الحاجة أم العبد تحيي ذكرى النكبة على طريقتها الخاصة
يحيي الشعب الفلسطيني بكل بقاع الأرض الذكرى الـ 66 للنكبة، حيث يتسابقون بفعالياتهم وأنشطتهم المتنوعة حتى تستمر الذاكرة بلا نسيان من أجل توريثها للأجيال اللاحقة، لكن هناك من يحيي هذه المناسبة يوميا وعلى طريقته الخاصة، فمنهم الحاجة حليمة حمدان أبو العز (أم العبد) أو حسب ما يعرفونها أهل بلدتها الزاوية بـ(الحمدانية)، ابنة الثمانون عقدا ونيّف فهي إحدى النساء اللواتي عاصرن النكبة الفلسطينية، والتي هجرت منزلها قبل نكبة عام 1948 بأربعة أيام من بلدتها الأم الخيرية إلى بلدة الزاوية في محافظة سلفيت التي تسكن فيها حتى الآن.
استقبلتنا الحاجة أم العبد بابتسامة ارتسمت على وجهها الوضاء الذي صبغته النكبة بسواد العناء ومشقة الحياة التي عاشتها طوال 82 عام بتجاعيد وجهها الذي نسج بتاريخ عريق، وكأنها لم تذق طعم الألم والمرارة على فراق الوطن الأشمّ، هكذا هي الأم الفلسطينية، كيف لا وأنها تتميز على باقي نساء العالم بشدة صبرها وتحملها، إلا أنه رغم ما تعانيه من ألم وانحناء في ظهرها طوال حياتها انهالت بكلماتها لتسرد قصتها خلال النكبة الفلسطينية التي حلت بها وبشعبنا.
عاشت الحمدانية في كنف أسرة مكون من أب وأم بالإضافة لأخ واحد فقط من أم أخرى لأن أباها قد تزوج خلال أسبوع زوجتين كما قالت لي، فسبب ذلك كما وصفت (وحداني) أي وحيد الأب والأم، إلا أنها بدأت حديثها عن العز والهناء الذي عاشته في بلدتها الأم الخيرية واصفة إياها "بلدتي الخيرية تتوسط كفر عانة والمجدل وساقية والعباسية وسلمه وهذه البلاد كلها كانت قضاء يافا يا بنيّي، وإحنا جميعنا خط واحد اطلعنا مرة واحدة من ذبح وقتل اليهود إلنا ولم يرجع من أهلها حتى الآن أحد، فكان للناس (بيّارات) من البرتقال وكل واحدة منها فيها بئر للماء، والسعادة تغمر أهل الخيرية لزراعتهم الزيتون والقمح والذرة، وفيها أيضا سهول الخضروات والفواكه والحمد لله كان اغلب الناس متعلمين ومثقفين، وفي البلد ثلاثة مدارس ومسجدين".
وبحسب ذاكرتها أجابت في سؤالنا عن العائلات والحكم وأئمة المساجد قائلة:"سكن الخيرية أربع عائلات أما المخاتير فهم الحاج رشيد وموسى الشعبان وآخر اسموا أبو زكي المسلم، فعلاقة الناس مع بعضها بحب وألفة واحترام آنذاك، فكان العرس في الخيرية يقعد 12 يوم والذبايح والخيل تطارد قدام العرسان فكان غير عن اليوم، كثير أحسن العرس في بلدي".
