بوابة رقم 935
تقرير ريم أبو لبن
نصّ يامن نوباني
رفع يديه الفارغتين الخشنتين، وقال: هذه شهادتي، دكتور فلفل، ملفوف، زيتون، في مؤتمر لمقاومة الجدار والاستيطان في رام الله، حين كان على المنصة وعن يساره ويمينه ألقاب، دكتور وبروفيسور.
شريف خالد 'أبو عزام' مواليد بلدة جيوس في حزيران 1943 يروي لـ'وفا' تفاصيل حياة 72 عاما منذ بدايتها: 'ولدت فوق الحلس'، في موسم الحصاد، وزوجتي ولدت فوق الرصيف، في نكبة 1948 مع الذين خرجوا من حيفا إلى قلقيلية.
في الأردن كنت موظف في مصفاة بترول، تزوجت عليا في 25/5/1967، عشرة أيام قبل النكسة، في اليوم الأول من الهجوم جاءتني سيارة المصفاة إلى البيت في العاشرة والنصف صباحا: شريف يلّا معي عً المصفاة، قلت له: بس أنا عريس جديد ومُجاز! قال: إلتغت كل الإجازات، إسرائيل هجمت على كل الدول العربية وقصفت المصفاة.
في اليوم الثاني: جاءني شقيقي عبد الرحيم من عمّان إلى الزرقاء، يخبرني بسقوط كامل فلسطين بيد اليهود. جلسنا نستمع للأخبار القادمة من فلسطين عبر إذاعة 'بي بي سي'.
تجادلت مع عبد الرحيم حول من يبقى في الأردن ومن يعود إلى فلسطين ليطمئن على الأهل والأرض. وأخذنا نسأل الناس الذين لجأوا إلى عمان عن الأهل، ذهبنا لمخيم زيزيا فقالوا لنا: أهلكم راحوا على مخيم بلاطة.
وبقينا نسأل عشرة أيام، حتى تأكدنا من شخص من قرية فلامية القريبة على جيوس أن أهلنا مختبئون في مغارة قريبة من جيوس ولم يهربوا خارج القرية أو الحدود.
يشرب أبو عزام رشفة شاي، من شاي عزيز ابن أخته الذي أدمنه منذ سنين، ويتابع: كل شيء بي كان قد سبقني إلى أبي وأمي وأرضنا، ولم أسمح لعبد الرحيم بأن يسبقني لفلسطين، رغم محاولاته الجدية للعودة بدلاً عني، لكن فلاح أكثر منه.
يتناول أبو عزام كرسياً خشبياً ويأمر أم عزام بالجلوس إلى جانبه، لتسمع للمرة الألف قصتهما التي لا يملّان من الحديث عنها لكل زائر، تجلس أم عزام واضعة يدا فوق يد، ويبدأ أبو عزام مبتسما الحديث: تتذكري يا أم عزام طوشتنا، قلتيلي خلّينا في عمان كمان أكم يوم لحتى يهدأ الوضع وبعدها بنقرر شو نعمل، قلتلك: أنا من الليلة نازل ع فلسطين بدك تيجي تعالي. ترد عليا: آه خذني معك يا بنموت مع بعض، يا بنعيش مع بعض، وإذا طخوك يطخوني معك...
تذكرّه أم عزام بإطلاق النار، فيقول: التقينا بفدائي اسمه عبد العزيز من منطقة الخليل، قال لنا: امشوا معي أنا بعرف الطريق، وفي أثناء سيرنا بين البيارات والمزروعات كان الجنود يطلقون النار بشكل عشوائي في أوقات متقطعة كي يخيفوا من يفكر بعبور الحدود، وكلما سمعنا أزيز الرصاص التحفنا الأرض، مشينا في طريق اسمها المخاضة غرب واد اليابس وكانت مياه نهر الأردن عالية المنسوب ووصلت رقبتي أكثر من مرة، حتى وصلنا سالمين لمكان قريب من طوباس بعد 11 ساعة مشي متواصل.
يتابع أبو عزام: 'تركت عمّان وحضنت الأرض، قلت لأبوي ارتاح أنت'. بدأت بزراعتها من مختلف الأشجار والمحاصيل الزراعية، بالذات الزيتون واللوز والجوافة والأفوكادو والعنب والتين والرمان والخيار والكوسا والبامية، أرضي 62 دونما مزينة بـ4000 شجرة، أكثر من نصفها داخل الجدار، أدخلها بتصريح، ورقة لعينة مذلة من أجل أن أقطف حبة جوافة من أرض كانت لجدي ثم لأبي ثم لي، وسأنقلها لأبنائي إلى نهاية العمر.
مرة أخرى يعود أبو عزام إلى تفاصيل البؤس والتحدي: كل ما أم عزام تتضايق من هالعيشة وانشغالي بالأرض وهي لوحدها في بيت أهلي تقولي: إنت وعدتني أول ما اتجوزنا تبنيلي بيت أحسن من بيت أهلي اللي طلعتني منه بالزرقا، وفعلا أنا وعدتها وقلتلها يا مستورة وعد شرف أبنيلك بيت، وبعد 18 سنة أجت عليّ أم عزام وكان بنكنا جكيتها، وقالتلي: أبو عزام أنا سألت أبو معزوز وقلي فلوسكم ببنين بيت، قلتلها: إنتِ حرة عزام الأول على صفه ونهاية السنة عندو جامعه، إما بتوديه على الجامعة أو بتبني البيت. وبعد 36 سنة من زواجنا صار لإم عزام بيت، وصار أبو عزام صاحب أحلى مزارع في قلقيلية.
