تحرير من الأسر أم ترحيل وإبعاد - يونس الرجوب
كي يعرف الناس الصورة الجميلة والصورة الاقل جمالا اوالفارغة من الجمال لا بد وان يشاهدوا الصورتين معاً ولا بد وان يمتلكو الاحساس بالاثنتين وقواعد المعرفة واصول الحكم الصحيح اما المواقف والتصورات الوطنية فالأمر أكثر عمقاً ودراسة وتمحيص لا سيما وإنها ليست لحظة مؤقتة بل هي سياق من الفهم والتصور وسلوك محكوم بقواعد السياق نفسه ومحددات ومراجع الفهم والتفكير التي تجعل من وجوده سياقاً في التاريخ لذلك دعونا نعرض الصوره من بدايتها ونستكمل سوياً بناء الموقف انطلاقاً مما نعتقد انه الصحيح وما نتصور انه الصواب حيال عملية تحرير الأسرى الاخيره وما يحيط بها من نقاشات وأراء.
1. في عام 1948 لم تسمح الظروف بإجراء عملية إبادة جماعية للشعب الفلسطيني من قبل العصابات الصهيونية وايقاع جريمة هولوكوست ثانية في التاريخ لذلك كان البديل هو الإجلاء والابعاد والترحيل الذي تخلله مذابح جماعية موقعية محدودة الضحايا ومعروفة التنفيذ وبالتالي كان" الإترنس فير " هو البديل عن الهولكست في فلسطين حيث تم ذلك على قاعدة الحصول على اكبر مساحة من الأرض الفلسطينية واقل عدد من السكان العرب الأصليين داخل دولة الاحتلال الإسرائيلي.
2. تأسست على القاعدة المذكورة أعلاه منظومة القوانين والتعليمات والإجراءات الإسرائيلية بشأن التعامل مع المواطنين العرب داخل دولة الاحتلال الإسرائيلي والمهجريين خارج حدود فلسطين وأصبحت سياسة نسف البيوت وتدمير الممتلكات ومصادرتها وإبعاد المواطنين عن أرضهم وبلادهم إجراء قانوني وتطبيق لقواعد القانون الذي يحكم كل مؤسسات وسلطات الدولة الإسرائيلية وهو الأمر الواقع علينا كفلسطينيين منذ عام 1948 وحتى تاريخه ولا يجوز لنا التشكيك في صحته ووقوعه بدلالة كل ما تم من إجراءات تطبيق في هذا الشأن وما نعانيه من إبعاد وترحيل ومصادرة الأراضي والأملاك ونسف البيوت بأوامر عسكرية وقرارات صادره عم المحاكم والقضاء الإسرائيلي.
3. في بداية الاحتلال عام 1967 ضغطت السلطات الإسرائيلية بكل قوتها لتهجير اكبر قدر ممكن من المواطنين العرب في الضفة والقطاع والجولان السوري المحتل وأحدثت هجرة جماعية ثانية تنفيذاً لنفس القاعدة "اكبر مساحة من الأرض واقل عدد من السكان" وتعتبر مخيمات غزة والطالبية والبقعه وعزمي المفتي وجرامانا والحجر الاسود في الأردن وسوريا اكبر دليل على هذه الحقيقة وبالتالي تنبه الشعب الفلسطيني لخطورة هذة الضغوط
واتخذ قراره التاريخي لإحتوائها والرد عليها عبر الثوره الوطنية المسلحة ومسار الصمود على الأرض واسترداد الوطن والهوية واستبدال الهجرة من الأرض بالعودة إليها استشهاداً او حياة وهي القاعدة الوطنية التي تحكم الرؤى والتصورات الفلسطينية بهذا الشأن وما يترتب عليها من تضحيات في مواجهة الإجلاء والترحيل او قضايا الابعاد والمبعدين
4. بعد تأسيس مسار الاسترداد المذكور اعلاه وسياقة التاريخي المتصاعد بالثورة الوطنية المسلحة لجأ الاحتلال الى وسائل اخرى في تطبيق مبدأ (اكبر مساحة من الأرض واقل عدد من السكان) وكان ابرزها الإبعاد الفردي بعد إغلاق ملف الترحيل والإجلاء الجماعي من قبل الشعب الفلسطيني وثورته الوطنية وكان الهدف من هذه الوسائل هو تحقيق غايتين مهمتين للاحتلال الأولى كانت خدمة المبدأ المذكور أعلاه والتمسك به في كل الأحوال والظروف والثانية هي اظهار الثورة الفلسطينية بانها ثورة رعاع وجهله واميين وبالتالي اعتبرت المعتقلات والسجون الإسرائيلية هي الإطار الموضوع لتطبيقات الوسائل الاخرى حيث بدأ الاحتلال يحكم بالإبعاد على كل مناضل متعلم وكل شخصية اعتبارية من أبناء الشعب الفلسطيني ويقوم بتشغيل الاخرين داخل المعتقلات في مصانع انتاجية لخدمة اقتصاد الاحتلال وخدمة صناعاته الحربية ايضاً .
