الشقيقان "منير وبشير الحجار" جسدان بروح أزهقتها القذائف الإسرائيلية
عبد الهادي عوكل- الحيرةُ سيطرت عليَّ عندما استللتُ قلمي لكتابة بعض السطور عن شهيدين لاحقتهما القذائف الإسرائيلية وهم يستلقون سيارة تابعة لوكالة الغوث وتشغيل اللاجئين "الأونروا" وهما الأستاذ منير إبراهيم الحجار موظف في وكالة الغوث، وشقيقه الدكتور بشير إبراهيم الحجار المحاضر في كلية التمريض بالجامعة الإسلامية. حيرتي ملخصها من أين أبدأ في الكتابة عن هذين الشهيدين الذي شكل خبر استشهادهما فاجعة لمن عرفهما عن بعد، فما بالك بمن عايشهما عن قربٍ وشاركهما لحظات الفرح والحزن وكان على اتصال دائم معهما بشكل شبه يومي.
قبل ساعة من استشهادهما كان اتصالي مع الصديق العزيز الغالي "منير" وتطرقنا في الحديث عن أوضاع المواطنين النازحين الذين يشرف عليهم في مدارس الأونروا ويشرح لي كم هي معاناة أولئك المواطنين الذين نزحوا إلى مدارس الأونروا من القذائف الإسرائيلية علهم يجدوا الحماية فيها، ولم يعلم أن هذه القذائف ستلاحقه هو بسيارة الأونروا بعد قليل وهو في مهمة إنسانية بحتة ذهب لبيت شقيقه الذي تركه نظراً لتضرره من القصف المتواصل في منطقة بئر النعجة بمحافظة شمال قطاع غزة ليجلب بعض الملابس والمساعدات ليوزعها على النازحين الذين ضاقت بهم السبل، وانتهت المكالمة بتحديد موعدٍ بيني وبينه لجلب بعض المساعدات من قبل جمعية خيرية لإغاثة الفقراء.
ولم أبرح مكاني في البيت لأتلقى اتصالاً من صديق يسألني عن خبر عاجل على شاشات التلفزة يفيد باستشهاد د. بشير الحجار وشقيقه منير في سيارة تابعة للأونروا، حينها لم أتمالك نفسي ولم أتذكر ماذا تمتمت وأجريت اتصالاً بشقيقي الذي كان يحاول الاتصال بي ولم تسعفه شبكة الاتصالات من الوصول إليَّ ليخبرني بالفاجعة، وأنهما يتواجدان في ثلاجات مستشفى الشهيد كمال عدوان شمال قطاع غزة.
كانت القذائف الإسرائيلية العشوائية في تلك اللحظة مكثفة في محافظة الشمال فاستقللت سيارة وتوجهت مسرعاً للمشفى وأنا في طريقي انهالت عليَّ الاتصالات من الأصدقاء ليسألوني عن الخبر لأكذب لهم ما سمعوه بحكم عملي الصحفي، وما إن وصلت حتى وجدت شقيقيهما د.عدنان الحجار الحقوقي في مركز الميزان لحقوق الإنسان، والأستاذ "محمد"، غارقين في بكائهما ومنهارين من هول المشهد، فسقطت إلى جانبهما مع الأصدقاء المتواجدين في المستشفى.
"منير" اسم على مسمى فهو منارة في العطاء والكرم والأخلاق ونصير للفقراء والمحتاجين والابتسامة لا تفارق وجهه البشوش، أبكاناً جميعاً باستشهاده، وكان قبل ساعات من مغادرة الحياة الدنيا يلوم كثيراً من خلال كتاباته على حسابه الشخصي الفيسبوك على الأشقاء العرب الصامتين تجاه المجازر التي ترتكب بحق أبناء شعبه، وعلى المشايخ الذين ظهروا ليحرضوا في بعض البلدان العربية والتزموا الصمت على مدار 22 يوماً من القتل والدمار والخراب بحق غزة. وعليه فإنه لشرف لي أن أُسمي مولودي المقبل باسمه تيمناً بسيرته الحافلة بالعطاء والانتماء وحب الوطن.
