رحلة امرأة عربية مع الفضائيات الدينية- فراس عبيد
لم يخطر ببالي يوما أن أقرأ بحثا عن دور الفضائيات الدينية في تشكيل وعي المواطن العربي، لكن المفاجأة تحققت بينما كانت يداي تقلبان مئة وثلاثين صفحة للباحثة الفلسطينية (جمان قنيص) عنوانه (الفضائيات الدينية: الصورة المثالية للمرأة وأثرها على النساء).
في كتابها الذي يشبه السهم الذهبي تشخّص (جمان) حال فلسطين والوطن العربي الذي تغلغلتْ فيه الأفكار والرؤى المتزمته للدين الإسلامي العظيم، في غفلة عن عيون الرقباء الحريصين على إطلاق نهضة حقيقية للحضارة العربية، حيث أضحى التزمت والتشدد والتسلف والأخونة هو المعنى الوحيد للإسلام في نظر أولئك الذين ينظرون إلى الإسلام نظرات محدودة وضيقة، أو مذهبية وحزبية.
من نافذة رحبة رحابة المحيط، هي نافذة الإعلام الفضائي، الذي سار مسيرة طويلة وفائقة التأثير منذ انطلاق القمرين الصناعيين العربيين نايل سات وعرب سات - رمت الباحثة شباكها على وعي المرأة الفلسطينية، وعلى التغيرات العميقة التي طرأت على هذا الوعي بفعل مشاهدة الفضائيات الدينية مثل ( الحافظ، والناس، والرحمة، والحكمة، والمجد، والرسالة، وإقرأ،..) التي تحتوي في معظمها على مضمون إسلامي سلفي يرفض أية اجتهادات إسلامية غير سلفية أو مذهبية وهابية، باستثناء فضائيتين أقل تشددا هما (الرسالة، وإقرأ) اللتان تسمحان بظهور دعاة إسلاميين غير سلفيين ومنفتحين على العصر على شاشتيهما، مثل عمرو خالد وطارق سويدان والمعز مسعود وغيرهم ممن يوصفون بـ(الدعاة الجدد) لأنهم يدعون إلى التغيير من خلال العلم وتطوير الذات والعمل التطوعي والمجتمعي إلى جانب الدين.. وهو ما جعل تلك الفضائيات الدينية (بنوعَيها) تشتبك اشتباكا مباشرا مع الوعي العربي، في كيفية صياغته للوعي الديني وعلاقته بالعصر الحديث.
وبحسب البحث فإن العلاقة التفاعلية بين تلك الفضائيات الدينية ووعي المواطن العربي لم تَسِر على نحو صحيح، لأنها لم تدفع وعي المجتمع العربي والفلسطيني في حركة أمامية تعلي من شأن العقل والاجتهاد والتأويل، وأعادت توجيه اللحظة التاريخية الراهنة إلى درجة 200 عام للوراء لتجمّد الزمن على تلك اللحظة الماضية، بحجة أن (السلف: يقصد بهم أتباع مذهب الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي عاش في نجد بين عامي 1703 و1792 وساهم في تأسيس الدرعية عاصمة الدولة السعودية الأولى قبل نحو مئتي عام) - هو (النموذج الواحد والخالد) غير القابل للمناقشة ولا للنقض في الفكر، أو في الفقه، أو في التاريخ الإسلامي.. كما غيّبَ السلفيون عن فضائياتهم التيارَ الإسلامي المتنور الذي مَثله تاريخيا الإمام محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي وجمال الأفغاني، ولاحقا مثله الإمام الصوفي محمد الغزالي (الذي ألّف كتابا بعنوان الوهّابية تشوه الإسلام وتؤخر المسلمين) ومحمد شلتوت وفهمي هويدي ومحمد شحرور وغيرهم، في محاولة طمس تامة لهذا التيار الإسلامي المتنور المتأصل في التاريخ العربي بما يزيد عن مئة عام، والذي تجرأ وواجه الفقه السلفي قبل مئة عام بحجة قوية قوامها (الإسلام الصحيح يخالف كل ما كان عليه حال المرأة أيام السلف) لأنه ساوى تماما بين الرجل والمرأة، بل انه اعتبر آراء فقهاء ذلك العصر السلفي بخصوص المرأة متخلفة.. حيث واجه معظم علماء المذاهب الإسلامية السنية مثل الشافعية والمالكية والحنبلية عقائد الوهابية المتزمتة التي لم تتورع عن اتهام مخالفيها من أهل السنة بالشرك، ووضع علماء تلك المذاهب عددا وافرا من المؤلفات في الرد على طروحات الشيخ عبد الوهاب.