في العام 1988 بدأ مسلسل الاستيلاء الإسرائيلي على أراضي 79 مواطنا من جيوس، وبقي أبو عزام يقاتل مع المزارعين حتى العام 1996 مع صدور حكم المحكمة العليا والقاضي بإرجاع الأرض لأصحابها، بينما خسر 18 مزارعا أرضهم بشكل كامل، بحجة إنها أملاك غائبين، ولشق طرق للمستوطنات.
في العام 2004 يطير أبو عزام إلى 'لاهاي' لتقديم محاضرة في المؤتمر الأوروبي العالمي، والتقى بليلى شهيد ومحمود درويش صديق شقيقه الشاعر عبد الرحيم عمر، صاحب ثلاثة عشر ديواناً شعريا وصاحب مناصب مهمة في السلك الثقافي الأردني، في لاهاي فضح أبو عزام الإسرائيليين بالوثائق والخرائط، وكان قبلها محروماً من تصاريح لدخول أرضه، ما دفعهم بعد عودته لمنحه وأم عزام تصاريح لدخول أرضهم.
في بيته الهادئ في آخر الزقاق الشمالي من جيوس، لا تدخل من الباب دون أن يحتك رأسك بشجرة الرمان المغروسة على يساره، وكأنها تُلقي عليك التحية.
ليس طبياً، ولا أستاذاً جامعياً، ولا محامياً، إنما مزارع، فمن أين أتت كل هذه الكتب العظيمة، وباللغة الإنجليزية، إنه المزارع المثقف جداً، المتحدث بطلاقة للإنجليزية. يجيب أبو عزام: بصفتي ممثل للمقاومة الشعبية عن محافظة قلقيلية، ومشاركتي في العديد من المؤتمرات المحلية والدولية حول الأرض والإستطيان، كنت أشعر بالخجل من أن كلماتي تُترجم إلى المشاركين، أحبها مباشرة وواضحة، كان لاحتكاكي بعمال ومدراء أجانب في مصفاة البترول دور في التقاطي للكثير من المصطلحات الإنجليزية، ولأني قارئ جيد، فإني أيضاً مطّلع جيد على السينما، وأجد فرقا بين الرواية وبين الفيلم الذي تناولها، لا أريد إحساس ورأي المخرج، أريد إحساسي كقارئ، لذا تعلمت الإنجليزية لأقرأ وليس لأكتفي بما يُعرض لي. وكان للنشطاء الأجانب دور مهم في تواصلي مع الإنجليزية وزيادة صلتي فيها، كما أن قاموس عربي- انجليزي ينام قربي. كتب ديستوفسكي وهيغو وأمين معلوف ونجيب محفوظ ومكسيم غوركي ويو اس التو وامبرتو ايكو، وغيرهم الكثير من الأدباء الكبار.
لم يملّ بعد أبو عزام من سرد حكايا الأرض: في العام 2003 منعنا خمسة أشهر ونصف من دخول أرضنا، فدخلت ليلاً إلى أرضي عبر السلك الشائك مع مجموعة مزارعين، وبقينا 18 يوما، نرعاها ونختبئ كلما مر الجنود، وكان الطعام يصلنا ليلاً من فوق السياج. يوم 28/10/2003 اتصلت أم عزام وقالت لي: جمال جمعة بعث لك جواز سفرك ومعه 'فيزا' لفرنسا، بكرة طيارتك من عمان.
وافقت وقررت أطلع، بس عزّت عليّ شجرة السوّيد، رجعت عندها قلتلها انت بتعزي عليّ، وبدي أقطع الطلقين (غصنين) خايف يدعس عليكِ جندي. قطعت الطلقين ومشيت، ع البوابة سألني الجندي شو اللي بإيدك؟ رميت الطلقين ورى ظهري ومشيت.
ثم منعت عن الأرض حتى شهر نيسان 2014، ثم حصلنا على تصريح لدخول الأرض، أول مرة دخلنا استغربت من كل اشي من الغبرة (الغبار) والطحالب فوق كل الأكل اللي تركناه، وأم عزام تزيل العشب من جنب الشجر.
رجعت أشوف مكان السويدة، لقيت 12 طلق (غصن) جديد طالع منها والشتا أحياها من جديد، قعدت ع الأرض وقلت والله لأبوسك، وجرحت شفتي من الشوك ونزل دمي ودمعي عليها، رجعت عند أم عزام، وكان راسها بالأرض وبتعشب، لقيتها بتدندن، قربت عليها، قلتلها ام عزام بتدندني ولا بتبكي، ما ردت فاعرفت انها بتبكي.
هكذا ينتمي الفلسطيني إلى أرضه، بالاشتياق والدم والدمع. يدندن بهمس حين يطردونه منها، ويمشي طرقا خطرة، قد تقتله، حين يقرر أن يعود لأرضه مهما كلف الثمن.
أبو عزام زرع الأربعة آلاف شجرة، وأوفى بوعده لأم عزام ببيت جميل، وزرع سبعة أبناء متعلمين، يحمل ثلاثة منهم شهادة الدكتوراه، وأربعة درجة البكالوريوس.