اللاجئ أبو طربوش.. حكايات عن 'أم الزينات' لم تسقطها الذاكرة
أعاد السبعيني أحمد محمد حسن أبو طربوش رسم قريته أم الزينات، بتفاصيلها الدقيقة، وسهولها، ومبانيها، وأسواقها، وحقولها، وجبالها، وعائلاتها، ولحظات تشريد أهلها خلال النكبة.
واسترد أبو طربوش، خلال الحلقة التاسعة والعشرين من سلسلة (ذاكرة لا تصدأ) لوزارة الإعلام في طوباس واللجنة الشعبية للخدمات، التفاصيل الدقيقة لقريته الواقعة 20 كيلومترا جنوب شرق حيفا، واستعرض كرومها وزيتونها ولوزها وخروبها.
يقول: أتذكر خلة الزرد، والرجم، والانجاصة، وجرن البارود، وكرم ظاهر، والحساسنة، وخلة الجاج، وبير الناطف، وأراضي الروحة، وغدران العليق، ووادي أبو نمر، والشقاق، والصفصافة، وبير الهرامس ووادي الملح. واشتهرت قريتنا بأرضها وينابيعها، وكنا نزرع كل شيء صيفا وشتاء، ونربي الأغنام.
ويروي: كانت تحيط بنا قرى إجزم، والكفرين، ودالية الكرمل، وعسفيا، وأقرب قرية علينا هي الريحانية، وكنا نذهب للكسوة (شراء الملابس) إلى حيفا، ولا أنسى بحرها الذي كنا نزوره بالمناسبات، وكنا نتجول في ساحة الحنطور، ووادي الجمال، ووادي الصليب، والخليصة، ووادي النسناس، والهادار، وحواسة.
درس أبو طربوش، الذي أبصر النور عام 1936 في قريته حتى الخامس، ولم يكن في مدرسته إلا الصف السابع، ومن رغب بإكمال تعليمه كان ينتقل إلى حيفا، ويسكن فيها. ولضيق المكان، كانت إدارة المدرسة تجمع كل صفين معا، ولم يكن فيها غير أربع غرف وأربعة معلمين، يتذكر منهم المدير أبو حسن الكرمي، وأبو بكر من برقة قرب نابلس.
يسرد: كان في القرية مختاران وثلاثة دواوين للسمر ليلا، وعدد سكانها نحو 1500 نسمة، وعائلاتها التي أتذكرها: الفحمانة، (فحماوي)، والشخاسفة (الشيخ يوسف)، ومنصور، والحرادنة، والبشايرة (بشير)، وصبح، والشواشرة، ودبور.
مما لا يسقط من ذاكرة أبو طربوش، لحظات إشعال حُزم الحطب لإحياء أعراس الشبان على البيادر (الأمكنة المخصصة لجني محاصيل الحنطة والذرة البيضاء بالأساس)، وتجهيز مشاعل من القماش وترطبيها بالكاز وإشعالها حين تذهب النسوة لإحضار العروس. وأجواء شهر رمضان وما فيها من طقوس للسحور والفطور وزيارات وسمر وأطباق خاصة. ومشاهد وداع الحجيج واستقبالهم. ومناسبات العيد، حين يذهب الأطفال إلى (المراجيح) المصنوعة من الحبال والمربوطة في الأشجار الكبيرة بأطراف القرية. والشيل (تحميل الحنطة وغيرها) على ظهور الجمال.
يفيد: كانت القلوب قريبة من بعضها، وكنا نتزاور، ويتساعد الناس في الحصاد، والبيادر، وبناء البيوت، والأعراس. وكانوا يرفضون أن يتعاملوا بالبيع والشراء مما تنتجه الأرض، فمن يملك مزرعة يدعو غيره لقطف الخضروات، دون مقابل. وكنا لا نعرف الغلاء، فرأس الغنم بثلاثة جنيهات، والبقرة بخمسة.
يزيد: في إحدى ليالي أيار، كنا ننام في بيتنا، وفي آخر الليل، وفي الصباح الباكر كانت الدنيا خطيطة (ضباب) سمعنا صوت إطلاق النار فهربنا إلى أحراش الكرمل، ثم انتقلنا إلى إجزم، وأمضينا نحو أربعة أشهر فيها، التي ظلت تقاوم اليهود بشراسة، وفي أحد أيام رمضان، ونحن نستعد لتناول الفطور، شاهدنا الطائرات تضرب القرية، وقصفتها البواخر من البحر، وسقطت إحدى القذائف على بعد مسافة قصيرة منا، وأحدثت حفرة عميقة في الأرض، وانتشر خبر إصابة مجموعة من نساء عائلة صبح.
ووفق أبو طربوش، فإن مشاهد الاقتلاع من أم الزينات كانت عصيبة، فقد سمعوا بقصة قتل زعيم القرية عبد الغني بشير، وتصفية محمد سليم حردان وهو نائم، كما شاهد بأم عينه بقايا أمتعة عائلة دبور، التي كانت تفر من القرية وقد أخذت معها جملا كان محملا بالأغراض، لكن العصابات الصهيونية قتلتها كلها عند بئر المياه، ومنهم عادل الذي كان عريسًا جديدًا، كما نحروا الجمل.
وتابع: هربنا بعدها إلى دالية الكرمل وعسفيا، ولم نُستقبل فيها، وقال لنا بعض أهلها (بدهم اليهود يذبحوكم) لنذهب منها إلى أراضي الروحة، ثم إلى عارة وعرعرة، وفي الطريق فقدنا أخي ذيب، ووجدنه بعدها. وشاهدنا الشاحنات تحمل الناس من المدارس وتذهب بهم إلى العراق، وصعدنا عليها أنا وأخوتي ووالدي، لكن عمي حسين صار يبكي علينا فرجعنا. وانتقلنا إلى أم الفحم ثم عانين (محافظة جنين)، فتعنك، ومخيم الفارعة.
بدورة، أشار منسق وزارة الإعلام في طوباس عبد الباسط خلف، إلى أن 'ذاكرة لا تصدأ' استطاع منذ انطلاقته جمع عشرات القصص الشفوية من رجال ونساء عاشوا مرارة الاقتلاع، تحدثوا فيها بتفاصيل دقيقة عن قراهم، وعاداتهم، وتقاليدهم، ومهنهم، وأفراحهم، وأحزانهم، وزيتونهم، ومدارسهم، وكل أنشطتهم وذكرياتهم.
وأضاف أن السلسلة ستربط في الحلقات المقبلة بين الأجيال الشاهدة على النكبة والأحفاد، الذين لا يلمون بتاريخ مدن أجدادهم وقراهم، للحفاظ على الذاكرة وتوثيق مفاصلها، خاصة أن عددا من الرواة الذين وصلت لهم، قد وافتهم المنية.