'إيفرست' نابلس تحت الهطول، لكن ماذا عن الشريعة الموسوية؟
جميل ضبابات
في اليوم الثالث، تجدد الهطول الثلجي. كان في الصباح هشا.. رذاذا مثل القطن المنفوش فوق قمة جرزيم، الجبل الجنوبي لنابلس. أما بعد الظهر فصار أكثر غزارة. بدأت الصور عبر مجموعات الواتس أب السامرية تنتقل في كل الاتجاهات، قبل أن يطفئ الجميع الأجهزة مساء عند حلول السبت المقدس.
في الصباح كتب عابد الكاهن وهو واحد من نحو سامريا يعيشون فوق الجبل، ملاحظة سريعة على صفحة فيس بوك الخاصة به 'سيشهد التاريخ بأنه في يناير/ كانون الثاني تحول جبل جرزيم إلى كتلة جليدية، أو بمفهوم آخر' فريزر' براد وسكانه يعيشون فيه، والله يرحمنا من العاقبة'.
في الحقيقة كانت عاقبة الثلوج خلال السنوات الماضية، قاسية على هذه المجموعة العرقية التي تعيش فوق الجبل الذي يرتفع نحو مترا فوق سطح البحر.
توقع الراصدون الجويون أن يشهد الجبل خلال العاصفة 'هدى' هطولا غزيرا، لكن ذلك لم يحدث في بداية العاصفة. ما حدث في اليوم الأول فقط هطول لساعات محدودة ولم يدم الثلج طويلا.
الواقع أن ما حصل فوق هذا الجبل في التاريخ القريب، يحصل في أي مكان، لكن القصص تختلف، فجبل يحظى بهذه القداسة سيحظى بقصص مختلفة عندما تبرزها الهالة البيضاء.
الشجر يشيخ ويهرم؛ البيوت والشجر، الناس الذين يشكلون أصغر طائفة دينية في العالم، إلا الطقس الشتوي، فإنه يعود إلى شبابه كل عام. يعود: قويا، باردا، هائج، أو ماء أبيضا متجمدا، فيجلس السامريون في مقاعدهم أياما وليالي قد تتعدى الأسبوع. ومنهم من يحب هذا البياض ومنهم من يكرهه.
هذه ليست المرة الأولى التي يهطل فيها الثلج فوق جرزيم، أقدس جبال نابلس، وثاني أعلى جبالها بعد عيبال المقابل، لكن ذلك لم يمنع الشباب السامريين من الخروج صباح اليوم الجمعة من دفء المنازل للهو في الخارج.
الجبل صار بارد في الشتاء عموما، لكنه اليوم أكثر برودة، فدرجات الحرارة وصلت إلى الصفر تقريبا والثلوج الهشة تتهادى فوق الأشجار منذ ساعات الصباح.
هو أيضا منعش في الصيف. فماذا يكون هذا العلو غير مصيف 'نابلس' الطلق، بعيدا عن زحام المدينة والحارات المتداخلة ببعضها والمباني التي يكاد يحتك ببعضها البعض؟
'جرزيم' رادار المدينة، راصد طبيعي لتغيرات طقسها، فهو يستقبل الشتاء والريح والثلوج قبل غيره بجوانبه الصخرية من مرتفعات نابلس.
عندما تسقط الثلوج على القمم وأنوف الجبال، ولا تسقط في القاع، يهرع أهل المدينة التي تفيض شوارعها بالسيول الصاخبة، لنقله بالسيارات إلى الأحياء المتدنية، أو يكتفون بالتقاط الصور بين أشجار الصنوبر والسرو العملاقة.
في اليوم الثالث من 'هدى'، صعد بعض سكان المدينة إلى الجبل للهو، خشية ألا يهبط مستوى الثلوج إلى الأسفل، إذ قلّت نسبة الثقة في توقعات الراصدين الجويين بعد انحسار الهطول يوم الأربعاء واقتصار ذلك على القمم العالية في نابلس.
أما سكان الجبل من السامريين، فبدؤوا منذ الصباح بلصق صور الهطول على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي الخاصة بهم. فلا شيء يذكر بعضهم مثل عاصفة العام .
كانت ثلوج التسعينيات قاسية على أهل الجبل. هطل القطن الجليدي بكثافة في ذلك العام. تجمد كل شي. أغلقت الطرق. وشخصت الحياة كلها حتى أصبحت جلموداً.
بعد سنة على تلك العاصفة يجد الكاهن حسني السامري، وهو أحد كهنة الطائفة الفرصة المناسبة للحديث عن تلك العاصفة.
الضفة الغربية حينذاك كانت كأنها مطلية بالشيد الأبيض، وكأنها دب قطبي هائل وعظيم وصامت، كانت في قبضة الحكم العسكري الإسرائيلي.
لم يكن أمام أبناء الطائفة إلا الحاكم العسكري الإسرائيلي الذي يستطيع أن يُسير الآليات للجبل، لكنه لم يستمع حينذاك إلى نداء الاستغاثة إلا بعد أن بثت الإذاعة الإسرائيلية العامة الخبر العاجل بشأن حصار الجبل بعد اتصال هاتفي وردها في ذروة العاصفة من أحد الكهنة.
