يتجنى على إدوارد سعيد ويتناقض مع نفسه... ساردار يتحامل على إدوارد سعيد
مفيد نجم
ما يزال الاستشراق ونقده يشكلان حقلا مثيرا للجدل والبحث والاستقراء والاختلاف، حتى بين من يسمّون أنفسهم بالمستشرقين. وقد تصاعدت في السنوات الماضية وتيرة الدراسات الاستشراقية التي اتسمت بمحاولتها المطابقة بين أطروحات فكر ما بعد الحداثة والاستشراق.
مشروع كلمة للترجمة في أبو ظبي، وعبر اختيارات متعددة، قام بترجمة عدد من المؤلفات التي تبحث في موضوع الاستشراق، في محاولة للتعريف بتلك الدراسات الاستشراقية ونقدها، سواء من داخل حقل الاستشراق نفسه، أو من قبل الباحثين والدارسين الذين يتحدرون من أصول شرقية، رأوا أن التمثيل المقدم للشرق من قبل هؤلاء المستشرقين ينطوي على أبعاد إيديولوجية وعرقية وثقافية يجب التنبه إليها وفضحها، لما تحمله في طياتها من نزعات كولونيالية أو إمبريالية. في هذا السياق يأتي كتاب “الاستشراق: صورة الشرق في الآداب والمعارف الغربية” للباحث الباكستاني الأصل والبريطاني الجنسية ضياء الدين ساردار، الذي قام بترجمته فخري صالح.
تعليق على الكتاب
في تقديمه للكتاب يسجل فخري صالح بداية مجموعة من الملاحظات على مشكلة الاستشراق ومضمون الدراسة التي يقدمها المؤلف ساردار، لاسيما ما يتعلق منها بموقفه السلبي من أطروحات إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق، على الرغم من اعترافه بفضل سعيد على باحثي العالم الثالث في مجال هذه الدراسات، من خلال ما نبَّهتهم إليه من ضرورة دراسة الآداب والمعارف والعلوم الإنسانية الغربية بعيون جديدة، يمكنها أن تكشف عما فيها من حيل وغايات مخفية كامنة في أساس عملية تمثل الشرق، وما يمكن أن يبنى عليها من أطروحات. صالح يرى أن هذا الكتاب يعنى بتقديم رؤية راهنة للاستشراق بوصفه ممارسة ما بعد حداثية تسعى لإقامة نوع من المطابقة بينهما، نظرا لكونهما يريان كل شيء باعتباره تمثيلا، وبالتالي فلا ينطوي على أية إمكانية لما يسمى الحقيقة. لكن الباحث بالمقابل يعترف بأن تلك الدراسات الاستشراقية تقوم على نوع من الإخلاص في البحث بهدف الوصول إلى الحقيقة. تقوم دراسة ساردار على ما يسميه صالح بمجاز التخفي والتنكر الذي تحدث عنه الناقد والباحث الهندي هومي بابا.
مبحث متحيز
ساردار في تقديمه لكتابه يتحدث أولا عن ضرورة ممارسة الكثير من الدقة والحيلة عند تناول مشكلة الاستشراق، حيث يتم تجاوز سوء الفهم، لكي يكون بمقدور المرء رؤية ما تم إخفاؤه وإدراك الحدود المختلفة لصورة الشرق، التي جرى تشويهها طوال قرون.
بالمقابل يرى أنه ليس هناك شيء محايد أو موضوعي فيما يتعلق بالاستشراق، لأن الاستشراق من حيث التعريف هو مبحث متحيز وذو طبيعة مشايعة، أي أن الباحث الذي يدرس الاستشراق يحمل معه خلفيته وأدواته التي يستعين بها لإنجاز قراءته. هذا الواقع يحاول ساردار التحرر منه، من خلال العمل على تقويض هذه الفرضية أو التقليل من شأنها بعد أن أصبح الاستشراق يغزو ميادين جديدة هي عالم الأفلام والتفلزيون والأقراص المدمجة من جهة، ومن جهة أخرة إثر التغيّرت التي خالطتها الجغرافيا، إذ أصبح يشمل أوروبا نفسها، التي هي موطنه.
الباحث يرى استحالة تحرر الاستشراق من تحيزه واستيهاماته الخيالية عن الشرق، ما يجعله عقبة أمام الوصول إلى فهم حقيقي متبادل بين الغرب والشرق. من هنا تبدأ دعوته للبحث عن مقدمات ومداخل جديدة يمكنها أن تشكل بداية مختلفة للوصول إلى لقاء حقيقي بين الشرق والغرب.
إن أول ما يسجله عن الاستشراق هو تقديم الشرق بوصفه مملكة الحكايات ظهرت من خلال تغليف صورة الشرق بأشكال من القص وهو ما يجعله يبدأ بحثه من حكاية فيلم “مدام بترفلاي” التي تتحدث عن علاقة غرام قامت بين دبلوماسي فرنسي وسيدة أوبرا في بكين.
الباحث يصل من خلال حكاية الفيلم إلى استنتاجين اثنين يشكلان محورا للرؤية الاستشراقية، التي يتداخل فيها الفردي الخاص بالجمعي، أولهما البحث المحموم للرجل الغربي عن الغريب والمدهش والجنس في الشرق، وفي الآن ذاته السعي لتعليم الشرق والسيطرة عليه سياسيا واقتصاديا.
رغبة الامتلاك
في كلا الرغبتين يظهر النزوع الغربي لامتلاك الشرق، وهذه الرغبة هي التي تفرض تلك الصورة التي يجري تمثيله فيها لكي يتم تحقيق هذه الرغبة. وهكذا فإن تمثيل الثقافات والحضارات الواقعة شرق الغرب يرتكز إلى جهل مصنوع لأن تلك التمثيلات قد تم اختراعها وتلفيقها عن سابق إصرار ثم استخدمت كوسائل لاحتواء ثقافات الشرق وحضاراته وإخضاعها له.
