67 عاما وحنين العودة شمس لا تغرب
- في الصورة الحاجة مرضية علاء الدين (85 عاماً) تسكن مخيم الأمعري وتحلم بالعودة لبيتها المهجرة منه في نكبة 1948 في اللد
يامن نوباني :.
قيل لبعضهم ستعودون بعد ساعتين، ولآخرين بعد يومين أو ثلاثة، ومرت 67 سنة، على تشتيت 800 ألف فلسطيني، بين الضفة الغربية وغزة والقدس ولبنان والأردن ومصر وسوريا.. مات كثيرون وهم يحلمون بالعودة، وكبر كثيرون وهم يحلمون بحقهم.
يُطلق الذين هجروا من ديارهم قبل 67 عاما، وساروا لمسافات طويلة في الطرق الوعرة، وقطعوا السهول والجبال للوصول إلى مكان آمن على ذلك اليوم 'يوم القيامة'، ويطلق الذين شاهدوا قراهم ومدنهم وهي تتعرض للقصف والتدمير وتتبدل معالمها وملامحها 'يوم الزلزال'، وهناك إجماع على أنه 'يوم النكبة'.
وبين هذا وذاك تقترب وتتشابه قصص اللجوء والتشريد من بعضها البعض، وتصب جميعا في قالب من الشجن، حاولت 'وفا' تلمسه:
اللد في صورتها الأولى
بغصة يقول رجب غانم المولود عام 1935: أنا من اللد، ولدت وعشت أول 12 سنة من حياتي فيها، قبل أن يطردنا اليهود منها، أتمنى من الله أن يعيدني إلى اللد، اللد هي كل شيء... طوقوها ثلاثة أيام ثم أخرجونا منها، وكل من حمل معه مالا أو مصاغا ذهبيا أخذوه منه تحت تهديد السلاح، وكان أناس كثيرون يمشون في جماعات الى خارج اللد، دون أن يعرفوا أين يذهبون.
'أخرجونا في يوم صيام، كانت أمي تعد للإفطار أربع دجاجات محشية، لكننا بعد الظهر تركنا المطبخ والبيت واللد والدجاجات الأربع المحشوة'، قال الرجل.
يفرك الحاج رجب، عينه اليسرى بقوة، ويتمتم بصوتٍ منخفض: 'آه يا عيني لو أفتحك وألقاكِ في اللد'. ويضيف: 'نمنا ليلتنا الأولى في كروم العنب بعد أن مشينا عدة ساعات بعيدا عن اللد، وفي الصباح عاودنا المشي، رأى أبي شارعا على بعد 3 كم فمشينا إليه، وصادفتنا حافلة أوقفناها وقلنا لسائقها: 'خذنا مطرح منتا رايح'، فأوصلنا الى رام الله، وجدنا رام الله صغيرة، وقال لنا الناس: هنا لا يوجد عمل وقد تموتون من الجوع، فتوجهنا إلى مخيم البريج في غزة، بعد أن سمعنا أن الوضع هناك افضل للاجئين، وتسلل والدي من البريج إلى دكاننا في اللد بعد بضعة أشهر من النكبة، وكان يخفي تحت حجارتها مبلغا من المال، وعاد بسلام الى البريج وفتح دكانا جديدا فيه، وفي العام 1974 انتقلنا إلى مخيم الأمعري في رام الله.
يتكئ الحاج رجب على برميل تآكل من الصدأ، يحدق في شجرة مشمش قريبة وشجرة لوز ضخمة جدا، يصمت قليلا، ويتابع: هذا البرميل أعطتنا إياه الوكالة مع بيت الطوب المسقوف بالصفائح المعدنية قبل 51 سنة، وزرعنا مشمشا ولوزا وعنبا، لكن توافد المزيد من اللاجئين الى الأمعري قلل المساحة الزراعية المتوفرة لنا، واضطررنا لاجتثاث الشجر ليتسع المكان لعائلات أخرى، وبقيت هذه اللوزة وهذه المشمشة.
عمل الحاج رجب في البناء في مدينة الرملة، وكان يختلس النظر وهو في الطريق الى اللد، دون أن يقو على دخولها، يقول: سنحت لي الفرصة مرات عدة لزيارتها لكني رفضت، لا أريد عودة مؤقتة، ولا أريد أن أرى التغيير الكبير الذي حصل لها، أريد لصورتها التي أحفظها منذ أيام الطفولة أن تظل حية في ذاكرتي، كان لدينا دونم مزروع بنبات الكوسا والبطاطا والتوت والزيتون، لا أريد أن أمحوه من خيالي حين اصطدم بمبنى ضخم أو مول تجاري حل محله.
بئر معين صارت مستوطنة 'موديعين'
الحاج أبو جبر فؤاد (88 عاما)، من قرية بير معين المهجرة قرب الرملة، يعيش في مخيم قلنديا وسط رام الله، يقول: تشرد أهل بلدة القباب الى بلدنا بير معين، ظنا منهم أن بلدتنا ستسلم، وبعد اسبوع واحد خرجنا منها سوية، وذلك بعد مناوشات بين الجيش الاردني والعصابات الصهيونية، كانت بئر معين تعد 500 نسمة وكان فيها 400 بقرة للحراث والحليب والدراس، ونحو أربعة آلاف رأس من المواشي و5 جمال، كانت المواشي والبقر والأرض كافية لنعيش حياة كريمة.
