في غزة ... الخوف من الهاتف
عماد عبد الرحمن - خمس دقائق مدة زمنية لا تكاد تحسب في حياة إنسان، ولكن في قطاع غزة من الممكن أن تكون هذه الفترة الزمنية القصيرة جدا هي المدة الفاصلة بين الحياة والموت، في قطاع غزة أصبح للوقت قيمة كبيرة جدا تضاهي الروح، تستطيع أن تدرك هذه القيمة بمجرد أن تتلقي مكالمة تليفونية مشؤومة على هاتفك أو جوالك من رقم غير معروف تسمع فيها من الطرف الآخر صوت يخبرك بأنه من جيش الاحتلال الإسرائيلي، ويمهلك خمس دقائق لتخلي بيتك وإلا سيقصف ويدك فوق رأسك.
خمس دقائق يشعر بها متلقي تلك المكالمة المشؤومة كأنها خمس أجزاء من الثانية الواحدة، وعليه أن يقوم بأشياء قد تستغرق منه خمسة أيام... خمس دقائق قد تستطيع فيها أن تكسب روحك وروح عائلتك فقط، ولكنك تخسر أمامها حصاد عمرك كله.
يروي بهجت حمد من سكان حي الزيتون بمدينة غزة قصة معاناته مع تلك المكالمة المشؤومة، يقول حمد " في بداية الحرب على قطاع غزة اشتد القصف المدفعي على حي الزيتون مما اضطرني لاصطحاب أطفالي الأربعة وزوجتي والذهاب الى مدينة النصيرات حيث يقطن عمي أبو نضال حمد، على أمل أن تحط الحرب أوزارها وأعود بعد فترة قصيرة لمنزلي"، مضيفا أنه لم يكن يعلم ما ينتظره هناك، حيث أسكنني عمي الطابق الثاني في عمارته المكونة من أربعة طوابق، وفي أحد الأيام وفجأة بدون سابق إنذار سمعنا دوي انفجار في الطابق الرابع والثالث من صاروخين من طائرة استطلاع يطلق عليهما "صواريخ تحذيرية"، مما أصابنا بحالة من الذعر والرعب نتج عنها فقدان بناتي وعيهن تماما مما دعاني للظن أنهن ماتوا جميعا، وبعد لحظات من قصف الصاروخين تلقى عمي اتصالاً هاتفياً يخبره فيه ضابط مخابرات إسرائيلي بضرورة إخلاء المنزل في غضون ثلاث دقائق، وإلا سيقصف المنزل على رؤوس أصحابه، يقول حمد "حاول عمي تمديد الفترة الزمنية بحجة حالة الذعر والرعب التي انتابت الجميع وكثرة قاطني العمارة السكنية، لكن محاولته لم تفلح في تمديد المدة الزمنية الأمر الذي دعانا إلى الإسراع في الهروب قدر المستطاع مصطحبين أطفالنا.
يصف حمد رحلة هروبه وعائلته من العمارة وحالة الرعب والذعر والصراخ التي انتابتهم منذ تلقيهم المكالمة الهاتفية حتى اطمئنانه على نفسه وعائلته بقوله انه شعر أن وقت المهلة الزمنية انتهى بمجرد انتهاء المكالمة ومن جانب أخر أحس أن المسافة التي يجب أن يقطعها للخروج من العمارة طويلة جدا جدا بطول عمره وهي في الأصل لا تستغرق سوى دقيقة واحدة.
وأضاف حمد بمجرد خروجنا من العمارة على الجانب الآخر من الشارع تم قصف المنزل بصاروخ من طائرة إف 16 أتت على العمارة بالكامل دمرت معها كل من نملكه في الحياة.
يقول بهجت حمد لم تنته معاناتي عند هذا الحد بل امتدت لأبعد من ذلك وكأن الموت يطاردني في قطاع غزة، فبمجرد نجاتنا من قصف عمارة عمي بالنصيرات أدركت أننا أصبحنا جميعا في الشارع مشردين، فما كان مني إلا أن قررت أن أعود لمنزلي بحي الزيتون مصطحبا معي أسرتي وعائلتي حيث تجاوز عددنا 50 فردا، وفي حي الزيتون تكررت المأساة ثانية حيث استيقظت بعد صلاة العصر في أحد أيام الحرب على صوت صاروخ بجوار منزلي، وأمسكت بجوالي للاتصال بأي أحد يخبرني طبيعة ما يجري حولي إذ فوجئت باتصال هاتفي من مصدر غير معروف يقول لي لابد أن أترك بيتي لأنه سيتم قصف منزل عائلة صيام الملاصق لمنزلي تماما وأمامي خمس دقائق فقط لا غير.
يضيف حمد أحسست حينها أن الدنيا ضاقت بي فهناك 50 فرداً من عائلتي أطفالاً وكباراً في السن في المنزل وإخلاؤهم يلزمه الكثير من الوقت ناهيك عن عدم قدرتي على اصطحاب أي شيء معي من المنزل لضيق الوقت، وأين سأذهب بهم... العديد من الأسئلة دارت برأسي في لحظة، ولكن قسوة التجربة الأولى في منزل عمي دفعتني للهروب وأخذ الأمر بجدية اكبر وما كان مني إلا أن أخليت المنزل منتظرا رحمة الله أن يلطف بنا وألا يتضرر منزلي كثيرا، وبالفعل بعد دقائق بسيطة تم قصف منزل جاري بطائرة أف 16 أتت عليه بالكامل.
المفاجأة كانت أن المنزل الذي قصف كان لعائلة الدحدوح المجاور لمنزل جاري وهذا يعني أن الخطر ما زال قائماً بقصف منزل جاري وأنه يجب ألا نذهب للبيت، مما جعلنا مشردين في الشارع من جديد، وأشار حمد الى حالة الرعب والخوف والحزن والتشرد التي أصابتهم وأصبح همهم الأكبر انتظار هدنة حتى يستطيعوا الذهاب للمنزل لالتقاط بعض الاحتياجات والاطمئنان على المنزل على وجه السرعة والخروج بسرعة خوفا من القصف لحين تثبيت وقف إطلاق النار حتى يتمكنوا من العودة للمنزل.
وبالرغم من كل هذه المعاناة التي يلاقيها حمد وعائلته إلا أنه يعتبر نفسه محظوظاً انه على قيد الحياة هو وعائلته ولم يصبهم أذى، مؤكدا أنه أفضل حالاً من غيره من العائلات التي لم تستطع الخروج من منازلها وكان مصيرهم الاستشهاد تحت الأنقاض.