة الشاعر السليطة ولسانه الحاد. وهذا امر طبيعي عندما نتذكر ان «الاسلوب هو الرجل» فنحن امام شاعر لا يهادن ولا يأخذ بالاعتبار ما هو مسموح او غير مسموح، وله ان يتخذ من الشهيد ناجي العلي مثلا في هذه المواجهة المكشوفة مع المفكرين والشعراء المعاصرين:
ضع على شاهدة الجثمان من ناجي العلي:
يولد اللاجئ صبارا وينمو «حنظلة»
فأدر ظهرا لهذا السلم والحشد الغبي
يبرأ التاريخ من اوباش هذي المرحلة
فإذا استهجنت هذا الوضوح الذي يكاد يفارق الشعر، صاح في وجهك ان هذا قدر الشعراء، بل ان التعريف الممكن للشاعر، في هذه الحومة من الغضب والتحدي، هو ان الشاعر الحقيقي من يأخذ لا من يستعطي، فهذا بعض من خطابه المبكر:
بهذا يعرف الشعراء،
لا من خلعة السلطان بل من فادح الثمن
وهكذا نرى اننا امام شاعر مختلف، تحكمه بوصلة وحيدة اكيدة، هي فلسطين بما تعنيه وما تترتب عليه.
يوسف الخطيب
اما وقد شارفت جولتي مع هذا الفلسطيني المغضب على آخرها، فإنني اكتفي بالوصف اللائق به، وهو انه يوسف لا سواه، فمثل هذا الشاعر انما يتم التعريف به من خلال اسمه، فهو الاسم المرتبط شرطيا بالغضب الموضوعي اذا جاز التعبير، أليس هو القائل منذ زمن بعيد:
انا حاقد، انا مجرم، انا سيئ
حتى تعود الى ذويها الدار
وهكذا ينجلي المشهد على حقيقته، فهو ليس ساخطا بهدف السخط، بل ان نقمته مسببة تؤخذ بكلمة واحدة، هي «النكبة» وما دامت النكبة وآثارها تلحق بنا فإن لشعره ان يظل شواظا حارقا لا تأخذه في الحق لومة لائم. ومن عرفه، رحمه الله، يذكر باليقين ان الغضب المسبب كان من مقومات شخصيته، وربما كان الاحياء من اعضاء المجلس الوطني لا يزالون يذكرون انفجاره في وجه احد الشعراء مختتما هياجه ببيته الشهير:
اكاد أومن من شك ومن ريب
هذي الملايين ليست امة العرب
على انه ظل مؤمنا بأمته امة العرب حتى اللحظة الاخيرة من عمره النبيل.. رحمه الله وخلده في القلب والذاكرة.

za

إقرأ أيضاً

الأكثر زيارة

Developed by MONGID | Software House جميع الحقوق محفوظة لـمفوضية العلاقات الوطنية © 2024