مهد المسيح في حضرة الحبر الأعظم 'فرنسيس'
بلال غيث
بضع ساعات استغرقت زيارة البابا فرنسيس الأول إلى مدينة بيت لحم 'مهد المسيح'، وسرعان من انطلقت به المروحية الأردنية التي أقلته من عمان إلى المهبط البسيط الذي هيئ لها مؤخرا في مدينة بيت لحم الغارقة في المعاناة والآلام من الاحتلال، إلى مطار بن غوريون قرب مدينة تل أبيب حيث تصنع وتحاك المعاناة الفلسطينية من المحتلين الإسرائيليين، لينتقل بعدها من هناك إلى مدينة القدس التي لا تبعد سوى 9 كيلو مترات عن القدس المحتلة التي يزورها البابا في محطته الأخيرة.
الحبر الأعظم 'فرنسيس' شاهد بأم عينيه معاناة الفلسطينيين من الاحتلال والجدار، وتحدث لمن شردوا من أرضهم إبّان نكبة العام 1948، وحاول الفلسطينيون لفت نظره إلى معاناتهم بطرق مختلفة مستغلين الساعات القليلة التي قضاها بينهم.
إنها الزيارة الرابعة لأعلى مرجعية دينية للمسيحيين الكاثوليك في العالم، والبابا فرنسيس الأول هو رابع بابا يصل المنطقة منذ عام 1965، بعد أول تقارب حصل آنذاك بين الجناحين الكبيرين للكنيسة المسيحية في المنطقة، والذي توج بلقاء بين بابا الفاتيكان وبطريرك الروم الأرثوذكس.
الفلسطينيون الذين التقوا البابا خلال محطاته المختلفة في بيت لحم تمنوا من قداسته كرئيس للمسيحيين الكاثوليك في العالم بأن يوصل رسالة مسيحيي الأراضي المقدسة عموما وبيت لحم خصوصا، من أجل الحفاظ عليهم وعلى وجودهم على هذه الأرض التي يهددها الاحتلال رغم أنها تضم أكثر الأماكن قداسة بالنسبة لمسيحيي العالم، وهي الأرض التي انطلقت منها رسالة المسيح إلى العالم الذي ينعم بمفاهيم المسيحية التي تمثل الكرامة الإنسانية والعدل والحرية .
وكبادرة لدعوته للتعايش بين الأديان السماوية الثلاثة في المنطقة، استعان البابا خلال هذه الزيارة بحاخام يهودي وشيخ دين مسلم كي يكونا ضمن الوفد المسافر معه لأول مرة، حيث يرافقه كل من الحاخام أبراهام سكوركا، والشيخ عمر عبود مدير معهد حوار الأديان بالعاصمة الأرجنتينية بيونس أيرس، اللذين عرفهما في مسقط رأسه.
ما أن حطت طائرة البابا في مهبط الرئاسة حتى أقيم له استقبال مهيب، حيث سار بسيارته إلى قصر الرئاسة في بيت لحم، وأكد في مؤتمر صحفي مع رئيس دولة فلسطين محمود عباس، أن الوضع الراهن لم يعد مقبولا، وآن الأوان لإنهاء الوضع الراهن، حيث يعيش الشرق الأوسط في صراع منذ عقود آن الأوان لوضع حد له، فيما أكد سيادة الرئيس أن القيادة والشعب الفلسطيني مستعدان للعمل سويا لتعزيز الوجود الفلسطيني المسيحي في المنطقة، وقال إن الفلسطينيين يعوّلون على البابا ليتمكن شعبنا من الحصول على استقلاله ويتخلص من الاحتلال، ونرحب بأية مبادرة قد تتخذونها لجعل السلام حقيقة في الأرض المقدسة.
بعد لقائه بالرئيس، بدأ البابا يشق طريقه نحو ساحة المهد انطلاقا من شارع القدس الخليل، بجانب الجدار العنصري الذي يفصل بين التوأمين القدس وبيت لحم، ولوّح المواطنون للبابا وهتفوا له وبدت علامات الفرح عليهم رغم منغصات الاحتلال.
وقبيل وصوله توقف وترجل من سيارته وسار باتجاه جدار الفصل العنصري ووضع يده عليه، في محاولة لتلمس المعاناة الفلسطينية، وقام بأداء الصلاة هناك، وهي لفتة هي الأولى من نوعها لأعلى مرجعية دينية مسيحية في العالم.