و يخلص البحث إلى أن ربع النساء الفلسطينيات ينتقين القنوات الدينية عن قصد، وإن النساء فوق الخمسين يملن إلى القنوات المتشددة والفتاوى المتشددة والدعاة المتشددين، في حين أن صغيرات السن العشرينيات يملن إلى الاتجاه المعاكس أي الأقل تشددا والأكثر انفتاحا ومرونة، ويمثل هذا الاتجاه الداعية عمرو خالد الذي لم يخرج من لا ترتدي الحجاب من الملة، كما عدل في شكل الحجاب والجلباب واستخدم أسلوب التحبيب لا الترهيب وتفوق في درجة وعيه وتحضّره عندما خاطب غير المحجبات بقوله: إذا لم تردن وضع الحجاب فالبسوا على الأقل لباسا محتشما..، وكذلك هو مَن دعا الفنانين إلى عدم الاعتزال باسم الدين بل إلى التمسك بأدوار فنية على درجة عالية من القيم والأصالة، وهو الفكر المستنير الذي أثار نقمة دعاة التسلف والتشدد على الداعية عمرو خالد ودفعهم إلى صب غضبهم العلني عليه في فضائياتهم باعتبار أنه (جاهل) في الدين، كيف لا وهم يدعون إلى مدينة مقسمة قسمين في كل ما فيها من شوارع ومعاهد ومعامل ومحال بحيث لا يختلط الرجل بالمرأة إلاّ في بيت الزوجية، فيُضحي (عمرو خالد) في مخيلتهم والحال هذا نقيضا شبه كامل لمشروعهم!
حتى أنهم لا يستضيفونه في فضائياتهم ولا يسمحون له أصلا بالظهور عليها، بالإضافة إلى أنهم لا يستضيفون النساء، ولا يصورون شوارع تظهر فيها نساء (رغم أن النبي كان يجلس مع زوجات الصحابة يعلمهن) بل ان مفتي الأزهر العلامة الجليل د. علي جمعه قد تعرض للشتم من قبل هؤلاء (الدعاة) في تلك الفضائيات لأنه (متساهل) في موضوعي الختان والنقاب.
وبالرغم من تفاوت المستوى الثقافي والتعليمي للدعاة في تلك القنوات، فإن كلمات دعاتها تُحمل على محمل الصدقية شبه المطلقة من قبل المشاهِدات، حتى لو لم يكنّ مقتنعات- حيث تشكل الفضائيات الدينية المصدر الوحيد للمعرفة الدينية لدى النساء ذوات المستوى التعليمي المتدني والأميات، وهنا تكمن خطورة الفاعلية الإعلامية البصرية لهذه القنوات الدعوية – في مجتمع لا يقرأ فيكون للتلفاز الأثر الأكبر في تشكيل وعي الفرد.
وفي الفصل الثالث المعنون (المرأة في خطاب الفضائيات الدينية) تضع الباحثة عناوين فرعية مهمة مثلت في مضمونها نتائج البحث وهي: المبالغة في تناول الحجاب، تعميق الأدوار النمطية للمرأة والرجل، تكريس عدم المساواة بين الرجل والمرأة وأفضلية الرجل، احتكار الحقيقة ونبذ الاختلاف.
هكذا نجحت تلك القنوات في التأثير على الفكر والاعتقاد والسلوك الاجتماعي للمرأة الفلسطينية، إيجابا وسلبا، وتجلى ذلك بحسب البحث في: (تثبيت التوبة، وترسيخ أفضلية الرجل على المرأة، والراحة النفسية والرضا، والالتزام بالحجاب، وتجنب الاختلاط، والإكثار من العبادات، وتعزيز الأخلاق وتقويم السلوك، والميل إلى اعتزال المحيط الاجتماعي، بالإضافة إلى انتشار رحلات العمرة الجماعية، واللقاءات الدينية، ونغمات الجوال الدينية، والعبارات الدينية في الاستئذان والمجاملة والترحيب والشكر،..).
بذلك أصبح المجتمع الفلسطيني ساحة مصغرة أخرى للصراع الفكري بين تصورات متضاربة عن شكل الإسلام في العصر الراهن، ويتجلى ذلك أكثر ما يتجلى في (تحليل أم تحريم) أفعال مثل: عمل المرأة، دراسة المرأة، مشاركة المرأة في العمل التطوعي والمجتمعي، ركوبها في مواصلات عامة، مخالفتها للزوج، إظهار الوجه، الجلباب،..
حيث تم استقطاب المجتمع الفلسطيني والمراة الفلسطينية لصالح الفكر السلفي المتشدد بفضل تلك الفضائيات، وبفضل غياب قنوات دينية وسطية وتنويرية و(شعراوية)، وبسبب قلة القراءة، وبسبب المستوى التعليمي المتدني لشريحة واسعة من المجتمع، وبسبب تحول الوعي الديني المتاح عبر تلك القنوات إلى (رأسمال اجتماعي) تستفيد منه الداعيات محدودات الثقافة في دعم مراكزهن الاجتماعية، وبسبب أرضيات مجتمعية خصبة للمعاناة وللإضطهاد يصبح الدين فيها رافعة تلقائية للإنسان المقهور في مجتمع تقليدي.