ويضيف أبو جبر: كانت أيامنا أيام نخوة، وكان يكفي أن يصرخ أي صوت في البلدة مناديا: فزعة. لتلتم البلد بأكملها، كما حدث حين حاصر الجيش البريطاني عددا من المناضلين في جسر عاكف على طريق وادي صرار القريب من اللطرون، حيث انسحب الجيش البريطاني بعد أن شاهد أهل البلدة يهرعون بالعصي والسلاح الأبيض.
يعود الحاج أبو جبر في العام 1956 الى بير معين بحثا عن قبر والده، ولا يجده، ويستدل على مكان البلدة من شاهدها الوحيد: مقام ولي يطلقون عليه 'مقام مناعه'، فقد تحولت بئر معين والقرى القريبة إلى مستوطنة 'موديعين'.
المالحة بلد الورد ودقاقي الحجر
مصطفى اعمر مواليد العام 1934، في بلدة المالحة المهجرة، جنوب غرب القدس، يقول: خيمتنا كانت أول خيمة في المخيم، خرجنا من المالحة في يوم صيام، وسكنا لدى أقارب في سلوان، وبعد استشهاد خالتي في راس البساتين، كانت العصابات الصهيونية تطلق النار من منطقة النبي داوود اتجاه حي الثوري وسلوان لترويع الناس، فانتقلنا إلى مخيم عين السلطان في أريحا، ثم جبل الحسين في الأردن، ثم عدنا الى مدينة البيرة، ونمنا أول ليلة فيها تحت شجرة، واستقررنا بعدها في مخيم الامعري.
يضيف مصطفى: كانت المالحة تشتهر بالورد، والسماق، ودق الحجر، وكنا نمشي من المالحة الى القدس سيرا على الأقدام، عبر حي القطمون والطالبية وحتى باب الخليل، وكانت في منتصف الطريق شجرة بلوط تستخدم كاستراحة، وكان عبد الفتاح درويش شيخ البلدة، وله هيبته، ورفض الخروج منها، وكان يطلق النار من عليته على اليهود، الذين حاصرونا، وهددونا فخرجت معظم البلدة ولم يتبق فيها سوى بعض الكبار في السن، ثم رحلهم اليهود الى بيت جالا وبيت صفافا، وسكنها يهود عراقيون.
في البرج القمح أخضر
يقول الحاج شاهر الخطيب (75 عاما) المهجر من قرية البرج، قرب الرملة، إلى مخيم قلنديا: تركنا وراءنا القمح أخضر وطويلا، والشعير مجموع في أكوام على البيدر، وكان بيتنا اخر بيت نزح عن القرية، أنا وأشقائي الثمانية وأمي.
يضيف الخطيب، الذي يملك دكانا صغيرا وسط المخيم: نزح عدد من أهالي القرى القريبة منا كبئر أم معين وبرفيليا وأبو شوشة وجمزو وعنابة واستقروا في البرج لبضعة أيام، قبل أن نخرج جميعا منها بعد محاصرتها واطلاق النار عليها من جهة قرية برفيليا، حملنا الأولاد وسقنا عددا من المواشي والجمال، وتمكن البعض من أخذ بقج الملابس، وكانت الناس تواسي بعضها البعض في الطريق 'يومين ونرجع، اسبوعين ونرجع'، ومشينا سيرا على الأقدام لأقرب قرية وهي صفا، ومكثنا فيها أسبوعا، نفترش الأرض وننام، ثم انتقلنا إلى بيت عور، ثم إلى خربثا، قبل أن نستقر في مخيم قلنديا عام 1957.
وبحسب جهاز الإحصاء المركزي، فإن 1.4 مليون فلسطيني كانوا يقيمون في فلسطين التاريخية عام 1948 في 1,300 قرية ومدينة فلسطينية.
وتشير البيانات الموثقة إلى أن الإسرائيليين قد سيطروا خلال مرحلة النكبة على 774 قرية ومدينة، حيث قاموا بتدمير 531 قرية ومدينة فلسطينية، كما اقترفت القوات الإسرائيلية أكثر من 70 مذبحة ومجزرة بحق الفلسطينيين، أدت إلى استشهاد ما يزيد عن 15 ألف فلسطيني خلال فترة النكبة.
وتظهر المعطيات الإحصائية أن نسبة اللاجئين الفلسطينيين في دولة فلسطين تشكل 43.1% من مجمل السكان الفلسطينيين المقيمين في فلسطين نهاية العام 2014، كما بلغ عدد اللاجئين المسجلين لدى وكالة الغوث في الاول من تموز للعام 2014، حوالي 5.49 مليون لاجئ فلسطيني، يعيش حوالي 29.0% من اللاجئين الفلسطينيين في 58 مخيما تتوزع بواقع 10 مخيمات في الأردن، و9 مخيمات في سوريا، و12 مخيماً في لبنان، و19 مخيما في الضفة الغربية و8 مخيمات في قطاع غزة.