وفي طريقه إلى ساحة المهد كان البابا على موعد مع مرئيّات من إنتاج المتحف الفلسطيني، حيث علقت هذه المرئيات على جدران كنيسة المهد، يتمازج فيها الوجع الفلسطيني الرّاهن مع لوحات مسيحيّة من القرون الغابرة، شاهدها البابا وتأثر بها قبل أن يكمل رحلته إلى مصنع إنتاج البؤس الفلسطينيّ في تل أبيب.
ويقدّم العنوان المُختار لهذه المرئيّات، 'ضع إصبعك على الجرح وتأكّد من حقيقة وجودي'، بهذه الكلمات التي خاطب فيها القديس دوما المشكّك بقيامته، يخاطب الفلسطينيّون البابا فرانسيس الأوّل.
وضع البابا إصبعه من خلال المرئيّات على الجرح الفلسطينيّ، بل على الجرح الفلسطينيّ الملتبس بجروح زمن السيّد المسيح، رأى الحبر الأعظم النصف السفليّ للوحة الرسّام الهولندي رامبرانت التي تظهر إبراهيم وهو على وشك التضحية بابنه، قبل أن تمتدّ يد ابراهيم خارج اللوحة لتصير يد جندي إسرائيليّ في الأرض المحتلّة، كما رأى أيضاً النصف الأيسر للوحة الرسّام الاسباني موريّو التي تظهر شفاء المسيح لرجل كسيح، فيما حجز الجدار الأمني الذي أنشأته إسرائيل نصف اللوحة الأيمن.
'المؤمنون في بيت لحم ليبارككم الرب الكلي القدرة، وليحميكم وليمنحكم الحكمة والقدوة اللازمتين لمتابعة مسيرة السلام الشجاعة، كي يتحول السيف إلى محراث وتعود الأرض لتزهر مجددا في الازدهار والوفاق سلاما'، بهذه العبارات بدأ البابا فرنسيس قداسه الاحتفالي الذي أقيم في ساحة المهد بمشاركة الآلاف من المسيحيين من أنحاء فلسطين ومن أراضي عام 1948 ومن مختلف أرجاء العالم الذين حضروا خصيصا من أجل هذا القداس.
المشاركون في القدس أعربوا لــ 'وفا'، عن أملهم أن تسهم هذه الزيارة في تحقيق السلام والتخفيف من الهجرة المسيحية من أرض المهد جراء الاحتلال.
وفي هذا السياق، قالت رولى ريمون، القادمة من قرية جفنا في محافظة رام الله والبيرة، إنه شعور عظيم الذي عاشته عند مشاركتها في القداس الاحتفالي الذي أقامه البابا فرنسيس في ساحة المهد، وهي سعيدة بأنها تمكنت من المشاركة والحضور لهذا القداس، وتمنت أن يحقق لها الرب أمنياتها وأمنيات المسيحيين الفلسطينيين عامة بالسلام والاستقرار.
من جانبها، قالت روز خوري القادمة من بلدة بيرزيت، أمنياتنا أن تسهم زيارة البابا في تحقيق الاستقرار والسلام، وأن تسهم في تثبيت صمود المسيحيين على الأرض الفلسطينية ولفت أنظار العالم إلى معاناتهم جراء الاحتلال.
ذات الأمنيات كانت لزهير فرنسيس القادم من الناصرة، داخل أراضي عام 1948، الذي قال إنه شعور لا يوصف أن يشاهد البابا بأم عينيه، معربا عن خيبة أمله لعدم تمكنه من مصافحته نظرا للعدد الكبير من المواطنين المسيحيين الذين يشاركون في القداس.
من جانبها، قالت نفين صايغ القادمة من القدس المحتلة للمشاركة في القدس، إن الإجراءات الإسرائيلية تعيق تمكن المسيحيين من مشاركة البابا في زيارته في مدينة القدس وفي كنيسة القيامة، معربة عن أملها أن تسهم زيارة البابا في نشر العدل والسلام في كل الدول العربية غير المستقرة، وأن تتحرر فلسطين من الاحتلال الإسرائيلي.