وتكشف الدراسة أن نسبة 26% من مواطني غزة والضفة ترى في النموذج السعودي النموذج الذي يجب على الدولة الفلسطينية المستقبلية أن تحتذي به.. بعد أن اطلعوا على النموذج السلفي الوهابي للإسلام في العقدين الأخيرين، من خلال الفلسطينيين العائدين من الخليج بعد حرب العراق عام 1991 وبعد ظهور الفضائيات السلفية.
ويزداد عظم دور تلك الفضائيات في تغيير التركيب المجتمعي المستقر أو المس بنسيجه المتوازن، عندما تَطرح مواضيع سياسية، أو تناقش عقائد المسيحيين، وبخاصة في مصر التي احتضنت معظم تلك الفضائيات على أرضها (ثم أغلقتها) بعد أن اتهمت أكثر من مرة بالتسبب في فتن طائفية بين المسلمين والأقباط وصلت إلى حد تفجير كنائس عدة في السنوات الماضية.. ولا يتوقف الأمر عند الفضائيات السلفية السنية بل ان هناك عشرات الفضائيات الأخرى الشيعية والمسيحية التي تمارس بدورها هذا القدر أو ذاك من الاستقطاب الطائفي، في تفتيت غير معلن للهوية القومية للعرب أو للجماعة الوطنية، وقد بلغ عدد القنوات الدينية جمعيها أكثر من 100 قناة في العام 2010 بحسب تقرير اتحاد إذاعات الدول العربية منها 47 شيعية والباقي سنية ومسيحية.
ومما يحسب لهذا البحث الإعلامي المستنير هو دخوله في مساحات معرفية جديدة في علاقة الإعلام بالمجتمع، فمثلا يطرح البحث سؤالا عما إذا أصبح الدين في هذا العصر يعتمد على نوع جديد من المؤسسات مركزها الأسرة والمجتمعات المحلية والمتخيلة في وسائل الإعلام أكثر من اعتماده على المؤسسات التقليدية مثل المسجد أو الكنيسة.
كما يؤكد البحث على حقائق مهمة منها: أن زيادة نسبة الأمية الأبجدية والثقافية في العالم العربي في السنوات العشر الأخيرة كان من أسبابها الرسالة التلفزيونية الفضائية التي تشجع المتلقي على المشاهدة لا على القراءة، وعلى التبلد العقلي لا على النشاط الذهني، لأنها تقدم له ما يسليه لا ما يثقفه، وما يخدره لا ما يطوره ويرقى به.
وأن ظهور القنوات الدينية الفضائية في العالم العربي كان (استجابة مفتعلة) من قبل السلطات السياسية للطلب الشعبي المتزايد على التدين، ولتستعملها في التحكم في منسوب التدين وبناء مجتمع متدين على المقاس، وإعادة صياغة التدين وفق منهج يصور الدين كقضية فردية تتسم بروح التسامح والانفتاح والتأقلم مع السياسات الرسمية.
وتورد الباحثة مثالا مهما هو موقف تلك القنوات السلفية من الثورة المصرية قبيل سقوط مبارك حيث كانت تدعو المتظاهرين لعدم الخروج على ولي الأمر.
فهذه الفضائيات الدينية قبلت بشكل مباشر أو غير مباشر بأن تكون في خدمة النظام السياسي القائم، والمصادقة على شرعيته مقابل الاستمرار في البث، كما ترى الباحثة أن هذه الفضائيات كانت رأس حربة بيد النظام المصري المصري في وجه الإسلام السياسي، بينما كانت أداة لأسلمة المجتمع بيد التيار السلفي ومن ورائه المذهب الوهابي، إذ ينظر الدعاة إلى وسائل الإعلام على أنها (أدوات) يجب استخدامها للدعوة.
فالسلفيون مثلا فيما يعرضون من مواضيع على فضائياتهم يمارسون طريقة (الحجب للمعلومة) وهو تكنيك إعلامي تسلطي معروف، وممارسة سلطوية قديمة قدم الإنسان، فهم ينتقون من سُنّة الإسلام وتشريعاته وفكره ما يتفق مع مذهبهم أما ما لا يتفق فلا يأتون على ذكره وكأنه غير موجود أصلا، ويكيّفون النصوص لتطابق مذهبهم حرفيا دون أخذ بعين الاعتبار للإطار الكلي والمقصدي للشريعة أو لتطور التجربة البشرية على الأرض بإذن الله وبأمره.
ويخلص البحث إلى عدد من التوصيات المهمة..
لعل أهمها أن إقبال النساء في فلسطين والوطن العربي على الفضائيات الدينية واستجابتهن لها، يمثل إخفاقا لوسائل الإعلام الأخرى التي لم تستطع جذب النساء المهمشات والشابات وملامسة مشاكلهن الاجتماعية والنفسية.
فوسائل الإعلام غير الدينية إما أن تخصص برامج المرأة لأمور شكلية سطحية كالمكياج والأزياء والديكور والطبخ، وإما أنها تهتم فقط بالنخب فقط من السياسيات والمثقفات، وتهمل بذلك الشريحة الأوسع من النساء ذوات التعليم المتوسط والمتدني والمهمشات اجتماعيا.