وأثناء ذلك كانت تدغدغ ركبتي وباستمرار لكي أنظر لعينيها المغرورة بالدموع والتي أقرأ خلالهما بأنها متعطشة لتفريغ حملها من عناء حياتها التي عاشت على قلمي الذي لم يستطع اللحاق بها وبكلامها، حتى أنني طلبت منها كوبا من الشاي بالميرامية الجبلي،وبعد دقائق من تناول كوب الشاب، استمرت الحمدانية بحديثها حول مراحل النكبة قائلة:"البعد لم ينسينا بلادنا ولا حتى حبة برتقال، فكان أخوي أبو رشيد الله يرحموا مسئول الثوار في الخيرية وله علاقات في كل البلاد وحتى في الزاوية اللي أنا أتزوجت فيها، لكن لمّا اسمعنا عن مذبحة دير ياسين وان العصابات اليهودية الصهيونية ذبحت الناس هناك، فقبل وقوع التاريخ المؤلم بثلاثة أو خمسة أيام، من شدّة الخوف علينا جاء اخوي بسيارة كبيرة وحمّل قليل من الأغراض والأطفال والنساء وقال للسائق بأن يذهب بنا إلى قرية الزاوية بسبب العلاقات التجارية والنسب مع أهلها، حيث كان عمري آنذاك 16 سنة، لكني شاطرة و(حدقة) فالحدق مصطلح فلسطيني يطلق على الطفل الذكي، وعندما وصلنا قرية مسحة التي حطت بها السيارة التي لا تستطع الوصول إلى المكان المطلوب استقبلنا أهل الزاوية بالخيول والجمال لكي يساعدونا وينقلونا إلى بلدتهم، حتى أتذكر بان أحد أهل الخيرية قال لي قبل الخروج اتركي أغراضكم انتو طالعين يومين فقط وسترجعون في الثالث، لكن وبدون سابق إنذار قامت عصابات اليهود بدخول البلدة والبلدات المجاورة ليلا وملاحقة كل أهلها فمنهم من استشهد ومنهم من أسر، فأنا لم أدخلها حتى الآن".
لم تكن تتوقع الحاجة أم العبد بأن اليومين سيكلفونها 66 عام، أي بواقع 33 عام لليوم الواحد، حتى أنها تردد وباستمرار صاق الله على أيام البلد....أنا ما بقدر أنسى الخيرية بلدي....بتذكر أسواق حيفا والعباسية بالتفاصيل لما كنت اذهب مع جدي وأبي إليها...يا "كشيلي" لو آخر يوم من عمري لازم أرجع لبلدي....لكن تصمت الحاجة قليلاً وتبلع ريقها بملء فم يخلو من أي ضرس وببطء لتواصل حديثها عمّا تعلمته في بلدتها الخيرية من أجل الاستمرار في تذكر النكبة يوميا وليس سنويا كما يفعل الآخرون فهي تمتهن الطب الشعبي لتساعد نساء بلدة الزاوية قائلة:" في البداية تعلمت العديد من الأكلات اللي بتذكرني ببلدي منها الخبيزية، اللوف، العكوب، السلك، البقلة، الحميض الذي كنت أقطفه من السهول، كما تعلمت مهنة الطب الشعبي، فأقوم بلقط الخوفة من الأطفال وأيضا أقوم (بتمليس) أي دلك النساء بزيت الزيتون اللواتي لم ينجبن حتى ربنا يعطيهن الذرية الصالحة وهي طريقة كانت نساء الخيرية يستخدمونها آنذاك فنقلتها أنا حتى اليوم، وبدّي أخبرك يا بنيّ إني أعرف صناعة صواني القش والتطريز بالصنارة والحرير".
والدليل على كلامها أنني لم استطع استكمال تقريري هذا على راحتها بسبب استمرار وصول النساء من أجل مساعدتهن حتى ان واحدة أخذتها لمنزلها من اجل (تدليك ابنتها بالزيت للإنجاب) فأم العبد التي تحمل ذكرى النكبة في جعبتها، ذكريات الرحيل والتهجير، وترسم حلم العودة لبلدتها الخيرية، لتعود بنا اليوم وتشعل فتيل الذاكرة التي تلاحقها تهديدات النسيان أنهت حديثها ببعض من الأغنية الشعبية التي تدمي القلب لشدة وقعها:
طلت خيلنا من كفر قاسم وحبك يا وطنا في القلب راسم
طلت خيلنا من دير بلوط ما أنسى واطنا لو إني بموت
أنا لدور في الدنيا بوحدي، و أعلّي ليالي الفرح والهنا يا ناس وحدي، أنا إن متت يا خلق الله حطوني بلحدي، وديروا قبلتي درب البلاد
عن وكالة معا