ومن المفارقات التي يكشف عنها في البحث الاستشراقي تركيزه على التراث والتقليد دون الالتفات إلى الحديث، إضافة إلى سعيه لاكتشاف ماضي الشرق بحيث يمتلك من السلطة عليه أكثر مما لدى شعوب الشرق نفسها، دون أن يتخلصوا من محاولات التلفيق والوصول إلى النتائج التي تبرر نظرتهم المتحيزة للشرق.
يتحدث ساردار عن جانب من جوانب الاستشراق يتمثل في النموذج الأيقوني المثالي للمرأة الشرقية، يقابله نموذج الرجل الأبيض المعلّم المحبوب، أو إله المعجزة العلمية والتفوق التكنولوجي. ويعرض الباحث لواقع الاستشراق في صورته الحديثة، من حيث القول إنه نتاج جسم من الاستقصاء والتعلم المستمر المتزايد يهدف إلى تحقيق معرفة أكبر وأكثر تجردا وعقلانية، مبينا بطلان هذا الادعاء في ضوء قراءة تاريخه الذي لم يكن إلا نوعا من التأمل الداخلي المشغول بالاهتمامات والمشاكل والمخاوف والرغبات، التي تخص الغرب وحده، والتي يعمل على استحضارها من خلال ما خلقه من نموذج هو الشرق، الأمر الذي يجعل الأخير ليس سوى موجز مختصر متغير وغامض يتطابق مع رغبة الكاتب.
خطيئة الدارس
عند الحديث عن موقف الاستشراق من الإسلام يعود ساردار بتاريخه إلى العالم المسيحي يوحنا الدمشقي الذي كان صديقا مقربا من الخليفة الأموي يزيد. ساردار يقع في مشكلة منهجية فهو أولا يسوق جملة من الاتهامات المتعلقة بموقف العالم يوحنا السلبي من الإسلام، دون أن يذكر المصدر الذي استند إليه، ثم يقع في خطأ آخر هو النظر إلى مسيحيي الشرق على أنهم مستشرقون، وكان الأجدى بالباحث أن يدقق في الاسم فهو يحيل إلى أقدم مدينة تقع في قلب العالم هي دمشق. هذا الخطأ يقع فيه عدد من الباحثين ناسين أن الشرق هو الذي صدّر ديانات التوحيد الثلاث إلى العالم، ولم تكن الحروب الصليبية إلا جزءا من المشروع الاستعماري الغربي الذي يسعى لتكريس المسيحية بنسختها الغربية في شرق المسيحية، باعتبار ذلك خطوة لتجريد الشرق من قيمته الروحية والحضارية بهدف السيطرة عليه وامتلاكه، وكان ذلك واضحا من خلال حجم الاضطهاد والقتل الذي واجهه مسيحيو الكنسية الشرقية من قبل تلك الغزوات الهمجية.
لقد كان وجود الشرق ضرورة لكي يعي الغربي ذاته ويدرك مدى التمايز والاختلاف، ولو لم يكن الشرق موجودا لكان على الغرب أن يخترعه لتحقيق هذه الغاية. وما يقدمه الباحث من بحث في تاريخ الحروب الصليبية ودعاواها يمثل جانبا مهما من هذه الرغبة التي كان يعمل الغرب على تحقيقها، من خلال شيطنة الآخر وتشويه صورته، إلا أن هذه الصورة كما يعترف الباحث فيما بعد أخذت تتراجع بعد أن أصبح الشرق والهند المختبر الذي يستمد الغرب من خلاله المعلومات الجديدة، التي تجيب عن الأسئلة الكبرى الخاصة بالوعي الغربي للذات.
تحامل ساردار
الغريب في موقف ساردار العدائي تجاه إدوارد سعيد هو محاولته سلب الأخير ما قدمه في كتابه الاستشراق كل قيمة معرفية أو نقدية. فهو تارة يرد ما اعتمده سعيد من نظرية ومفاهيم في نقد الاستشراق والكشف عن مراميه وغاياته ووظائفه التي قام بها، إلى نظريات فوكو والنقد الثقافي والتحليل الماركسي، ليصل في النهاية إلى أن ما قدمه سعيد جدير بالنسيان عند مقارنته مع إسهامات العطاس وجعيط ، لأنه كما يرى لم يطرح أي أسئلة جديدة، ولم يقدم نقدا أكثر عمقا وشمولا من سابقيه.
لكنه يعود للاعتراف بأن إدوارد قدّم جدلا جديدا ركز على شيء اسمه الشرق، وهذا الجدل يستند إلى ثلاث سمات مبتكرة تخص الاستشراق تمثل الأول منها بالبعد الجديد للتحليل التاريخي وظهر في النقد الأدبي. كما كشف عن القيم التي أدت إلى صعود الإمبراطورية والاستغلال الإمبريالي.
أما السمة الثانية فظهرت في قدرته على جمع خيوط النقد جميعا في إطار واحد متداخل الاختصاصات، في حين أن السمة الثالثة تمثلت في قدرة سعيد على وضع نظرية فوكو والنقد الأدبي في موضع استراتيجي جديد لنقد الاستشراق. فكيف يستقيم هذا الإنجاز الذي يعترف به لسعيد مع محاولته تجريد مشروعه الكبير في كتاب “الاستشراق” من أي قيمة. إنه التحامل غير الموضوعي في نقد ساردار وموقفه المتحيز نحو إدوارد سعيد.
عن موقع صحيفة العرب - لندن