واستذكر أنه قبل يوم من الفاجعة كنا نتحدث عبر الهاتف عن الوضع فأخبرني أن الوضع غير آمن في أرجاء القطاع، فطلبت منه أن يتخذ الحيطة والحذر في تحركاته، فردَّ عليَّ قائلاً: "وهل أنا بأفضل من الأطفال والنساء والشيوخ الذين انهمرت عليهم أطنان من المتفجرات وتمزقوا إلى أشلاء، مرحباً بالشهادة متى جاءت، فكان له ما أراد وأصابته القذائف الإسرائيلية الحاقدة وحالت لقائي معه الذي اتفقنا عليه قبل ساعة من استشهاده".
فيما شقيقه بشير الذي سخر حياته لتلقي العلم حتى حصل على ثلاث درجات دكتوراه في تخصصات مختلفة من بريطانيا وجنوب أفريقيا ومصر، لا تمل من الجلوس معه من مرحه ومرونته وسلاسة أسلوبه في التعامل، وحثه على التحصيل العلمي العالي، ومساعدة الناس. حتى انه خلال العدوان كان يشتري الماء المفلتر ويوزعه على المواطنين النازحين في مدارس الأونروا المجاورة لبيته في مخيم جباليا للاجئين ليرووا بها ظمأهم مع موعد الإفطار في شهر رمضان.
كان حزيناً على أوضاع النازحين ويحض شقيقه الأصغر "منير" على بذل كل ما بوسعه لتقديم المساعدات لهم، حتى انه قبل استشهاده بقليل كان يوزع بعض المال على بعض المحتاجين.
كان الشقيقان جسدان بروح واحدة، لا يفارقان بعضهما البعض في فسحهما وزياراتهما لشقيقاتهم وأصدقائهم، وعلاقتهما مميزة حتى ان من يلاحظ قوة هذه العلاقة يستغرب ويتمنى ان تكون علاقته مع أشقائه بنفس درجة علاقتهما أو نصفها.
وفي ظل انقطاع التيار الكهربائي الذي تسبب فيه القصف الكهربائي لشركة الكهرباء وارتفاع درجة الحرارة والرطوبة، رافق د. "بشير" شقيقه "منير" في سيارة الأونروا إلى منزل شقيقهم عدنان لجلب بعض الملابس لتوزيعها على النازحين، للترويح عن نفسه، وما ان جلبوا الملابس من المنزل وخرجوا من باب البيت حتى بدأت تنهال بجانبهم القذائف فانبطحوا ارضاً لدقائق، فيما كان شقيقهم الثالث "محمد" الذي يسكن بجوار المنزل ينظر عن بعد من نافذة المنزل على شقيقيه، وما ان توقف القصف المدفعي العشوائي لدقيقتين نهض الشقيقان ليستقلان السيارة ومعهما نجل "منير" الطفل "إبراهيم" وسارا بالسيارة لنحو 100 متر حتى بدأت تنهال القذائف حول السيارة ويشتد القصف المدفعي لينزل شقيقهم "محمد" من الطابق العلوي وينزل في مظلة البيت، بينما قرر "منير" الذي يقود السيارة التوقف والنزول والانبطاح على الأرض عله يتفادى القذائف، وفعلاً فتح منير باب السيارة وابعد نحو عشرين متراً حتى لاحقته قذيفة لتسقطه أرضاً فيما شقيقه بشير فتح باب السيارة لتستقبله قذيفة في رقبته لتنال من هامته ويسقط غارقا في دمائه، بينما الطفل ابراهيم الذي بقي في السيارة كان يصرخ وأصيب بشظايا. بعد سقوطهما توقف القصف وخرج الناس من بيوتهم وكان أول المتجهين للسيارة "عزيز" ابن شقيقهم "محمد" متجهاً نحو عمه "منير" ليجده يتنفس بصعوبة من الاصابة واخبره منير بان يذهب لعمه "بشير" ويهتم به، وما ان توجه عزيز لبشير حتى بدأ في الصراخ ليخرج والده من المنزل وبدأ يصرخ من هول المشهد مطالباً سيارة إسعاف. وما هي الا دقائق الا وكان الخبر عاجلاً باستشهاد الشقيقين منير وبشير الحجار.
رحل الشقيقان بعد ان أديا صلاة العصر في المنزل قبل خروجهما، وتركانا في حسرة على فراقهما، ولنستذكر قول رسول الله:" ان العين لتدمع وان القلب ليحزن وإنا لفراقكما لمحزونون".
اللهمَّ صبر أهلهما وصبرنا معهما على فراقهما وكن عوناً لنا في مدنا بالصبر.