الشهيد الطفل محمد أبو خضير.. فكاهة البيت وحمامة المسجد
عبدالله عبيد
"صيام الإنسان في الجنة أفضل من صيامه في الدنيا"، تميزت هذه العبارة بانفراد على صفحة التواصل الاجتماعي " الفيس بوك " الخاصة بالشهيد الطفل المقدسي محمد حسين أبو خضير (16 عاماً)، لتكن آخر العبارات التي دونها الشهيد، مع قدوم شهر رمضان المبارك، قبل أن يحرق جسده النحيف حقد المستوطنين الذين اختطفوه من أمام بيته قبل ثلاثة أيام.
كان اليوم الثالث من رمضان، الذي استيقظ فيه "محمد" من نومه الساعة الرابعة فجراً ليتناول سحوره، وبعدها استأذن والديه للذهاب إلى مسجد (علي بن أبي طالب) الذي يبعد عشرين متراً عن منزله في مخيم شعفاط بمدينة القدس المحتلة، ليؤدي صلاة الفجر كما اعتاد، إلا أن الغدر الإسرائيلي حال في هذا اليوم دون أن يؤدي "محمد" صلاة الفجر في جماعة.
بعض كاميرات المراقبة الموجودة على أبواب المحال التجارية القريبة من منزله، رصدت اللحظات التي اختطف فيها الطفل محمد أبو خضير.
فمن أمام باب منزله استوقفته سيارة من نوع "هونداي"، ترجل منها مستوطنان اثنان، بداية الأمر دار بينهم حوار عادي، كان خلاله يؤشر محمد بيديه لأحد الأماكن، وكأنه يدلهما على مكان ما يسألونه عنه.
لم يطل وقوف الفتى النحيل معهم، وعنوة أدخلوه إلى سيارتهم وانطلقوا بسرعة جنونية، كانت تقود محمد إلى مصيره، ليصيح محمد مستغيثاً دون جدوى، وليكون هذا الفجر آخر فجراً في حياة الفتى الوسيم، بعدما عُثر على جثته في ساعات الصباح محروقة وعليها آثار تعذيب.
وكان الشهيد محمد أبو خضير قد قُتل على يد مستوطنين بعد أن خطفوه من منطقة المحطة في شعفاط، ولم يتمكن أحد من نجدته واللحاق به، وقاموا باقتياده إلى مكان لحرقه وتعذيبه وقتله بالرصاص الحيّ وإلقائه بأحد الأحراش القريبة من القدس.
"انخطف محمد"
"انخطف محمد" تلك العبارة التي تلقتها والدة الشهيد المغدور أم رائد أبو خضير كالسهم في صدرها، ليشتعل قلبها خوفا ورعبا على مصير طفلها، في حين كانت النيران تشتعل في جسده وهي لا تدري.
وتقول أم رائد متحدثة لمراسل "شمس نيوز": لما سمعت كلمة محمد انخطف، وقف قلبي، وأكلته الحرقة، وأجهشت بالبكاء، وصرخت في والده وفي الأولاد بالقول اليوم لازم ييجي عالبيت، مش راح أعرف أنام إلا وهو نايم بحضني، وأي نوم بدو يجينا ومحمد مش عنا في البيت".
وبصوت متنهد تكمل الأم الثكلى حديثها: بعدها بساعات جاءني خبر استشهاد محمد، صدمت ولم أعرف ماذا أفعل وماذا أقول، وكانت الصدمة الكبرى عندما سمعت أنه محترق، وأخذت أردد حسبي الله ونعم الوكيل على المجرمين المستوطنين"، مؤكدة أن الجريمة التي ارتكبها المستوطنون بحق طفلها من أبشع الجرائم.
الولد المطيع
برهة صمتت أثناء حديثها، لتبدأ الدموع مرة أخرى في التعبير عن أوجاع تلك الأم الصابرة وتتمالك نفسها من جديد، ثم تضيف: محمد كان الولد المطيع، كل أهل البلد يشهدون له بطب أخلاقه، كان يساعد كل من يطلب منه العون"، لافتة إلى أنه قبل رمضان بيومين شارك الشهيد "محمد" أبناء حارته بتزيين الحي بالفوانيس الرمضانية، لاستقبال شهر الصوم.
