روايات ناجين من مجزرة رفح
نادر القصير - ما أن بدأت خيوط الشمس تنشر ضوءها على رفح في صباح يوم جديد أعلنت فيه هدنة لمدة 72 ساعة توافقت عليها كافة الأطراف، وبدأت جموع المواطنين تعود لمناطق سكناها التي هجرتها على وقع القصف وملاحقة القذائف بهدف النيل من أرواحهم، وتحويل أجسادهم إلى أشلاء، تكشفت معالم الجريمة التي هي أكثر من كارثة وأقل من القيامة، حاولت قوات الاحتلال من خلالها تجسيد سيناريو فيلم نهاية العالم 2012 الشهير، مع تعديل بسيط باستبدالها للكتل النارية المنبعثة من الحمم البركانية بالقذائف الصاروخية من الجو والقذائف المدفعية من الأرض نالت من كل شيء البشر والحجر والشجر.
المشهد كما وصفه العديد من النازحين من شرق رفح، قذائف تتساقط في كل مكان بمعدل كل ثانية، عشرات الآلاف تركض بالشوارع يحاولون النجاة بأرواحهم وإنقاذ أطفالهم ونسائهم وعائلاتهم من محرقة تهدف للنيل منهم.
أبو فادي من حي التنور في مغامرة غير محسوبة بعد أن أصبح الموت محققا يحدوه الأمل بقدرة الله على حفظه وحمايته من المجزرة، يقول : « أدركت أن الوضع في غاية الخطورة وثانية واحدة تشكل علامة فارقة بين الموت والحياة للعائلة بأكملها، والركض في الشارع قد يفقد السيطرة على تجمع العائلة ويوحي بإمكانية التشتت عن بعضهم البعض، فقررت استقلال السيارة وعزمت على الرحيل بأقصى سرعة ممكنة، وبالفعل هذا ما كان, « ابو فادي وصف لـ« الحياة الجديدة» رحلته التي استغرقت ثلاث دقائق رأى فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت من قبل فالجريمة يفوق الخيال، ولم يكن لها مثيل حتى بأفلام الخيال العلمي وأشبه بنهاية العالم، مشيرا إلى أن انه وخلال سيره بالسيارة كان يرى تجمعات تركض بكل ما أوتيت من قوة ولكن العديد من هذه التجمعات طالتها القذائف، جثث ملقاة على الأرض بيوت تتفجر وتنثر حجارتها في كل مكان، شظايا تنال من أجساد الأطفال والنساء تلاحقهم في كل مكان شارع البلبيسي في حي التنور شاهد حي على الجريمة، عائلات بأكملها استشهدت وتحولت الى أشلاء متناثرة في كل مكان، جريمة بكل معنى الكلمة لا توصفها الكلمات بذلك أنهى حديثه وقد فاضت عيناه بالدموع.
هول المأساة لا يزال في عيون أهالي رفح، أكثر من سبعين ألفا كانوا يركضون في الشوارع بحثا عن الأمان، ولكن القذائف كانت تلاحقهم في كل مكان هذا ما أكده خالد عبد القادر، مستطردا بالفعل كلما كنا نبتعد عن مكان القصف كانت القذائف تزيد من رقعة استهدافها للمدنيين العزل الهاربين تحت وقع القصف ن ومن لم تطاله القذائف طالته صواريخ الطائرات، ويؤكد أن تجمع كامل كان يحتمي بعمارة سكنية في بالقرب من حي الجنينة تطل على الناحية الغربية بعكس إطلاق القذائف طالتهم الصواريخ وحولتهم إلى أشلاء في غمضة عين.
عائلات فقدت أبناءها، وواصلوا الركض وهم يعتصرون ألما، رجال حملوا أبناءهم ولم يتمكنوا من إنقاذ أمهاتهم وآبائهم الشيوخ فتركوهم، لا يعرفون مصيرهم، أيام مضت لا يعرفون شيئا عنهم، وعندما عادوا منهم من وجدهم شهداء ومنهم من لم يجد لهم أثرا.
أما عمر المهموم (05 عاما) من سكان حي الجنينة شرقي مدينة رفح، استغل إعلان التهدئة المؤقتة لتفقد منزله الذي تركه قبل أيام تحت وطأة القصف الإسرائيلي المكثف على المحافظة، وما أن وصل منطقة سكنه حتى اشتم رائحة جثث تفوح من كل مكان، وتحديدا بالمكان الذي هرب منه وعائلته، عندما قصفت الطائرات منازل سكنية فوق رؤوس ساكنيها، وتقدم ببطء نحو منزل مدمر لتشتد رائحة الجثث المُتحللة أكثر فأكثر، ليبلغ فرق الإسعاف والدفاع المدني التي هرعت على الفور للمكان، وعثرت على امرأة مُتحللة وثلاثة أطفال تحت الركام.
ولم يتم التعرف على الشهيدة والأطفال كما يؤكد عمر إلا من خلال بطاقة تأمين صحية وجدت في حقيبة كانت تحملها وعُثر عليها بجوارها..!، وبعد اكتمال انتشال المذكورين، توجه ليتفقد باقي الحي، الذي تفوح منه رائحة الجثث المتحللة.
وفي ورشة لبناشر السيارات على شارع صلاح الدين عثرت عائلة أخرى على ابنتها التي تبلغ 19 عاما اختفت آثارها يوم الجريمة بينما كانت تركض مع عائلتها هربا من القصف، في مشهد تقشعر له الأبدان اختلطت الحزن بابتسامة مبكية، لا يعرف والدها ماذا يقول كان المهم له على ما يبدو أن يرى ابنته حتى وان كانت شهيدة، فعلى الوجه الآخر فقد خالها ياسر عبد الوهاب زوجته وثلاثة من أطفاله في قصف استهدف منزل عائلة الشاعر بمخيم بشيت الذي لجأت فيه زوجته وأطفاله.
حتى الآن لا يزال البحث مستمرا تحت الأنقاض، وستبقى الجريمة حية في عيون من شاهدوها وعايشوها، لن تمسحها الأيام ولن تمحوها السنين، لسبب بسيط جدا أن أغلب هذه العائلات فقدت شهيدا سواء من أبنائها أو جيرانها أو أقربائها أو أصدقائهم أو رفاقهم في رحلة التشرد.
الصحفيون عجزوا عن وصف هول الكارثة، وسرد تفاصيل مجزرة رفح التي تجمع أشلاء ضحاياها، ربما هناك حاجة لقاموس لغوي جديد يستطيع التعاطي مع الفكر الإجرامي الاسرائيلي المعاصر.