خيوط الفوضى- نداء يونس
أمسك بخيوط الفوضى *كلها، وأصنع جيشا من العبث الذي لا يقود الا الى هاوية، الى ارتفاع وارتقاء أو حالة من الاختلاف والمخالفة ومخاتلة الاعتياد، وأما تلك الحفر التي نقع فيها، فلا تتأتى سوى من سيرنا على الحافة **التي كثيرا ما ظننت انها تجعلنا أنبياء، نبشر انفسنا برؤانا للخلاص من العادي الرتيب، واختيارٍ جديدٍ لحياةٍ أخرى؛ ليس بالضرورة ان تكون أفضل، وربما لم يتح لنا اختيارها لأن العمر كثيرا ما لا يتسع لاختيارات أخرى، بينما التجربة ذنب عظيم.
اعتذر
لا شيء افعله سوى التخيل والتمني
لم اعبر حافة النهر
لا فضاء سوى ما اسأل عنه
التقط المشاهد ولا أداة
لي وظيفة واحدة
أن أكتب،
كان يمكن أن أفعل أشياء أخرى.
في عالم عادي حد الملل، مؤلمٍ الى درجة انتفاء الأمل، تكون الهاوية انحدارا زمكانيا، وتكون الحفر اسوأ انواع العقاب اليومي لقدمين تحاولان السير حافيات على ادراج الضوء، فينكسر التوق لرغبة في التغيير، ويصبح الأجمل غباشا، والأمنيات حالة وهم او استيهام، والرضوخ حالة اغتيال للحلم.
هذا التشتت والتصادم والتصارع بين المعاني عادة ما يخلق ثغرة في نفس الشاعر/ الانسان. فهو عندما يحاول السير على حافة هاوية، ليحلق نحو فوضاه وارتباكاته واستعلائه على الرؤى المتجمدة والمتيبسة والمتكسرة واليومية والخارجية، صعودا الى احلامه الشاهقة الانيقة المترفة الباذخة، يصبح الوقوع في حفرة ضربا من جنون، والهرولة -كطير حَجا- على حافة هاوية ضربا من الهذيان.
ثم، هناك تلك الاشكالية القائمة بيني وبينك: اقصد انا المهشمة التي لا تفتأ كلما تخلصت من شظايا مراياها، تراك في القطع المتبقية. ذاك يعني ان تتكاثر انت..... انت بكلك وبهائك وحضورك وجنونك وكذبك وغيابك، وان يتغول الشوق والتوق والحنين. انت اللاحد، ذاك الذي ظل مختبئا خلف الكلام، يرسم بحضور من ضوء وعتم شكل اليومي والنص. ما افعله ليس اكثر من السير بحذر على حافة ذاكرة - كنت اظنها قصرا قديما سيؤول الى السقوط، ولكنها- واعني ضلالاتي الجميلة- شجرة تعهدها مطر من حنين.
ثم هناك تلك الاشكالية القائمة بين الواقعي والمتخيل: واقصد انا في محيط يومي بكل ملامحي التي أُعرف بها، ونبرة صوتي التي يراها البعض، والبعض يسمعها، وبينك، انت الذي تحتفي بوجودك خارج نصي الزمكاني، وخارج الحضور المريح او المريع للاشخاص والصور. واسأل، هل كنت حقيقة ام سرابا.
أتيتَ من قمر امنياتي
فكنتَ كما اردتُ
وانسربتَ مثل غلالة الشفق القطبي
"اورورا"
لتصنع استارا لشبابيك العدم
وموسيقى لكمان الشيطان
وصورة المارد فيَّ.
واذْكُرك ككلمة، واسأل: هل كنتَ الصانع ام المصنوع؟ هل كنتَ ما أتقنتُه، ولأجله شققت صبحا طالعا لادخل استدارة العتم البهي الشهي الطالع من احتفالات الوعي بالدواخل الجريئات، ام انك صنيعة النار من رماد نسي علبة ألوانه فاكتسب لون الفراغ.
من يكتب بالفحم رواية الاشياء التي نسيت ظلها
ويصنع مما تحت الرماد حبرا،
ويقيم كرنفالات ماجنات للخلود
من جثة الحطب.
الامر كله أمنية التي لم أُحسن صياغتها: فلا انا حللت اشكاليات الفرق اللغوي بين الدلالات، ولا استطعت ان اكون العادي الذي يأكل تفاحة المعصية، ولا انا ادركت تداعيات اللحظة المتمردة.
