رام الله الإثبات الأكبر لنكستي
وفا - فايز عباس
في الخامس من حزيران عام 1967، يوم النكسة، لم أكن قد تجاوزت الثانية عشرة، سمعت عن نشوب الحرب، بين إسرائيل والجيوش العربية، مصر "أم الدنيا" بزعامة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وسوريا والأردن.
في ذلك الوقت لم نكن نملك مذياعا، لكن أحد المسنين في عائلتي كان لديه واحد، أدمن من خلاله، على الاستماع لنشرات الأخبار، خاصة إذاعة صوت العرب، وبرنامج "بصراحة" الذي قدمه الصحفي محمد حسنين هيكل، لكن كان صوت المذيع أحمد سعيد الذي اشتهر بمقولة "هنيئا لك يا سمك البحر" هو المحبب لدى الجميع.
كنت أتسلل إلى مضافة أحد أقربائي التي كانت تكتظ بالشباب والرجال والشيوخ في بلدتي كفر كنا، لأستمع إلى ما يحدث على الجبهات الثلاث، بصوت المذيع الذي كان لا يتوقف عن وصف المعارك والانتصارات التي حققتها الجيوش العربية.
أوامر الجيش الإسرائيلي قضت بعدم إشعال الأضواء ليلا، وبما أن بلدتنا كانت دون كهرباء، فإن السراج أو "اللوكس" كان الضوء الوحيد الذي أنار عتمة الليل، إضافة إلى ضوء القمر. كانت الليالي دامسة، وأصوات الطائرات تمزق هدوء الليل الطويل.
في أحد الأيام لم نستمع إلى نشرات الأخبار في ساعات الصباح الأولى، لكننا كنا على قناعة، وبفضل وصف أحمد سعيد للمعارك الدائرة، بأن الجيش السوري في طريقه إلى الناصرة، وإذا كان هذا صحيحا فإن القوات السورية ستمر من بلدتنا في طريقها إلى تحرير الناصرة.
في اليوم الثاني للحرب أعطاني أحدهم 25 قرشا بينما كنت في طريقي إلى المضافة لأستمع إلى نشرات الأخبار، فدخلت قبل أن أصل إلى بقالة صغيرة لأستغل الربع ليرة في شراء البسكويت والسكاكر قبل أن ينتهي التعامل فيها لاعتقادي أننا سنعود إلى استعمال الجنيه الفلسطيني، بعد الانتصار على اليهود.
أدركت بعد انتهاء الحرب كم كنت ساذجا في ذلك الوقت، لكنني آمنت بأن فلسطين ستعود إلى أصحابها وسيعود أقاربي من سوريا إلى بيوتهم التي هجروها عام النكبة.
استمرت المعارك على الجبهات الثلاث، وكنا نسمع أخبارا مشجعة والأغاني الوطنية وبالطبع "شبع سمك البحر من أحمد سعيد".
أحد أقربائي كان يعمل مقاولا في بلد الشيخ قرب حيفا واشترى مذياعا من ميناء حيفا، وكان يقضي نهاية الأسبوع في بيروت، وبعد النكبة رفض بشكل قاطع العودة إلى العمل عند اليهود، وبقي جالسا في البيت أو في المقهى على الشارع الرئيس، يجلس وحده على كرسي في زاوية المقهى، ويغادرها في ساعات الظهر ويعود إلى نفس الكرسي في ساعات بعد الظهر.
كنا نستمع في أحد الأيام إلى نشرة الأخبار من الإذاعة الإسرائيلية باللغة العربية، وكان المذيع بصوته الواثق يدعو جنود عبد الناصر إلى الاستسلام، وأن الجيش الإسرائيلي وصل إلى غزة وإلى الضفة الغربية وفي طريقة إلى سيناء ودمر المطارات المصرية.
صرخت بأعلى صوتي "هذا كذب هذا كذب"، "اخرسوا هذا المذيع الكذاب، هذه الإذاعة الصهيونية تريد تحطيم معنوياتنا". فطلب مني قريبي الجلوس إلى جانبه وقال بصوت هادئ "لا تتفوه بكلمة فللمخابرات آذان في كل مكان، يا بني هناك شيء غريب في هذه الحرب ولا ندري من يكذب أحمد سعيد، أم الإذاعة الإسرائيلية".
"هنا صوت دمشق" قال المذيع السوري بصوت عال، إليكم البيان التالي: تمكنت قواتنا الباسلة من صد هجوم لجيش العدو الإسرائيلي، وإن الجيش السوري في طريقه لتحرير طبريا، وتمكنت المضادات الجوية من إسقاط عدة طائرات للعدو.
في نفس اليوم كنا نتمشى أنا وأصدقائي في أزقة البلدة وفجأة سمعنا صوت طائرة، نظرنا إلى السماء وإذ بطائرة حربية من طراز "ميراج" وقد اشتعلت النيران فيها، ركضنا إلى مكان مرتفع وشاهدناها لحظة تحطمها في سهل البلدة، سقوط تلك الطائرة أمام عيني أقنعني أن الجيش السوري سيصل قريبا إلينا ويحررنا من إسرائيل.
انتظرنا طويلا على قارعة الطريق بانتظار الجيش السوري، لكنه لم يصل، وفي أحد الأيام شاهدنا مركبات عسكرية كثيرة تمر من بلدتنا باتجاه الشمال أي إلى الجبهة السورية، سارعنا إلى المذياع لنستمع إلى الأخبار فكان أحمد سعيد ما زال يلعلع ويطعم السمك في البحر، والمذيع السوري يتحدث عن انتصارات جيش سوريا الأبية.
وكان اليوم السادس، الجيش السوري لم يصل إلينا، والجيش المصري لم يصل إلى بئر السبع والجيش الأردني انسحب إلى الضفة الشرقية، وجاء خطاب عبد الناصر معلنا عن الهزيمة والنكسة واستقالته من السلطة.
الجولان سقطت وأنا أنتظر الجيش السوري على قارعة الطريق، وسيناء أصبحت تحت السيطرة الإسرائيلية والضفة الغربية احتلت وتم بث تسجيل للضابط الإسرائيلي موطي عور معلنا أن "هار هبيت" أي الأقصى ومحيطه أصبح بأيدي إسرائيل، في الوقت الذي واصلت فيه الإذاعة الإسرائيلية باللغة العربية بث أغاني الانتصارات، عندها فهمت أن توزيع السكاكر كان عبثا، رغم أنني كنت على قناعة تامة بأن الجيوش العربية ستؤدي دورها في تحريرنا.
بعد أيام قليلة من النكسة، كنت أتمشى على الشارع لكن هذه المرة لم أكن أنتظر الجيش السوري، وفجأة سمعت أغنية "وين ع رام الله ولفي يا مسافر وين ع رام الله "عندها أدركت أنني هزمت، ركاب السيارة كانوا في طريقهم لزيارة رام الله وهم فرحون ويتغنون لهذه المدينة التي طالما سمعوا عنها وحلموا بزيارتها، ومنذ ذلك الحين لم أعد أطيق الاستماع إلى هذه الأغنية حتى أنني ما زلت حتى اليوم اكره رام الله، لأنها كانت الإثبات الأكبر على نكستي.