بمَ تحدُّث غزة أخبارها؟!
ابراهيم ملحم - واخيرا، وضعت الحرب اوزارها، والقت احمالها باهوالها، وحمم جحيمها.
تنهض غزة بجراحها واوجاعها، واحزانها الثقيلة التي تفترش الوجوه الواجمة، والنفوس غير المطمئنة من كآبة المنظر وسوء المنقلب.
تنهض غزة من بين انقاض منازلها وجراح ابنائها، ودماء شهدائها، ووميض الدموع في عيون اطفالها ونحيب نسائها.
تنهض غزة ولم يبق في جسدها شبر، الا وبه ضربة بسيف او طعنة برمح او رمية بسهم.
تنهض غزة وقد تغيرت ملامحها، وسويت بالارض منازلها فوق سكانها، وعلا غبار المحرقة وجوه من كتبت لهم النجاة من اهوال جحيمها.
تنهض غزة الشهيدة الوحيدة لتتفقد ابناءها؛ فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا.
تنهض غزة، وقد هالها ما حل ببيوتها وشوارعها، واحيائها ومستشفياتها، ومدارسها، فلا تجد سقفا يؤوي مشرديها، ولا بلسما يداوي جراحها، ولا قطرة ماء تروي ظمأها.
تنهض غزة، لتلملم اشلاء اطفالها من الطرقات، وبقايا اشيائهم من كراريس وحقائب، وعبوات حليب ورضاعات واحذية وحصالات فيها تحويشات من عيديات قديمة.
تنهض غزة، لتبحث عن ابنائها في المشافي والمقابر واماكن الايواء، في المدارس والطرقات.
طيلة ثمانية وعشرين يوما، كانت العائلات الغزية تركض وسط اعمدة الدخان والنار، فيقع من ابنائها جريحا، تعجز ان تداويه وشهيدا لا تملك ان تواريه، وشريدا لا تعرف اي مكان يؤويه.
إن ما جرى لغزة الصابرة الصامدة النازفة كارثة مدوية، جرت فصولها على الهواء وامام العيون التي كانت ترقب بصمت مريب اوجاعها، بينما الوحوش الكاسرة تفتك بجسدها، في استحضار مفجع لتلك الصورة التي كانت فصولها تجري في ميدان "الكولوسيوم" في روما القديمة، عندما كان يصار الى تجويع اسد واطلاقه، امام عبد يتم تجويعه ايضا وتسليحه بخنجر، بينما تتعالى الصيحات فرحا على المدرجات امام مشهد فتك الوحش بالفريسة!
امام هول المحرقة التي سيق اليها الاهل والاحبة في غزة العزة، في اوسع ابادة جماعية في العصر الحديث، فلا بد من اجراءات قانونية سريعة تعاقب المجرم على ارتكاباته، وتحمي الضحية من تكرار الجريمة التي جعلت من كل المجازر والهجرات السابقة مجرد رحلة امام هول النار، التي كان وقودها الناس والحجارة على مدى ثمانية وعشرين يوما من الجحيم.
ولكي لا ننسى ولا نغفر، فلا بد من المباشرة بخطوات سريعة اليوم قبل الغد، تقوم خلالها لجان خاصة تتولى جمع حاجيات الاطفال واشيائهم من احذيتهم وعبوات حليبهم ورضاعاتهم، وبقايا حصالاتهم وكراريسهم وحقائبهم المدرسية، لتوضع في متحف "الكارثة والبطولة"، ليكون مزارا تقام فيه الصلوات بجميع اللغات، وتذرف عند ضحاياه الدموع، وتعرض في اروقته صور من الجحيم!