لم يسجل السامريون من الأجيال الجديدة هذه المشاهد في مخيلاتهم، لكن عواصف ثلجية لاحقة في العقدين الآخرين كانت ماثلة أمام أعينهم كشاشة بيضاء في سينما الشتاء.
خلال الأشهر المنصرمة جمعت عديد الروايات حول الظروف التي صاحبت العواصف الثلجية التي اجتاحت الجبل.
في صباح العاصفة الداهمة الغليظة عام ، أطل الكاهن حسني من نافذة منزله، ليشاهد امرأة تسير فوق أكداس الثلج الذي ارتفع كثيراً، حتى غمر مركبتها.
كانت رندة ابنة شقيقه حسنين تسير فوق المركبة دون أن تدري. كان الجبل بالنسبة له جحيما أبيضا.
أما وسائل الاعلام، فقد نقلت في السنوات اللاحقة أخبارا مشابهة عن هطول الثلج وفولاذية سطوته وجماليته أيضا فوق الجبل، لكن أرشيفها لم يشر بعد ذلك إلى أي ثلجة كبيرة مثل ثلجة التسعينيات، حين سقطت فيها الثلوج حتى على مشارف أدنى نقطة في الأرض.
قبل هدى بعام، العام ظهر جرزيم حقا مثل إيفريست (شكيم). ففي الثلث الأول من كانون الثاني من هذا العام حلت في الشرق الأوسط أجواء شتوية متطرفة.
لقد غرقت الضفة الغربية في لجة البياض الدامس، وانقطعت الأرجل عن معراجها الجبلي إلى قمة جرزيم التي يسميها السامريون 'باب السماء' أو يسميها بعض سكان نابلس تندرا 'ايفرست' لعلوها البارز، وهو العلو الذي يحمل صفات دينية كثيرة حسب العقيدة الموسوية، إذ يحج السامريون إلى هناك ثلاث مرات خلال السنة.
بدا الجبل في تلك العاصفة وكأنه ذاته، في ملابس الإحرام، في رحلة حج كبيرة.
كانت عاصفة ثلجية عاتية تطيح بمقومات الحياة في عدة دول في الشرق الأوسط، أطلق عليها عالميا 'أليكسا' التي لعنها سكان الجبل، وظهرت تداعيات العاصفة أكبر من قدرات الدول التي تتعرض لها.
على خلاف هذا العام، في العام توحّد الجبل مع المدينة تحت نير الغطاء الأبيض مع الكبيرين المتقابلين (جرزيم وعيبال)، فقد ظهرا حول المدينة كإطار أبيض للوحة شتوية في 'أوروبا' العجوز.
أما سكان أعالي 'جرزيم'، فلم يعد بإمكانهم الدخول والخروج من وإلى المنطقة، وشلّت الحركة تقريبا بين المدن الفلسطينية.
عُزل السامريون داخل منازلهم، وظلت بعض العائلات متحصنة داخل الغرف لأربعة أيام، وفي بعض الأماكن اقترب سمك الثلوج من نصف متر.
على خلاف العاصفة هدى، ظهرت جبال نابلس والريف المحيط بها بعد خمود رياح 'أليكسا' كتلة من الكلس الأبيض المتجمد. كانت تلك الحادثة أول اختبار على المحك للجيل الجديد من السامريين لمواجهة ما واجهه الآباء فوق 'جرزيم'.
في العام ثمة مشهد مغاير، ثلوج خفيفة تهل وريح باردة جدا، ريح ستجعل سكان الجبل السامريين يباشرون حركة السبت هذا المساء دون تدفئة، لكنهم تعلموا من درس العام الماضي، استأجروا جرافتين وضعتا قيد العمل الطارئ، لإزاحة الثلوج من الشارع المؤدي للجبل.
لكن فداحة البياض والانجماد المتوقع هذه الليلة، لا تنفي رومانسية يوم شتوي هنا، قبل حلول السبت بساعة وربع حيث يتحتم على السامريين إطفاء كل أجهزة التدفئة سيرا وراء الشريعة الموسوية وهي الأسفار الخمسة من التوراة والتي تحرم استخدام كل ما يمكن أن يولد حرارة، كالنار والكهرباء وأجهزة التكييف المركزي.
كتبت بدوية ابنة الكاهن حسني 'تأملت من نافذة غرفتي تساقط الثلوج منذ ساعات الصباح على جبلنا جرزيم.. ثلج صامت دون رياح ولا ضجة.. ثلج هادئ.. ثلج ناعم.. لكنه يحمل معه بردا شديدا وصقيعا وتجمدا، شكرا لله، فكله أولا وأخيرا من عند الله'.
'تأملت العصافير وهي تتزاحم لتقتات فتات الخبز الذي وضعته لها على النافذة.. على مبدأ 'فكر بغيرك' فهذا ما استطعت أن أقدمه هذا اليوم لعصافير خرجت تبحث عن قوت يومها'.
'تأملت شمس النهار وهي تخترق كل الغيوم في السماء وتتمرد على الثلج والبرد وتصدر أشعتها لتبعث الأمل وبعض الدفء لتلك العصافير وتلك القلوب.. وها هي تعود لتثلج من جديد فسبحانك اللهم كيف تبدل الحال بحال'.