أطفال غزة .. شهود لثلاث حروب
نفوذ البكري - بالرغم من أن أعمارهم لا تتجاوز الثماني سنوات إلا أنهم شهود لثلاث حروب إسرائيلية وأصبحت ذاكرتهم محشوة بالأحداث الدموية والمجازر الاحتلالية وسياسة هدم البيوت ومأساة النزوح وترك كتبهم وملابسهم وألعابهم التى ابتلعتها القذائف والصواريخ وحولتها إلى ركام ودمار.
إنهم أطفال غزة الذين جاءوا إلى الحياة في بداية الانقلاب والانقسام وكان من المفترض أن تختزن ذاكرتهم بالألعاب وحدوتة الأجداد ومشاهد من المرح والفرح خلال الأعياد والعطلة الصيفية إلا أن كل هذا تبخر واندثر ولم يعد في الأذهان أي شيء منها بعد أن امتلأت ذاكرتهم بأبشع جرائم الاحتلال خلال الحروب الثلاث على غزة بدءاً من عام 2008 ظل الانقلاب أو الانقسام أو الحسم العسكري وما تلاه من حصار وباتوا لا يعرفون الألوان الزاهية للطبيعة المحيطة بهم سوى اللون الأحمر منها الذي يجسد الدماء النازفة والأشلاء المتطايرة.
الحاج عبد الباري أبو حصيرة الذي تجاوز عقده الثامن قال لـ "الحياة الجديدة" انه كان يتحدث دوماً لأحفاده عن أحداث النكبة وكان يخشى عليهم عندما يشاهدون مشهداً دموياً ما ولكن فجأة توقف عن كل هذا عندما أصبح أحفاده الجدد الذين لا يتجاوزون من العمر الثماني سنوات هم الذين يرون تفاصيل مجازر الاحتلال والبعض يقوم بالتقاط بعضها عبر عدسات الجوال أو كتابتها وتسجيل أسماء الشهداء ويشارك في تشييع الجنازات.
ومن المعروف وفي الوقت الطبيعي والمعتاد فإن الأطفال كانوا يقضون عطلتهم الصيفية وزياراتهم العائلية في ممارسة الألعاب الشعبية ومطاردة الفراشات والعصافير في البيارات والبساتين ولكن إسرائيل أصبحت تطاردهم وهم في أحضان ذويهم وغرف نومهم أو مداخل بيوتهم وحاراتهم وأصبح الأطفال يمارسون الجري والركض والهروب من منازلهم بعد أن طاردت الطائرات وحولت أجساد بعضهم الناعمة والبريئة إلى أشلاء تحت الركام.
ومن خلال المتابعة تبين أن أطفال غزة باتوا يحفظون عدد الغارات والصواريخ أكثر من جدول الضرب وأعياد ميلادهم وعدد ألعابهم والمصروف اليومي الذي كان يتم جمعه في "الحصالة" لأنهم أصبحوا يجمعون ما تبقي من بقايا الصواريخ والقذائف والبحث تحت أنقاض البيت عما تبقى من أجزاء من ملابسهم وألعابهم والتي تم دفنها مع ذكرياتهم في داخل بيت العائلة.
وقال المواطن محمد نصر ان ابنه رامي لم يتجاوز من العمر السبع سنوات ولديه أشقاء لم يتجاوزوا من العمر العشر سنوات وفي بعض الأحيان يكاد يفقد أعصابه وهو يحاول تهدئة أطفال الذين أصبحوا في حالة نفسية صعبة لا سيما أن لديهم معرفة واضحة بالقذائف والصواريخ والزنانة موضحاً لـ "الحياة الجديدة" أنه في فترة التهدئة طلب من ابنه أن يحضر زجاجة مياه من الثلاجة فرفض الطفل بعد أن عبر عن خوفه وأبلغه بوجود تهدئة فرد الطفل "يوجد طائرة زنانة" مؤكداً أن جميع أطفاله عاشوا ثلاث حروب رغم صغر سنهم وهذا يزيد من معاناتهم مع استمرار المجازر والمشاهد الدموية.
وأكدت المواطنة نبيل سعود أن طفليها نبيل وتالا ويتابعان الأخبار بصورة مخيفة ويركضان فور سماع دوي الانفجارات، مشيرة إلى أنه في حرب عام 2008 كانا لا يعرفان مدي الخطر والاستهداف لأنهما كانا في سنواتهما الأولى والآن أصبح لديهما تمييز ووعي للقتل والاستهداف الإسرائيلي خاصة للأطفال والنساء في داخل بيوتهم.
ويؤكد المواطن تيسير عبد الرحيم أنه يشعر بالخجل عندما يري طفله هاني ذا السبع سنوات وهو يرسم الدبابات المتراكمة والطائرات والبيوت والمساجد المدمرة ويكتب عبارات وشعارات تدلل على مدى تأثره بالحرب أمام عجزه عن التخفيف من معاناته ومخاوفه.
وأكد الطفل أمير عطا الله والذي يبلغ من العمر ثماني سنوات أنه عاش ثلاث حروب وهو في هذه السن الصغيرة فماذا سيحصل من حروب قادمة مع تقدم العمر أن بقي على قيد الحياة مشيراً الى أنه بات لا بعرف الأيام والتواريخ لأن كل الأيام أصبحت متشابهة في ظل الحرب ولا فرق بين الليل والنهار لأن القصف يتواصل وأعداد الشهداء والجرحى والبيوت المدمرة تتزايد والأطفال لا يعرفون هل سيذهبون للمدارس أم المقابر.
وعن تأثير الحرب والعدوان من الناحية النفسية على الأطفال قال الأخصائي النفسي حسن زيادة من برنامج غزة للصحة النفسية: ان كل الأطفال الذين ولدوا قبل ثماني سنوات أو أكثر بقليل لديهم ذاكرة ووعي لأنه وفق علم النفس فإن الذاكرة تتم من عامين أو ثلاثة أعوام ولهذا فإن كل من تجاوز الثماني سنوات له ذكريات متعددة للخبرات الصادمة والمتكررة وأصبحت جزءاً من خبراتهم وفي حال العدوان الجديد فإنه تتم إثارة الذاكرة والذكريات المؤلمة والتهديد والخوف وعدم الشعور بالأمن وفقدان الأهل والتي تجتاح ذكرياتهم لأن أفكارهم وتخيلاتهم مليئة بذلك ولهذا فإنه من المتوقع أن يكون لها تأثيرات وتداعيات مباشرة على المدى الطويل.
وقال زيادة لـ "الحياة الجديدة" ان أطفال غزة الذين عاشوا الحروب المتلاحقة فقدوا عوامل الحماية والمساندة والدعم الاجتماعي بعد استهداف العائلة وأيضاً المؤسسات المجتمعية التي من الممكن أن تكون قادرة على تقديم الخدمات والارشادات وبالتالي فإن إسرائيل التى كانت تقول في فترة النكبة أن الكبار يموتون والصغار ينسون فإن هؤلاء الصغار أصبحوا الآن يعيشون الخبرات ولا يكتفون بسرد الأجداد من خلال المعرفة والتنشئة بل يعيشون العدوان والحرب بكل تفاصيلها وتأثيراتها وهذا يحتاج للمزيد من الجهد والعمل تجاه أطفال غزة الذين تعرضوا للحروب على مدار عدة سنوات متتالية.