5. في عام 1972 وصلت النضالات التراكمية للاسرى والمعتقلين ذروتها على طريق كسر سياسة الابعاد للمناضلين وتحويل المتبقي منهم الى ايدي عاملة في الانتاج الاسرائيلي دون مقابل وتم اغتيال المناضل الوطني الكبير تحسين حلبي بتهمة حرقه للمصانع الانتاجيه في معتقل عسقلان من قبل الضابط المجرم جستر فلد الذي كان يشرف على هذا البرنامج وبالتالي تصاعدت نضالات الاسرى بعد ذلك لأقفال هذا الفصل المؤلم في حياتهم وانهاء نزيف الابعاد والترحيل والاذلال والتشغيل داخل الاسر وما ان جاء عام 1974 الا وكان هذا الملف قد اغلق تماما وكانت الطريق قد سدت الى الابد امام الابعاد من الوطن حتى وان كان ساحة اعتقال او زنزانة تعذيب.
6. لقد دخل المبدأ المذكور اعلاه في كل وثائق وقوانين الحركة الوطنية الاسيرة وكتب نصا في انظمتها الداخلية وبالتالي اعتبرت الموافقة على الابعاد مقابل الخروج من الاسر بمثابة خيانة وطنية عظمى وتعاملت الحركة الوطنية الاسيرة مع من تجاوز عن ذلك سرا ودون علمها بالفصل من التنظيم في الخارج والطرد من مؤسسات العمل الوطني الفلسطيني والحرمان من كل الحقوق التي يتمتع بها المناضل الملتزم وبالتالي حكم هذا المبدأ قرارات وتوجيهات القيادات الفلسطينية لابنائها في السجون وحكم نظرتهم الى انفسهم امام شعبهم وقياداتهم ايضا حيث تمت على اساسه كل عمليات التبديل او التحرير للاسرى الفلسطينين بما فيها عملية الجليل التي شملت 1150 مناضل من الوزن الثقيل والاكثر خطورة وايذاء للأحتلال والتي نفذتها الجبهة الشعبية القيادة العامة عام 1985 وشرفتني ايضا ان اكون واحدا من بنيتها وركيزة من الركائز الاخلاقية والسياسية التي تحكمها وبالتالي كانت هذه العملية خالصة لوجه فلسطين ونزيهة من الهوى والمصالح الفصائلية والفئوية وشديدة القسوة والصعوبة على الاحتلال والمحتلين .
لقد التزم الرفاق في الجبهة الشعبية القيادة العامة بالمعايير والثوابت الوطنية الفلسطينية نصا وروحا وقاموا بعد تحديد الاطار العام الذي سيحكم هذه العملية بتحديد المناضلين وفرزهم وفقا لاولويات هذه المعايير والتزاما في تطبيقها وبالتالي خضع برنامج الفرز للنقاط التاليةفي اولوية التحرير من الاسر.
1. المناضلين غير العرب وكان من بينهم (كوزاوكوموتو) المناضل الياباني الاممي الذي نفذ عملية مطار اللد المشهورة عام 1972 وعدد آخر من المناضلين الالمان و القبارصة و الهنود والاسرائليين امثال اودي اديب المناضل المعروف.
2. المناضلين العرب الذين تجاوز وجودهم في الاسر مدة خمسة سنوات.