ما استطعت ان أكون شاعرا
يصنع من تفاحة مغناه
لخوفه صوت النشيد،
ولشبهة عالية في حضور الأشياء.
لا نصَ يشبه لغة ذائبة في حناجر المنشدين. ها هنا، امسك خيوط اللحن وأبعثر نشيد الجدات والوصايا العشر.
اغني والصوت داخلي
الماء يجري على ضفة الجسد
الصوت يغرق فيَّ
الماء يفيض كقبضة من رمل جائع للريح
والمفردات يأتين لمشنـقة في الصدر فرادى
كأنهن يسرن على جمر،
لا احد يخطئ لغة جسده
نداءه العالي
وعواء الذئب في اوردته
و دما يقرقر ،
ولكنك اللاحد.
لم تمت ولم تحيَ، انت سؤال مبهم وإجابة ناقصة. في اليوم التالي لرسالتك البداية البدائية كدخان الهنود الحمر،
تجمَّع الغيم كالسنونوات الجائعات على كف يدي
وسقط المطر في مكان آخر
لا أفقه الحكمة من كسر الضوء
عتمة سجني
كفراشات دائخات
يرفرفرن من ثقب الحلم
والحوائط مغلقة.
بعد رسالتك الاخيرة، انكسر صحن الخزف الذي طالما أولمني حضورك،، فاشتريت غيره. أنتْ، لم تأت، ولم اعرف هل تميز الاصلي من سواه. غيرت اسمي، صرت شيئا اقرب الى حرف يلفظ على عجل تارة كحرف الكاف في (أحبك) الذي ان لم يحمل تشكيلَهُ، أُشكل به او عليه، وبقي الامر مفتوحا للتأويل الناقص حين يغيب النص، أو على مهل تارة أخرى مثل بحة ربابة. ربما لانك يوما قلت لي: اسمك الأجمل، لا تغييرَ! واخاف .
ماذا اقول ان سألتني
كم وردة نبتت من ملح
ذراه البعد في مقلتيك؟
ماذا اقول ان سألتني
كم اخفى الجسد الرخام من كلام ؟
ماذا اقول ان طوقتني
وأنطقت الحجر المنذور للقبور ؟
هو السؤال بوصلة الحنين
والسماوات اتساع للشوق.
هل كنتَ حلما؟ هذا سؤال. وكاندفاع مقامر الى عجلة "الرولييت"، ابحث بالاسئلة عن خسارة مقبولة. السؤال مقامرة غير مضمونة العواقب. لو قلتُ انك كنت حلما، لاصبتُ بنشوة من يفوز بالجولة الاولى. الرقم ثلاثة، يكسب. اضم اجابة السؤال الاول الى رهان جديد. السؤال الثاني، مقامرة على الرقم سبعة. اين تحدث الرؤية/ الحلم/ التبصر/ الاختراق/ التحول/ الدخول/ الخروج/ المرئي/ اللامرئي/ الجنون/ العقل وأين تتكون الاطياف/ الاجساد/ الرؤى؟ تعبت، حسنا، اخسر الرهان، لا اجابة. والنشوة تزاد. الخسارة مَهانة. وأدخل مقامرة اخرى، أختار الصفر . السؤال: ما الحنين/ الشوق/ التوق/ التوله/ التدله/ الرعشة/ الومضة/ ما المتفلت/ الهارب/ العائد/ المدمن/ المبرء/ المطهر/ الملوث/ الجانح/ الجامح/ الخافق/ المنكسر/ الحائر/ الثائر/ المستكن/ المستكين/ الناشز/ المؤنب/ المعذب/ المذنب/ البريء؟ الصفر يكسب. استعدت خساراتي، رهان آخر على الرقم واحد. السؤال: لو قلت انه حقيقة، واكثر من ذلك، أعني أنه أحد، اذن ربما أكون انا حلما تكسر تحت النجم الشمالي فأضاء. سأقلب الطاولة. الجميع يخسر. لعبة الاسئلة غير عادلة.
اذن، من أنت /أنا؟ أينا الحلم؟ سأعبر الاسئلة بي، مستعدة للدفاع والمناورة. سأقنعني ان الظبي الذي شرد تحت جلدي لم يكن انت، بل ألم مزمن، سأقول بان النار التي اشتعلت في اصابعي كانت قبس موسى، سأُصاب بالنبوة، أصبح أبعد، وأحضر كحكاية، واترك ارضا ورثها التائهون اربعين عاما فقط، واذهب انا وقلبي لنقاتل، ثم سأقنعني ان زهرة الاقحوان التي نبتت في العشب ليست لي، وان البئر التي سقت اخضرار الحديقة اضيق من ان يلقى بها احد. إما ان تكون حلما او افصِّلك على مقاس حلم!
