غزة .. ذكريات من أيام الهدنة
عماد عبد الرحمن - أيام الهدنة يصاحبها عادة انخفاض حاد لأصوات القصف وأجهزة التلفزة والمذياع وسيارات الاسعاف والدفاع المدني، مع احتفاظ طائرة الاستطلاع الاسرائيلية «الزنانة» بحقها في قض مضاجع الغزييين طوال النهار والليل, وأيام الهدنة تعيد لليوم ساعاته المفقودة فلم يعد يقتصر اليوم على بضعة ساعات في النهار فقط بل يكمل دورته الطبيعية لـ 24 ساعة من جديد.
في نهار أيام الهدنة تعلو أصوات أبواق السيارات في شوارع غزة، وتستطيع بسهولة ملاحظة آثار شظايا القصف على أسقفها أو زجاجها المكسور، وينتشر في الشوارع مواطنون اكتفوا بما اكتست به الأرض من حطام، وما اتشحت به المدينة من سواد، يصاحبها ازدحام للشوارع بمارة مشرئبة أعناقهم، وعيونهم معلقة بالسماء تتفقد آثار القصف هنا وهناك، تستطيع من رصد تحركاتهم معرفة وجهتهم، اما لمشفى لزيارة مصاب أو لتفقد دمار أحد المصانع ومؤازرة صاحبه، أو لتقديم واجب العزاء لأحد العائلات المنكوبة، حديثهم مقتضب عن ذكرياتهم أيام الحرب، وتكاد تخلو مدارس وكالة الغوث «مراكز الايواء» ممن احتموا بها، بسبب عودة أغلب النازحين لتفقد ما تبقى من منازلهم, أو نصب خيمة فوق ركام منازلهم المدمرة في انتظار من يمد لهم يد العون والمساعدة.
في نهار أيام الهدنة يبدأ احساس مفرط بالحياة يسري في المدينة الحزينة، المحال التجارية تفتح أبوابها، تخرج محلات الملابس والأحذية ما في بطونها من بضائع مخزنة كانت تنتظر عيد لم يأت فبيعت بأسعار التكلفة في محاولة لتقليل خسارة أصحابها، محلات تجارية أخرى لم يفلح أصحابها ببيع بضائعهم فاكتفوا بنفض الغبار المكدس عنها بفعل فترات الاغلاق الطويلة.
في نهار أيام الهدنة تعلو ضحكات الأطفال من جديد، تكثر حركاتهم البهلوانية، تعود الطفولة الى شوارع المدينة، يتجرأ الأطفال على الذهاب لمحال البقالة لشراء قطع السكاكر بمفردهم، تتشبث أياديهم بأكياس الحلوى، تنفتح شهيتهم بل الأكثر من هذا يستطيعون الذهاب لدورات المياه دون مرافق.
وفي ليل أيام الهدنة تنغمس المدينة في ظلام دامس لانقطاع التيار عن معظم أجزائها، ومع الارتفاع الشديد لدرجات الحرارة تفرغ البيوت من ساكنيها، وتكتظ محلات المرطبات بالزبائن الذين يطول انتظارهم أمامها للحصول على « كأس براد أو بوظة» لكسر حدة الحرارة، وفي الغالب تفسد متعة تناولها بسبب الازدحام الشديد في الشوارع وعلى الشواطئ والحدائق العامة وحركة السيارات التي تضيء شوارع المدينة بدلا من أعمدة الكهرباء. ترى بوضوح أضواء العشرات من قوارب الصيد مصطفة كقناديل طافية على سطح الماء، قريبة نوعا ما من شاطئ البحر لتدرك معها أن مفاوضات القاهرة لم تنجح بعد في اعطائها حرية أكثر في الابتعاد أكثر للعمق.
ومع قرب انتهاء مدة الهدنة تبدأ حركة المدينة في الهدوء، يلتف المواطنون من جديد حول المذياع أو التلفاز «ان وجدت كهرباء» يستمعون لمحلل الأخبار المألوف، عسى أن يجدد أملهم في هدنة جديدة قصيرة أو طويلة، تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، تخترق الهدنة، تسكت السيارات أبواقها، تنسحب مسرعة من شوارع غزة، تعود شوارع المدينة لوحدتها، تختفي قناديل الماء وكأن البحر انشق وابتلعها، تنتقل الحركة من الأرض الى السماء، تنضم الطائرات الحربية لرفيقتها «الزنانة»، يبدأ القصف، يخيم الصمت على المدينة كأنه الموت.