غزة.. طوابير في كل مكان
غزة - سامي أبو سالم
أينما تولي وجهك في غزة ثمة طوابير تصطف فيها مختلف الأعمار من المواطنين جاهدين في اقتناص دورهم للاستمرار في الحياة.
طوابير أمام المخابز ومحطات مياه التحلية ومحطات الوقود وبائعي الفلافل ومحال الصرافة، وحتى ثلاجات الموتى في المستشفيات.
في حي النصر بمدينة غزة طابور لا يقل عن مائتي شخص، انقسم بين الرجال والنساء، بعضهم يغطي رأسه بقطعة ورقية ليحتمي من لهيب الشمس الحارقة بانتظار الدور لشراء ربطة خبز.
وقال وائل أبو العطا البالغ من العمر 38 عاما: 'أقف هنا منذ ثلاث ساعات، وربما أستلم الخبز بعد ساعتين، مهمة شاقة في هذا الحر'.
وأضاف أبو العطا، وهو أب لستة أطفال، أن ربطة خبز واحدة لا تكفي، فيضطر لاصطحاب اثنين من أبنائه الفتية كي يزيد كمية الخبز المسموح له بشرائها.
وقال صاحب المخبز عبد الناصر العجرمي، إن العمل تضاعف عن ذي قبل. 'الآن نعمل على مدار الساعة، لا إجازات ولا نتوقف أبدا'.
وأضاف العجرمي أن العمل زاد لسببين: بسبب انقطاع التيار الكهربائي وشح غاز الطبخ، فالناس لا يستطيعون صناعة الخبز في المنازل، وبسبب بيوت الإيواء التي يتم تزويدها من المخابز.
في طابور آخر أمام محطات تحلية وتصفية المياه، يحمل أطفال قناني فارغة وغالونات صغيرة فيما يحمل الرجال غالونات أكبر، فيما النساء يحملن أواني الطهي. ويحرص المصطفون على اصطحاب أطفالهم لزيادة كمية الماء أيضا.
'لا يوجد ماء، لا للشرب ولا للحمامات ولا للغسيل، كل همنا أن نشرب فقط ولم نعد نفكر في النظافة ومسح البلاط وجلي الأطباق.. المهم أن نشرب'، قالت أم يزن من شرفة منزلها.
في حي النصر تسير شاحنة تحمل خزان مياه للشرب متوجها إلى حي آخر، أشار أهل الحي للسائق بالتوقف فلم يلتفت لهم. أغلقوا الطريق أمامه بأجسادهم. نزل من الشاحنة ينهرهم ويهددهم إلا أنهم أحاطوا بالشاحنة وأفرغوا الخزان في أوعيتهم.
'لا أعلم من أين أتوا، بضعة أشخاص أوقفوا الشاحنة، وفجأة التف حولها المئات بالغالونات والطناجر ومختلف الأوعية وأفرغوا ما في الخزان.. فقد السائق حزام السروال والحذاء'. قال شاهد العيان محمد عبد الفتاح.
وقال خالد الكردي، وهو صاحب محطة تحلية في مخيم جباليا، إن محطته هي الوحيدة من بين خمس محطات تعمل شمال قطاع غزة. 'باقي المحطات توقفت. الأزمة تفاقمت بسب انقطاع التيار الكهربائي وشح الوقود.'
الطوابير غير المنظمة أيضا على أبواب ثلاجات الموتى في المستشفيات بانتظار استلام جثامين أبنائهم لدفنها.
يتجمع المكلومون وسط بكاء وصراخ وعويل لنسوة فقدن فلذات أكبادهن، ورجال يحاولون حبس دموع تنهمر من عيونهم على فراق أحبتهم.
وقال أحمد طروش، وهو متطوع في مستشفى كمال عدوان في بيت لاهيا: بعد كل غارة إسرائيلية تصل جثامين الشهداء من أطفال ونساء ورجال.
'يتجمهر أهالي الشهداء على بوابة الثلاجة، لا نستطيع زجرهم، الثلاجات لا تتسع، أحيانا نضع شهيدين في مكان واحد وأحيانا نضع الجثامين على الأرض، ونعمل على دفنها بسرعة لنترك متسعا لشهداء محتملين، ' قال طروش ابن الرابعة والسبعين عاما.
ونظرا للعدد الكبير من الشهداء يضطر الفلسطينيون إلى استخدام ثلاجات المرطبات والخضار والفواكه لحفظ جثامين أبنائهم إلى حين أن تتاح لهم فرصة لدفنها، فالقصف الإسرائيلي يكاد لا يتوقف.
ويعاني قطاع غزة (1.7 مليون نسمة) من أزمة مياه حادة بسبب تدمير أجزاء من شبكة المياه بفعل القصف الإسرائيلي المتواصل وبسبب انقطاع التيار الكهربائي الذي يعطل عمل مضخات المياه.
وتعطلت شبكة الكهرباء بسبب قصف الطائرات الحربية الإسرائيلية لمحطة الكهرباء الوحيدة، كما ألحق القصف أضرارا كبيرة في أجزاء من الشبكة.
مشكلة الكهرباء والماء اتحدتا لتشكلا معا 'طابور الثلج' الذي لا يقل طولا عن طابور الخبز. العشرات من المواطنين اصطفوا أمام محل لتصنيع وبيع الثلج في غزة. وقال أحدهم إنه بانتظار دوره لشراء الثلج لتبريد الماء قبل الشرب وتبريد بعض الأطعمة عبر لفها في كيس من الخيش مملوء بالثلج.
فريد أبو هدة (28 عاما) قال إنه لن يتزحزح ولن يبرح مكانه قبل الحصول على بعض الثلج لاستخدامه في حفظ بعض الأدوية خوفا من التلف، خاصة الأنسولين (لمرضى السكر).
وأشار صاحب مصنع الثلج سمارة البيارة، إلى اضطراره للعمل دون توقف بسبب الطلب غير المعقول على الثلج. وقال 'كنت أعمل يومين في الأسبوع، أما وقت الحرب فأعمل على مدار الساعة'.
وتواصل قوات الاحتلال منذ 28 يوما استهدافها للمدنيين، سيما البيوت المأهولة، بقصف جوي وبري ما يتسبب في إبادة عائلات بأكملها في مختلف أنحاء قطاع غزة المحاصر منذ سبعة أعوام.
وتمتد الطوابير في أماكن أخرى كمحال الصرافة التي تستقبل حوالات مالية يستلمها مواطنون من أقاربهم، أو مساعدات من مؤسسات إنسانية أو غير ذلك.
كما تنتشر الطوابير أمام أبواب المطاعم التي تقدم الوجبات السريعة، وبائعي المأكولات الشعبية من فلافل وفول وحمص.
وحتى المقابر تشهد طوابير من القبور الجاهزة والمفتوحة لمجموعة شهداء متوقعة في أي لحظة، في ظل إمعان قوات الاحتلال في إبادة عائلات وقتل بالجُملة.
وأبادت المقاتلات الإسرائيلية عائلة أبو نجم في غارة على منزلها في مخيم جباليا الليلة الماضية، لكن طفلة تبلغ من العمر يومين نجت من الموت.
وتجاوز عدد الشهداء 1830، فيما تجاوز عدد الجرحى 9300 جريح، في اليوم الثامن والعشرين للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وفق مصادر طبية فلسطينية.