مَن يحتفل بمَن؟- راجي بطحيش
انطلق في فلسطين الحدث الثقافي الأدبي الجدلي صاحب التسمية الطموحة جداً بالعربية «احتفالية فلسطين للأدب 2014» والتسمية الانكليزية الأكثر طموحاً إلى حد الوقاحة The Palestine Festival of Literature باختصاره الزئبقي المتكلف (PalFest)، وبالعربية بالفست. يقام هذا الحدث (احترت بين التذكير/ التأنيث مهرجاناحتفالية) من 31 أيار 2014 ولغاية 6 حزيران (يونيو) 2014 ويجوب مدن رام الله، القدس، غزة، بيت لحم، الخليل، حيفا، إقرث، عكا، نابلس واللد.
في محاولة لتحليل الخطاب المتعلق بهذه الاحتفالية التي تقام للمرة السادسة على التوالي، لا نصل إلا الى خط سردي واحد. إنها عملية إنزال ثقافي لكتاب «إنسانيين» من العالم لمساعدة الكتاب الأصلانيين بموارد بريطانية على التطبيع مع بؤسهم عبر تثبيت دونيتهم وإقناعهم أنهم لا يعيشون حياة حقيقية بالمفهوم المادي للتعبير إلا إذا جاء «البريطاني» لزيارتهم. بكلمات أخرى، لا يتحقق الشاعر/ الكاتب من نابلس أو اللد إلا عبر النظر والمرور عبر مرآة المركزية - الأوروبية أو المركزية البيضاء أو البريطانية . سموها ما شئتم. إنها أميركا التي لم تتواجد على الخارطة وفي الوعي البشري إلا حين زارها كولومبوس واكتشفها عبر عيونه، كما أن كهوف قندهار لم تتواجد في الوعي الجمعي العالمي إلا حين دخلها الأميركو/ بريطاني.
تحمل تسمية The Palestine Festival of Literature تداعيات تعميمية فضائحية تقوم بشطب كل ما هو موجود في فلسطين من أدب وأدباء وتاريخ كتابي، وبالتالي إعادة تشكيل الفعل الأدبي مادياً عبر عيون القائمين على المهرجان/ الاحتفالية، بالفعل عبر التنقيب عنهم في كهوف قندهار، عفواً كنعان. وكما يوحي على الأقل الخطاب/ النص الصادر عن المهرجان وضمن موقعه الرسمي، فالتسمية الانكليزية باستخدامها تعريف The تقول بالتالي أنّه «الـ» مهرجان الواحد والوحيد والشامل والمكرس والجامع، وأنه المرجعية الوحيدة ومصدر القوة المؤسسة لأدب فلسطيني «أصلاني» مدفون طالما لم يره صاحب الوصاية القادم من بلاد الانكليز. لا تكمن إشكالية هذا الحدث بكونه يدّعي وينسب لنفسه حيازة الفعل الأدبي في فلسطين فحسب، بل بكونه يتعمد انتقاء المشهد الذي يريحه والذي يضمن له أقل قدر من الجدل وأكبر كمية من الاستكانة والتسليم بدونية الأدب الفلسطيني، وكونه منتجاً منسياً وهامشيا بفعل الاحتلال يجب إزالة التراب عنه. ولا أبالغ حين أقول إنّ ثمة تهميشاً وإقصاء متعمداً منذ إطلاق هذا «البالفست» قبل ستة أعوام لمشهد أدبي كامل ولكل صوت لا يزوّدهم بالبضاعة التي يريدون، وهي مضغ وعلك والاحتفاء بلقب الضحية الأبدية التي لا تستطيع انتقاد الذات، ليس لأنها لا تريد ولكن لأنها لا تعرف كيف تقوم بذلك، كما لأنها لا تقوى على نفض دور المتلقي السلبي عن ذاتها.
ما العمل إذا كنا مخلوقات ما بعد استعمارية صدموية نعاني من جميع عقد وحساسيات من يرفض أن يكون تابعاً ثقافياً، أو مجرد ضحية تحمل على كاهلها قضايا لن تحل إلا إذا تفككت منظومات مهووسة بالمركزية كالتي تدور في فلكها هذه الاحتفالية. مشكلة هذا المهرجان الكبرى التي يعي أو لا يعي لها كل من يحتفي ببشائره القادمة مرة في السنة لتحيي «صحراء» السرد والشعر التي نعيش فيها، أنه يقوم على مبدأ الوسطاء، فهو لا يجرؤ أو لا يريد الوقوف بندية مع الأسماء الفلسطينية البارزة حالياً على الساحة (وخاصة جيل التسعينات الذي أنتمي بفخر له)، والتحاور معها، لأن ذلك يشكل اعترافاً ضمنياً بأن ثمة حركة أدبية مستقلة وواعية لدورها في فلسطين، وأن ثمة أسماء تذكر بشكل تلقائي عندما نقول «أدب فلسطيني» وذلك بعيداً عن استجداء الذهنية المركزية الأورو- أميركية كي تعترف بها. لا شك على سبيل المثال أن دور الكاتبة الكبيرة أهداف سويف في هذه الاحتفالية كوسيط مصري أرستقراطي بين الأوروبي- البريطاني وبين الفلسطيني، هو إشكالي من الدرجة الأولى. ولا يهم من أي زاوية ننظر لهذا الدور. كما أن الإصرار على زج اسم نجوان درويش، وهو شاعر شاب لم يشكل علامة هامة تذكر بعد في المشهد الشعري الفلسطيني كوسيط بين أهداف سويف والمحتفى بهم في فلسطين، هي مشكلة أخرى بحد ذاتها، خصوصاً إذا عرفنا أن نجوان درويش يتحول كل سنة إلى نجم المهرجان وملكه غير المتوج ومانح البركة فيه على المشتركين ممن يرضى عنهم. كما يعتبر قاسماً مشتركاً في كافة فعاليات المهرجان، إذ خصصت له أمسية شبه منفردة في The أو «الـ» مهرجان لتتويجه كشاعر الوطن من وجهة نظر غير متوازنة بالطبع. كما تتكرر الأسماء الفلسطينية المشتركة في المهرجان، تقريباً كل سنة، إضافة إلى تبني أنماط بلاغية ركيكة وبالغة الرومانسية مثقلة بالترميز المبتذل، وهو الدور الذي تقوم به الجمعيات والمؤسسات الحاضنة لفعالياته من الداخل، بهدف تسويق المهرجان والترويج لنشاطاته بلغة استجداء الماضي لإحياء فلسطين من بين الركام بشكل لا علاقة له بالواقع، بل يجتر نفسه من ماض نفيس غير واضح المعالم، بعدما كنا قد اعتقدنا خائبين أن هذا الخطاب البلاغي الذي لا يطاق ولى زمانه.
أما إذا كان يدور في ذهن القارئ البريء الآن أنني أكتب كل هذا لأنه لم تتم دعوتي للمشاركة في نشاطات الاحتفالية كضيف رسمي على مدار ست سنوات متتالية، فالإجابة بكل تواضع هي: نعم. الاحتفالية التي لا تدعو أبرز الأسماء في السرد الفلسطيني الحالي للمشاركة فيها على قلتهم (كي نحتفل سوياً على الأقل) تستدعي الكثير من الأسئلة ومحطات الوقوف.
* كاتب فلسطيني