وتردف بالقول: عندي سبعة أبناء، محمد كان أقربهم إلى قلبي، لروحه المرحة وسعة صدره وبره بي وبوالده".
وتشير الأم أبو خضير إلى أن أصدقائه أبلغوا والده وإخوانه أن آخر العبارات التي كان قد دونها عبر صفحة الفيسبوك الخاصة به، هي "صيام الإنسان في الجنة أفضل من صيامه في الدنيا". وقالت والدموع تنهمر من عينيها: كان يشعر أنه سيستشهد".
ساعات فكاهية
ويترحم الوالد حسين أبو خضير على فلذة كبده، ويدعو له بالمغفرة، موكلاً أمره إلى الله، قبل أن يستذكر اللحظات الأخيرة التي أمضاها مع ابنه أمام شاشة التلفاز في الليلة التي سبقت استشهاده، قائلاً: كم كانت هذه الساعات فكاهية بحضرة محمد، الذي وإن غاب جسده فلن تغيب روحه عنا".
ويضيف الوالد: عدما ينتهى محمد من طعام السحور يسبقني إلى المسجد هو وأصحابه"، مستدركاً: لكن في هذا اليوم لم يصل المسجد، لأن المستوطنين قاموا باختطافه من أمام المنزل، ووضعوه في سيارة وهو كان يبكي ويصرخ بأعلى صوت".
وتابع بالقول: شاهدهم ثلاثة شباب من الذين كانوا ذاهبين إلى المسجد للصلاة، ولحقوا بالسيارة، إلا أنها كانت مسرعة، ودخلت عند مفترق مستوطنة "راموت".
وبحنان الأب الفياض يقول الوالد أبو خضير بلسان يثقله الحزن: محمد عندما نستحضر اسمه نتذكره فوراً، فهو روح الفكاهة في البيت، رغم صغر سنه، إلا أنه كان شهماً رجلاً، حتى إنني أردت أن أعلمه صنعتي (كهربائي)، من كثرة حبه للعمل بجانبي"، لافتاً إلى كثرة أعماله التطوعية التي كان يشارك فيها مع أهالي بلدة شعفاط.
ومنذ العثور على جثامين ثلاثة مستوطنين اختفت آثارهم قبل ثلاثة أسابيع، تزايدت بشكل ملحوظ حدة التحريض على العرب والدعوات للقتل والانتقام والثأر من خلال شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، شارك فيها جنود وكتاب وحاخامات إسرائيليون، رغم عدم إعلان أي جهة فلسطينية مسؤوليتها عن قتلهم.
وتشهد العديد من أحياء القدس منذ عدة أيام مواجهات عنيفة أدت إلى إصابة نحو 300 مواطن بالرصاص المطاطي وشظايا قنابل الغاز والصوت، وذلك ردًا على استشهاد الفتى محمد أبو خضير على يد مستوطنين متطرفين اختطفوه من أمام منزله.
الحروق سبب وفاته
من جهته، أكد النائب العام القاضي محمد عبد الغني العويوي أن السبب المباشر لوفاة الشهيد الفتى محمد أبو خضير هو الحروق النارية ومضاعفاتها، كما تبين من النتائج الأولية الطبية، خلال إجراءات الصفة التشريحية على جثمانه.
وأوضح العويوي -في بيان مفصل منشور على الموقع الالكتروني للنيابة العامة لدولة فلسطين- أنه من خلال التشريح تبين وجود مادة (شحبار) بمنطقة الرغامة (المجاري التنفسية) بالقصبات والقصيبات الهوائية في كلتا الرئتين، مما يدل على استنشاق هذه المادة أثناء الحرق وهو على قيد الحياة.
وأكد النائب العام تعرض منطقة الرأس لإصابة بجرح عرضي يقع في الجانب الايمن من فروة الرأس أدت إلى تكدم في العضلة الصدغية اليمنى، مشيراً إلى أن الحروق كانت مختلفة الدرجات من الدرجة الأولى حتى الرابعة بنسب متفاوتة بمساحة 90% من سطح الجسم.
وشيعت جماهير غفيرة جثمان الشهيد الفتى محمد حسين أبو خضير (16عامًا) بعد صلاة الجمعة أمس في بلدة شعفاط قضاء مدينة القدس المحتلة.