من جانبه، قال رامي الطويل الذين وصل من قطاع غزة إلى بيت لحم للمشاركة في القداس، إنها فرصة عظيمة له لرؤية البابا فرنسيس، ورغم ما تكبده من المعاناة من الاحتلال على مدار الأيام الماضية، إلا أنه يشعر بالسعادة لتمكنه من الوصول إلى بيت لحم والمشاركة في القداس.
إلى ذلك، تمنت ابتسام عزام القادمة من مدينة البشارة (الناصرة)، أن تسهم هذه الزيارة في تعزيز العدل والسلام والمساواة لأبناء شعبنا الفلسطيني.
فور انتهاء القدس توجه البابا لتناول طعام الغداء مع بعض العائلات المتألمة من فلسطين، في فندق كازانوفا التابع لدير الآباء الفرنسيسكان في بيت لحم، واستمع هناك إلى معاناتهم، ثم توجه الحبر الأعظم في زيارة خاصّة للوحة الميلاد في بيت لحم.
واللوحة ذات طابع محلّي للقدّاس فهي عمل فني، طولها 14 مترا وعرضها 6 أمتار، داخل المغارة قام الفنان روبير جقمان ابن فلسطين ومدينة بيت لحم، الذي نال تنشئته في إيطاليا، بإعدادها وهي عبارة عن قطعة من القماش مليئة بالألوان الزاهية، وتمثل مغارة الميلاد.
ويظهر في هذه اللوحة إضافة الى هذه الشخصيات التقليدية، البابوات الثلاثة الذين زاروا الأرض المقدسة وهم بولس السادس ويوحنا بولس الثاني وبندكتوس السادس عشر، متقدمين لأجل السجود لطفل المغارة، تتبعهم حمامة بيضاء هي رمز السلام. أمّا البابا فرنسيس، فهو لا يظهر بصورة مباشرة داخل هذه اللوحة، لكنه حاضر في شخص شفيعه القديس فرنسيس الأسيزي، محب الفقراء وحامي الأماكن المقدسة.
وتظهر في اللوحة أيضاً، إلى الجهة اليمنى، راهبتان هما الطوباوية الكرملية مريم بواردي، ابنة الجليل ومؤسسة كرمل بيت لحم، والطوباويّة ماري ألفونسين غطّاس، مؤسسة رهبانية الوردية (أول راهبة فلسطينية المنشأ)، والتي ولدت لعائلة فلسطينية من القدس، وقضت في بيت لحم والجوار سنوات طويلة.
ويظهر في اللوحة القديس يوسف، وهو يضع على رأسه كوفيّة تحمل اللونين الأبيض والأسود، رمزاً للكوفية الفلسطينية، التي تغطي كذلك جسد الطفل يسوع وهو مضجع في المذود، في الخلف، تظهر مدينة بيت لحم
إنه حقاً لعمل مليء باللمسات الفنّية والرموز التي أدرجها الفنان.
مرئيّات البؤس واللجوء في حضرة الحبر الأعظم
وفي مخيم الدهيشة، كان البابا في محطته الأخيرة هناك على موعد مع ذكريات اللجوء والمعاناة الفلسطينية التي تسبب بها الاحتلال لشعبنا إبّان النكبة عام 1948، فزيارة المخيم تشكل إحدى المحطات في زيارة البابا، ساهم المتحف الفلسطيني في تنظيم معرض لمجموعة من صور أرشيف وكالة الغوث، جنباً إلى جنب مع مجموعة أخرى من المرئيات التي تركز على واقع حياة اللاجئين بين الماضي والحاضر.
ويؤكد القائمون على المرئيات في المخيم، أنها تمثل حكاية طويلة للاجئين الفلسطينيين بدأت في العام 1948، ولم تنته بعد، ولا يبدو أن هناك أية بوادر في الأفق لحل هذه القضية وتحقيق العدالة لأصحابها. ومن خلال المرئيات التي نعرضها تظهر مقاطع من حياة اللاجئين في الماضي والحاضر.
ويقول القائمون على ترتيبات الزيارة واللوحات إنها تعكس بالجوهر الجانب الروحي لاستمرار معاناة الشعب الفلسطيني، ومعاناة السيد المسيح، رغم اختلاف الأزمنة.
وتقول المتحدثة الرسمية لزيارة البابا لفلسطين أميرة حنانيا،