دينا شريف ... 37 عاماً على نكبتها وما تزال تحلم بالوقوف
فراس ماهر أبو عيشة
معاناةٌ يوميةٌ تعيشها تلك الفتاة ، التي تعجزُ عن الوقوفِ والمشي على قدميها ، وتسير من خلال كرسي مُتحرك وأُخرى كهربائيّ ، فملامحُ وجهها تدُل على المعاناة ، وفي تجاعيدها حكايةٌ لقصةِ كفاحٍ بُطوليةٍ ، تروي تفاصيلَ حادثةٍ ذات وهلةٍ مفاجئةٍ ، وفي عينيها دُموعٌ يملؤها القهر والانكسار ، وفي ابتسامتها يتجلى ألمٌ يُدمي القلوب ، وفي بوح كلماتها حشرجةٌ في الصوت ، فلا شيء سوى بقايا من الصبر والأمل للعودة كما كانت من قبل ، ورُغم ذلك هي صامدةٌ ولم ولن تستسلم .
الشابة دينا شريف ، من قرية بيت وزن الواقعة غرب مدينة نابلس ، في الخمسينيات من العمر ، تُعاني من إعاقةٍ جسديةٍ وحركيةٍ منذ أكثر من ثلاثين عاماً ، ففي ذكرى يوم النكبة الـتاسعة والعشرين ، عندما كان عمرها في الأول من العقد العشرين ، أُصيبت بتلك الإعاقة والحادثة .
وتستهل دينا شريف حديثها : " كانت حياتي قبل الحادثة طبيعية جداً ، فأنا كنت الوحيدة بين إخوتي ، وعلاقاتي الإجتماعية والعائلية مُمتازة ، ودراستي كذلك ، ولكن أهلي وعائلتي كانوا فوق كل شيء " .
وبكلماتٍ يملؤها الأسى تروي قصة حادثتها : " ما حدث يوم 15-5 من عام 1977م في ذكرى تشريد الشعب الفلسطيني الـتاسعة والعشرين ، وفي العاشرة صباحاً ، عُدت إلى المنزل بعد المشاركة في إحدى المسيرات الطلابية إحياءً لهذه الذكرى ، وقُمت بترتيب غرفتي ، وعندما أمسكت بـِفراشِ سريري كي أُرتبه ، بدأت أشعر بارتخاءٍ في رجلي اليمُنى ، واستهترت بالموضوع على أنه أمر طبيعي ، ولكنها جاءت تلك اللحظة والثانية " .
وتصف شريف أن ما حصل في ذلك اليوم وتلك اللحظة يومٌ كارثيّ ، وما يحصل في الأيام الأخرى يوم إعتياديّ .
وتنوه شريف قائلة : " في الفترة الأولى من الحادثة ولمدة 15 عاماً وأكثر ، كُنت أخجل وأرفض الخروج إلى الشارع ، رُغم كل الضغوط التي كان يُمارسها الأهل والعائلة لخروجي من بين جدران المنزل " .
وتُضيف : " أنني لم أترك أي مستشفى أو أي طبيب ودكتور في فلسطين ، وحتى مدينة الحسين الطبية في الأردن ، وبقيت أبحث عن الأمل لعلني أصل له ، ولكن بلا جدوى " .
وتقول شريف : " أن الأطباء وصفوا حادثتها على أنها جاءت بسبب حالةٍ نفسية بفعل الإحتلال وأفعاله ، ولكنها ستزول بالقريب العاجل ، وأنه كما جاءت اللحظة في ثواني ، فستأتي لحظة أُخرى للعودة كالسابق " .
ومكثت دينا شريف في مستشفيات مدينة الحسين الطبية لأكثر من ستة شهور ، وتحليلات وأقوال الأطباء لم تتغير أبداً على طيلة تلك الفترة .
وتُوضح أن الأطباء في مدينة الحسين الطبية طمأنوا والدتي بأنني لا أُعاني من أي شيء ، وفحصوا كل الشرايين والأعصاب ، وكانت سليمة 100% ، ولكن ما الذي حصل ؟ ، لا أعلم .
وتُكمل شريف أنها قالت للأطباء وركزت على إصابتها بشلل وبالتحديد " شلل الأطفال " ، وكان ردهم أن هُناك إبرة موجودة لدينا تأتي من أمريكا ، وإذا كنتِ مُصابة بشلل فلن تستطيعي الوقوف والمشي ، وإذا كان العكس فسوف تستطيعين الوقوف .
وتُبين شريف أنها أخذت الإبرة ، وبعدها استطاعت أن تمشي بمقدار خمس خطوات ، رافقها دوار شديد ، ومن تلك اللحظة إلى الآن بلا أي خطوة غير على الكرسي المتحرك والكهربائي .
وتُضيف : " الأطباء أجمعوا على أنني لا أُعاني من شلل ، مؤكدون على أنني لو كنت أُعاني من الشلل لم أستطع الوقوف للحظة واحدة ، أو المشي بخطوة واحدة " .
وتصف شريف أن الأطباء إرتكبوا خطأ بحقي وحق الحادثة التي أُعاني منها ، ألا وهي أنهم لم يتطرقوا لموضوع العلاج الطبيعي ، وممارسة بعض التمارين الرياضية على الإطلاق .
ورفضت دينا شريف فور عودتها من مدينة الحسين الطبية إلى مسقط رأسها في قرية بيت وزن في مدينة نابلس أن تستخدم الكرسي الكهربائي ، بل كانت تستخدم الكرسي المتحرك ، بالإضافة إلى أنها تقوم حتى الآن بالأعمال المنزلية من طبخ وغسل وتنظيف ، وتُدير أعمالها بنفسها .