3. المناضلات الفلسطينيات بصرف النظر عن مدة السجن والاحكام الصادرة بحقهن.
4. الاحكام العالية من المناضلين الفلسطينيين وحسب الاقدمية في الاسر والاعتقال ودون تمييز فصائلي او اعتبارات شخصية.
5. لقد تم تنظيم قائمة باسماء كل المناضلين الاسرى التزاماً بالمعايير والنقاط المذكورة اعلاه بدء من أول مناضل غير عربي وانتهاء باخر مناضل فلسطيني وكان الاسرى والاهالي مطمئنين لهذه المعايير وواثقين من حرص القائمين على العملية في تطبيقها وعندما تم الاتفاق على الرقم الذي سيتم تحريره لم يسأل احدا من المناضلين لماذا لم اكن انا ضمن الاعداد التي اتفق عليها؟؟؟ ولماذا ابقوني في السجن ؟؟؟ واخذوا غيري!!! لان الاولويات كانت واضحة للجميع.
والعدل والانصاف كان هو سيد الموقف.
لقد دافع اللذين بقو بالاسر عن عدالة وانصاف هذه العملية اكثر من اولئك المناضلين الذين تم تحريرهم وكذلك الاهالي والمراقبين والصحفيين وكل القوى الاجتماعية والسياسية الفلسطينية والعربية وبالتالي تم على اساس هذه المعايير حل كل الاشكاليات التي واجهت التفاوض ولم يتم تبديل صاحب حق في الاولوية لصالح من هو اقل منه احقية واذكر ان المناضل العربي المعروف سمير قنطار كان في ذلك الوقت في منزلة المناضلين العرب الذين لم تصل مدة مكوثهم في الاسر معيار المساواه الذي حكم الجميع وكان راضيا عن بقائة في الاسر اسوة بكل المناضلين الاخرين واذكر ايضا ان ثمة اشكالية كبرى قد برزت في سياق التفاوض ولكن الرفاق في القيادة العامة اصروا على حلها وفقا للمعايير المذكورة اعلاه وليس خروجا عليها حيث اختار العدو 36 مناضل من اصحاب الاولوية لاستبعادهم من القائمة مقابل موافقته على ان تشمل الصفقة 1150 مناضل وتوقفت المحادثات 3 سنوات دون ان يتحرك موقف الرفاق في القيادة العامة قيد انملة عن معايير الاختيار وبعد ذلك تمت الموافقه بين اطراف التفاوض على ان يقسم العدد المختلف عليه الى نصفين شريطة ان تختار القيادة العامة النصف من الاسماء المذكورة وان لا يعترض العدو على اسماء النصف الاخر التي ستقوم القيادة العامة بتسميتها بديلا عن الاخوة المستبعدين في هذه الصفقة وبالتالي قام الرفاق في القيادة العامة باجراء قرعه بين المناضلين المعنيين واستخراج العدد المطلوب عبر هذه الوسيلة وليس اخضاعه لمزاج العدو او مزاج الاخرين او اخراجه من دائرة العدل والانصاف بينهم وبعد التوقيع على القائمة تم كتابة رقم 18 الى جانب اسم كل مناضل منهم وذلك خوفا من استبداله اثناء التنفيذ اما التوقيع على خيار الابعاد الى خارج الوطن فكان من الامور المحرمة وغير المقبول طرحه اثناء التفاوض علما ان الرفاق في القياده العامة كانو يعلمون بان المناضلين من غير العرب وابناء الامة العربية وعدد كبير من الدوريات في الخارج لم يتمكنو من البقاء في فلسطين وبرغم من ذلك اجبر العدو على اعتماد استمارة واحدة للجميع في هذا الشأن وهي عبارة عن وثيقة رسمية من وثائق القيادة العامة تحمل النص التالي
اخي المناضل نزف اليك بشرى تحريرك من الاسر ونتمنى عليك ان تختار
1. الخروج في وطنك فلسطين وبين اهلك وذويك
2. الخروج الى المنفى والشتات وحياة التشرد واللجوء
حيث كانت هذه الوثيقة موقعه من الرفيق الامين العام للجبهة الشعبية القيادة العامة وكان على اللجان المعينه في كل معتقل تعبئة اسم المناضل ووضع دائره على اختياره والتوقيع عليها.