ربما سأعبر الاسئلة بطريقة أخرى؛ ككاهنة معبد نسيت النار مشتعلة في بخورها وثيابها عندما فاتحها خيط دم بنبوءة كارثة. كل البلورات اعتمت، الرؤى مستحيلة، في البدء لم تعرف من المعبد سوى منصة القرابين وذاك الجالس ظلا حجريا للدعاء. اسقطت الغلالة، رقصت، هزت ذراعها، يدها، كفلها الذي كالفرس، اهتزت، ربت، وانبتت كوما من السنابل في الحقول الواسعة. نهض الذي به تسكن الأماني، سقط الغبار عن الجوانب، مشى وئيدا، كل حركة منها تصيِّره بشرا، وانحنى يعب الماء من نبع بين جبلين، وقطف الياسمين كله والجلنار. ومما رآه خادم النار، ورواه، ان النار كانت تسقسق وتنهض من سفودها عاليا وترقص . ثم لم يعد يميز الاجساد من الظلال، ونَزََّ دم ازرق، واختطف الصبح سواد الليل، وانحنت الكاهنة تجمع بتلاتها الغافيات على حجر المكان، والى مكامرها تعيد الشهقات، والى صدرها تعيد ما انفرط من قلائد. وجلس يبكي ذاك الذي وظيفته جمع الطرائد. جلس وحيدا، لا جسد يحمله الى الخلود ولا خلود له في تحوله الاخير والكاهنة محظيته الاثيرة. كل ما بقي له من معجزاته، قدرته على اشعال النار عندما يسقط النهار في امتحان الخلود. وأَستيَقِظ. كان حلما، والفِراش غارق كالزيزفون في ريح عابرة.
هل تحضر الغابات ولائم النار في الشتاءات الطويلة وتعصي قدر الجذوع اليابسة؟ ألهذا رحلتَ، أوَ لأجل ذلك سميتك اللاأحد، واشتبكت معك كقط في خيوط فوضاي! ما اسميتك سوى الجنون، عندما اكتشفت الخديعة. انت من طين، وانا هفو الشيء الى اصله. كنت هناك في زمن فائض عن الحاجة *** ليس زمنا بمعنى الزمن، بل ظله، خيال تآلف مع اشيائه فصار كالوقت. كيف تحسب زمنا يمر عليك/ علي هناك؟ اذن، هذا سؤال جيد للمقامرة! ربما نحسب صدى الصوت الغارق فينا، او ربما نسأل الغيمة التي خدعتنا عن وجهتها الى ارض ثانية. لي نصيب من هذا الظل، ولكنني لا اعرف من كتب السيرة/ الرواية: هو ام الفحم؟ وكيف يكون النص ان كتبه كلاهما؟ ماذا نفعل لاحقا ان علمنا اننا انجبنا ابنا /ظلا يرسم بالسواد؟
مرة أخرى أسأل من انت؟ ليَ امتدادٌ في الزمن الفائض عن الحاجة، ولك امتداد في الاحلام التي تشكل فائضا سريا عن عيوب الوجود ونقص المساحة الممكنة لحياة اخرى في المُعاش. التهويمات التي يصنعها العقل لتعكس رغبته، هي انتَ؛ رغبة مقطرة وألم موازٍ وتلك المسافة بين لونين في اللوحة السائلة! في حالة كهذه، كيف يستمر تأثيرك في الزمن الذي يضيق بنا.
تعثرت بين زمنين، في الليل اسير وحدي، والطريق لا تنتهي. الغيم لا يعرف المكان، لم يعط احد الشجر احداثيات الرواية، وذاكرةُ الدليل الرطبة لا تبوح بالتفاصيل. هناك، تلك الحكاية دائرية، الطريق دائرية، واللهب المعلق في طرف المشهد لم يتخذ شكلا بعد، اذ ما يزال يفور. اللوحة ناقصة، فلا شيء يحسب الوقت. أهز رأسي، كانت غفوة في ظهيرة.
* الطيب صالح
** مليكة مقدم
***حسين البرغوثي