وبعد عشر سنوات تقريباً ، أسست مركزاً للاتحاد العام للمعاقين الفلسطينيين ، وطالبت بالتعديل السكني ، وسهولة المواصلات والحركة ، ودمج المعاق في المجتمع .
وتقول شريف : " تلا ذلك زيارة شاب من الإتحاد ، طلب مني الذهاب إلى جمعية أصدقاء المريض – مركز خليل أبو رية للتأهيل في مدينة رام الله للعلاج ، ولكن رفضت لأن الأمل بات مفقود " .
وتُوضح أنها وبعد فترة وافقت للذهاب إلى مركز التأهيل الذي كان يعتمد على التمارين الرياضية والعلاج الطبيعي ، وشعرت بتحسنٍ كبير ، ولكن بعد أن بدأت عضلاتي بالموت البطيء ، بمعنى أنها أصبحت لا تستجيب .
وتُشير إلى أنه تم نقلي إلى مستشفى هداسا الإسرائيلي ، وتم فحص أعصابي ، وفي حينها أكد لها أحد الأطباء أن أعصابها قوية ، وأنها لا تُعاني من شلل أو أي مرض أو فيروس .
وبعد ذلك جاءني شاب يُدعى " مصطفى عمر " من جمعية الشبان المسيحية ، والذي كان له الفضل الكبير في تأسيسي للاتحاد العام للمعاقين ، وقدم لي التشجيع الكافي في مجالات الحياة .
وتُعرب شريف عن فرحها بمشاركتها في العديد من الدورات بالرغم من حالتها ، ومن هذه الدورات : الخياطة ، والتنجيد ، والرسم على الزجاج والنحاس ، والخيش ، والصنارة ، والخرز ، وغيرها .
وُتشير إلى أنها كانت تُمثل الإتحاد الذي أسسته في الإجتماعات والمؤتمرات والدورات التي كانت تُعقد في مدينة رام الله ، وهي عضو فيه حتى الآن ، بالإضافة إلى أن أول قرار لإستلام وتخفيض الجمارك على سيارات المعاقين هي من استلمته ، وأنها عضو فعَّال ودائم في الجمعية النسوية في قرية بيت وزن إلى يومنا هذا .
وتستكمل حديثها : " وفي عام 2012م تقريباً ، زارني مجموعة شبابية من الشركة الوطنية للتجارة العادلة – عدل ، وأنشأوا لي العديد من المعارض ، كان أولها منفرداً في كلية فلسطين التقنية في رام الله ، وكان الإقبال شديداً عليه ، حيث حضرته وغطته الصحافة الأجنبية ، وآخر معرض لي في دولة قطر مع بداية شهر نيسان من هذا العام ، ولكنني وبسبب وضعي الحالي لم أستطع الذهاب إليه ، بالإضافة إلى العديد من المعارض الجماعية في جامعة النجاح الوطنية وغيرها " .
وتُعبر دينا شريف عن ألمها من عبارة " مسكين " و " يا حرام " ، التي يُرددها أبناء الشعب الفلسطيني عند مشاهدة حالات من ذوي الإحتياجات الخاصة ، فتصفها أنها كالخناجر والسكاكين التي تضرب الجسد وتبقى مغروسة فيه .
وتُضيف : " ربي قد حرمني من نعمةِ الوقوف والمشي على القدمين ، ولكنه أكرمني بأعمالي التي أتميز بها ، وامتلاكي لعائلة تقف معي في كلِّ مسرةٍ ومحنةٍ ، واعتمادي على نفسي بشكلٍ كامل ، في الحركة وفي الأعمال المنزلية " .
وتستعرض شريف قصة حصلت معها ، بزيارة إحدى الفتيات مع السنوات الأولى من الحادثة ، حيث قالت لها : " علة الموت ما إلها دوا " ، فكانت كالسهم الذي يطعن الشخص حتى الموت .
وتشعر شريف بالألم عند خروجها من المنزل ، ورؤيتها للبشر يسيرون على أقدامهم ، ولا يُقدرون تلك النعمة ، ولكن أنا لا أشعر بأي نقصان ، وأحمد الله على كل شيء .
وتستذكر أنها في الماضي وقبل الحادثة ، كانت تقود العديد من المسيرات الطلابية ، وكان أول خروج لها من المنزل بعد الحادثة للمشاركة في مسيرة تضامنية بمناسبة يوم المعاق الفلسطيني ، مُبينةً أنه وفي تلك اللحظة انهارت أعصابها ، مُبديةً فرحةً امتُزجت بالدموع ، لقدرتها على قيادة مسيرةِ مع من هم من أمثالها ، بالرغم من حالتها الصعبة .
وتُنهي دينا شريف حديثها أن وضعها في الوقت الراهن كما هو ، ولكن بدأ يظهر عليها المضاعفات التي تتكاثر بشكل تدريجي ، وذلك بعد 37 عاماً من الحادثة دون أي جدوى .
فهذه هي قصة وحكاية المعاناة والنكبة لتلك الفتاة الشابة ، التي تحلُم إلى يومنا هذا ، أن تعود وتقف على قدميها كشجرةٍ شامخة ، وتسير كباقي البشرية ، فمفاتيحُ القدرة والقوة بيدِ الله ، ولكنها ما زالت تثق بأن مالك المُلك معها ، ولذلك فهي تتشبث وتتمسك ببقايا من الأمل والتفاؤل الذي بات شبه معدوم .