مريم في مواجهة هدى
جميل ضبابات
أغلقت مريم ارشيد طاقة صغيرة بقطعة قماش لمنع الريح البادرة من التسرب لداخل مسكن عائلتها… لكنها أمام هـذه الرياح العاتية لم تفعل إلا ما يفعله من يحجب الشمس بالغربال.
فأمام رياح عاتية تهب على دول كثيرة في الشرق الأوسط، ليس هناك ما يقف أمام الهبوب البارد الذي واصل طريقه من القطب الشمالي في أعالي العالم، حتى هذه النقطة الواقعة ضمن اسفل نقطة على وجه الأرض.
بعينين متعبتين تبرزان من وراء غطاء لفته بإحكام حول رأسها، تكاد مريم ارشيد، تكون أخوف من جيرانها الذين يسكنون في ظروف مشابهة. فالمرأة الستينية التي تبرز الأوردة الدموية من تحت جلد ساعديها اثناء شد حبال خيمتها سمعت في جهاز تلفاز موصل بطاقة شمسية هي الآن معدومة، ان هناك عاصفة هوجاء ستهب وتقتلع كل شيء.
وثمة صورة انتزعت من سياق الاجراءات التي تتخذها السلطات الحكومية الرسمية الفلسطينية للحيلولة دون خسائر مادية وبشرية نتيجة للدوامة التي تسببها الرياح منذ ساعات صباح أمس.
صورة مريم التي تواجه وحيدة عاصفة هوجاء.
في بيت مكون من غرفة خرسانية بنيت قبل عقود، واضيفت اليها غرفتان من الحديد والقصدير، يمكن لمنطقة مثل حمامات المالح شمال شرق الضفة الغربية، وهي منطقة تسكنها عائلات رعوية، أن تعكس الجانب الآخر البعيد عن ضوضاء المدن التي تحضرت بكاسحات الثلوج لمواجهة العاصفة التي تضرب الآن فلسطين.
واقفة امام غرفة تضربها الرياح من كل الاتجاهات، تقول مريم انها خائفة. وكلما هبت الريح بوتيرة أقوى تشد المرأة رباط الحبل إلى الارض.
ويمكن لريح هائجة ان تقتلع خيام الرعاة، اذا لم تكن متينة. وتقول مريم في السنوات الماضية هبت ريح واقتعلت كل شي. وتوفر منطقة الغور وهي اخدود عظيم تلفه الجبال من ناحيتي الشرق والغرب ممرا مناسبا لكتل الرياح القوية اذا ما هبت من الشمال. أمام هبوب عات تقف مريم ذاتها تضرب اخماس باسداس. فالزوج في المرعى، والابناء كذلك. وأمام ريح قوية ليس للقوة البشرية أي دور.
فدول من العالم الاول مثل اسرائيل التي تسيطر على هذه معظم الغور بشكل كامل، كونها تقع في المنطقة 'ج' حسب اتفاقات اوسلو لم تستطع مواجهة سرعة الرياح صبيحة اليوم، فانقطعت الكهرباء عن مناطق واسعة فيها.
من على بعد تظهر الريح التي تحرك قمم الاشجار في محيط مسكن مريم، مشهد فانتازيا. فمثل هكذا مشهد يصلح لأن يكون مشهدا افتتاحيا في مقدمة فيلم وثائقي.
لكنه ليس كذلك بالنسبة لعشرات العائلات الرعوية التي تتكدس داخل منازل من الخيش المغطى بالبلاستيك المقوى.
ليلة امس استمعت مريم، لنشرة الاخبار، ولذلك لم تنم طيلة الليل، فالراصد الجوي، أشار الى عاصفة محذرا من قوتها. ومع ندرة تاريخية في سقوط الثلوج في هذه المنطقة، إلا ان للسيول الجارفة تاريخا حافلا. واحيانا يبدو تاريخا مميتا. قبل شهر جرفت السيول واحد من الرعاة الى مسافة كبيرة، عندما واجهها لإنقاذ بعض مواشيه.
لكن مريم، تبدو في حالة حذر أكبر من السيول. إن الرياح التي تهب الان فوق رأسها وتحرك أطراف كوفيتها الملفوفة فوق رأسها هي أكثر ما يرعبها.
وأعلنت دول كثيرة في الشرق الاوسط حالة الطوارئ قبل ساعات وصول العاصفة الثلجية التي تضرب هذه الاثناء لبنان وسوريا والاردن وفلسطين.
ومن المحتمل ان تستمر الاجواء العاصفة حتى مطلع الاسبوع المقبل. ودفعت سلسلة من التحذيرات سكان دول العاصفة الى التدفق للأسواق لشراء الوقود والخبز المواد التموينية.
محاطة بأكوام حطب متيبس جمعتها مريم تعلن مريم طوارئها بنفسها. فهي عجنت ما يكفي من الطحين، وقالت انها ستلجأ مع مضي النهار الى خبزها في طابون مجاور.
يظهر الدخان المنبعث من الطابون الذي سيعمل بأقصى طاقته يتكور ويتكور ويذوب فورا في اتون الريح القوية.
والرياح التي قد تصل سرعتها احيانا لمدى كم في الساعة، أدت صبيحة اليوم الى إغلاق طرق في مدن العالم الاول داخل اراضي عام ، ليس بعيدا عن مريم في عالمها الثالث، فطرق كثيرة سقطت فيها أشجار كبيرة أصبحت رهينة للريح القوية التي تحمل المطر والبرد.
من على بعد تظهر الاشجار التي تميل من شدة الرياح حتى تكاد تصل الارض، مخيفة، من على قرب عند مسكن عائلة مريم، تظهر القدرة الجبارة لسكان فلسطينيين تحرمهم اسرائيل من بناء منازل خرسانية على مقاومة الريح. فرباط طويل مشدود الى وتد في الارض يظهر قوة أكبر من تلك التي تبديها الدولة المحتلة.
واقفين على ربوة صغيرة قريبة من مسكن عائلة مريم، يسري بين رجال يتحلقون حول نار اشعلت داخل كومة حجارة، تفاؤل كبير بعام أخضر جميل.
اما الثلوج التي تتساقط الان فوق قمم الجبال الغربية والشرقية، فهي ليست إلا مقدمة للعاصفة التي اطلق عليها عدة اسماء، اشهرها 'هدى'، التي تحاول مريم مقاومتها بيدين من' صخر'.