لقد كانت الوثيقة المذكوره اعلاه هي الخطوه الاولى في مباشرة التنفيذ وكانت الشروط ان يتم تعبئة هذة الوثيقة وتوقيعها من اصحاب الاختصاص داخل الاسر وبعد ذلك ترسل الى سوريا لتدقيقها والتاكد من صحة التواقيع التي تحملها واسم المناضل الذي تحمله وبعد ذلك يتم اطلاق عملية التنفيذ وفقا للخطوات التالية
1: يرسل المناضلين المحررين من غير ابناء الامة العربية ومن يرافقهم من ابنائها الى مطار اللد ويتم صعودهم الى الطائرة وتفقدهم من قبل رئيس البعثة الدولية في الصليب الاحمر واخبار غرفة عمليات دمشق بأنجاز هذة الخطوة واتمامها
2:تقوم القيادة العامة بارسال اسير واحد الى مطار دمشق الدولي وابقائة تحت سيطرتها لحين وصول المحررين الى مطار فينا وتسليمهم للبعثة الدولية للصليب الاحمر وبعد التاكد من وصولهم عبر المندوبين الخاصين بالقيادة العامة يتم ارسال الاسير من مطار دمشق الدولي الى فينا ايضا وتسليمة للصليب الاحمر هناك حيث خضع هذا الاجراء الى توقع ان يقوم العدو باخذ الاسرى من الجو وافشال العملية
3: يتم خروج الاسرى في حافلات من السجون ووصولهم الى المناطق المتفق على تحريرهم فيها في المحافظات الفلسطينية وشمال وجنوب فلسطين المحتلة عام 1948 وبعد اطلاق سراحهم في هذة الاماكن تقوم القيادة العامة بارسال اسير ثاني في طائرة خاصة الى مقر البعثة الدولية للصليب الاحمر في فينا وتسليمة لها هناك
4:عند الاطمئنان الى تنفيذ الخطوات المذكورة اعلاة دون عقبات والتاكد من تحرير كل المعنين تقوم القيادة العامة بارسال الاسير الثالث بطائرة خاصة ايضا .
وكان من شروط الصفقة ان تحتفظ القيادة العامة بهذا الاسير لاجبار العدو على تنفيذ كل الالتزامات التي وقع عليها وكانت هذة العملية من حيث الحجم والترتيب والدقة هي العملية الثانية التي تجري بين الثورة الفلسطينية والعدو الاسرائيلي اما العملية الكبرى الاولى التي لابد من ذكرها في هذ المقام فقد كانت عملية تحرير اسرى معتقل انصار المشؤوم الذي كان يحتجز 7000 مناضل فلسطيني وعربي وعالمي وكان بينهم مايزيد على 100 جنسية وامة وبالتالي تعتبر العملية التي حدثت في اول الموافق امس هي العملية الثالثة من حيث الحجم في تاريخ النضال الفلسطيني ولكنها العملية الاولى من حيث الخروج على قواعد وضوابط العمل الوطني الفلسطيني ومعايير الاختيار بين المناضلين حيث تجاوزت في اجراءت تنفيذها كل العناصر المذكورة اعلاة ومثلت طعنة لا تنسى في كبرياء قدماء الاسرى واهلهم وذويهم من ابناء الشعب الفلسطيني .
لقد شملت عملية الجليل 563 مناضل محكوم عليهم بالسجن المؤبد كان من بينهم جميع المناضلين الذين نفذو عمليات كبرى ضدد الاحتلال الاسرائيلي مثل ابطال عملية دلال المغربي وعملية الدبوية وعملية فندق سابوي وعمليات مجموعة عكا وعشرات العمليات الكبرى المعروفة في تاريخنا الفلسطيني لذللك نقول لمن قام بتنفيذ عملية تحرير الاسرى الاخيرة ان شعبنا لن ينسى يوما خروجكم عن المعايير الراسخة في تقاليدة النضالية وتميزكم بين المناضلين على اسس فصائلية وفئوية وكأن من كان في فصيل غير فصيلكم ليس مناضلا فلسطينيا يستحق التحرير .