نديم نوارة .. مات فتى المدينة- وائل مناصرة
للموت هذه المرة طعم العلقم، للموت هذه المرة وقع مختلف.
خاطفا وسريعا ومباغتا وقاسيا جاء الموت هذه المرة.
صحيح ان الموت بات طقسا عاديا ومألوفا في حياتنا المزدحمة بالاوجاع والخيبات والخسارات، غير ان الموت هذه المرة كان موجعا حد الموت.
طافحا بالفجيعة والوجع والمرارة والدمع والدم كان الموت الذي سرق حياة واحدا من اجمل فتيان المدينة.
لم يمهلنا لحظة او ساعة او يوم كي نتأمل ملامحه ونحفظ تقاسيم وجهه وابتسامته وقامته الفارعة.
لم نكن نحن المارين في شارع الطيرة صباح كل يوم نتعجل التعرف اليه ذلك لاننا كنا نظن ان لدينا متسع من الوقت كي نلتقيه ذات نهار برفقة واحد من ابنائنا او بناتنا ونسأله عن اسمه وعن اسم ذلك الطفل الذي كان يرافقه دوما في تلك الصباحات ويمشي بجواره مزهوا وضاحكا ولم نكن نتعجل ايضا سؤاله عن سر تلك القبعات زاهية الالوان التي كان يرتديها طوال ايام الصيف وفي كل شتاء.
بعد موته صرنا نعرف ان اسمه نديم نوارة وان ذلك الطفل الذي كان يسير بجانبه هو شقيقه الصغير داني وان ارتداء تلك القبعات كان علامة على بداية التطلع لحياة عامرة بالاحلام والامنيات والمغامرات.
بعد موته عرفنا ان نديم كان مأخوذا بالحياة الى حد الجنون وان كل الاشجار وكل الارصفة وكل الشوارع وكل الساحات وكل الملاعب كانت تشهد على ذلك الحب الذي كان يغمر قلب ذلك الفتى.
بعد موته اكتشفنا ان نديم كان صديقا لكل اولادنا وبناتنا وان كل الدموع التي انهمرت من عيونهم يوم رحيله لم تخمد تلك النيران وكل تلك الاسئلة التي اشتعلت على نحو مباغت وصاعق في صدورهم وارواحهم الطرية وان قلوبهم باتت بفعل هذا الموت الجارح والقاسي والمفاجئ اكثر قدرة على احتمال الوجع والغياب والفجيعة.
ليس في وسعنا بعد اليوم النظر في عيني شقيقه داني الذي سنشاهدة كل صباح وهو يسير الى مدرسته وحيدا دون ان يكون ممسكا بيدي نديم ودون ان يكون ممتلئا بكل تلك الطمأنينة التي كانت تبعثها في روحه مرافقة الشقيق الكبيروالصديق النبيل والحارس الوفي وابرع دليل.
بعد هذا الموت لن يكون في وسعنا النظر الى ملعب كرة السلة في سرية رام الله بعد ان غاب عنه واحد من اشقى الفتيان واكثرهم ولعا بالكرة والسلة وتسجيل الاهداف.
بعد هذا الموت لن يكون في وسع ابنتي سلمى ان تلوح بيدها من نافذة السيارة وان تكيل الشتائم المحببة لذلك الفتى الذي كان يطالعنا عند زاوية الشارع في كل صباح ذلك لانه تغيب عن موعده معها في ذلك المخيم الصيفي وتركها وحيدة تقارع مجموعة من الاطفال المشاكسين الذي اتوا للمخيم طمعا في مناكفة نديم والاسترسال معه في احاديث والعاب تجلي عن قلوبهم الصغيرة بعضا من ضجر.
لن يكون في وسع اي منا ان يخلد الى النوم دون ان يتذكر حشرجات داني وهو ينادي بصوته المبحوح والمفجوع والمخنوق "بدي اخوي .. بدي نديم".
بعد هذا الموت بات شارع الطيرة ناقصا وباتت كل الاشجار المنثورة علي جنبات الطريق شاحبة وصامتة .. لن نتعثر به بعد اليوم ولن تطالعنا قبعته وكوفيته التي كانت تتدلى على الكتفين.
بعد موت نديم صرنا نحب ابناءنا وبناتنا اكثر وصرنا نخاف عليهم اكثر وصرنا نتسلل الى غرف نومهم ليلا كي نتأمل ملامحهم ونتلصص على احلامهم ونبكي بصمت قرب أسرتهم.
بعد موتك يا نديم .. بات كل اصدقائك وزملائك يعرفون ان للحياة طعما ومذاقا اخر .. صاروا يعرفون بحكم التجربة الممزوجة بالوجع ان الحياة تحت الاحتلال لم ولن تمنحهم الفرصة لكي يكبروا على مهل.
كان موتك بالنسبة لهم الدرس الاول .. واول الخيبات والانكسارات .. لقد كبروا فجأة .. كبروا قبل الاوان بعد ان دهمهم الموت في لحظة غادرة.
نديم .. ايها الفتي الجميل والمشاكس والشقي .. يا فاكهة المدينة الاطيب والاشهى.. كن واثقا ان داني سكيبر وستكبر معه الاوجاع والاحلام والاسئلة والامنيات وستبقى روحك تحرسه في الطريق الى البيت وفي الطريق الى المدرسة وفي الطريق الى فلسطين التي احببتها حد الموت.
نديم .. في ذات اليوم الذي رحلت فيه عن المدينة غاب عن سمائنا قمر اخر .. انطفأ في ذات الساعة وفي ذات المكان وربما برصاصة اطلقها ذات القاتل.
اسمه محمد ابو ظاهر وهو شقيقك في الحلم ورفيقك في الرحلة الى ذلك الغياب الطويل.
امسك بيديه يا نديم ودفئ رعشات قلبه ودثره بالغيم الابيض وامنحه بعضا من ذلك الحب الذي كنت توزعه على كل الرفاق والاصدقاء في ساعات الضيق وفي لحظات التعب.
نديم .. وداعا ايها الفتى الجميل