مسمار في نعشكم!- صبري صيدم
عندما تتخذ دولة كهولندا بحجمها المعنوي واعتباراتها التاريخية قرارا بوقف تسديد التعويضات عن الظلم النازي لأولئك اليهود الذين يقيمون في المستوطنات الإسرائيلية فإن هذه المملكة الصغيرة بحجمها والكبيرة باقتصادها وحضورها الدولي لا بد وأنها قد خرجت عن جدار الصد المعنوي الكبير الذي منعها على مدار عقود خلت من اتخاذ موقف صارم من الاحتلال الصهيوني متجاسرة على مراكز الضغط التي فرضت حالة من التردد على موقف هولندا في بعض المحطات التاريخية.
المملكة الوديعة التي تستضيف محكمة الجنايات الدولية لم تشأ إلا أن تنسجم مع ذاتها بالموقف والكلمة وهي التي شاهدت أموال دافعي الضرائب فيها التي دفعتها لفلسطين على مدار العقود الماضية وهي تطحن تحت جنازير الدبابات الإسرائيلية بينما دمر القصف الوحشي الإسرائيلي مواقع حيوية فلسطينية مولتها حكومة هولندا ليس أقلها مشروع ميناء غزة الجديد، كما راقبت هولندا بتوتر وانزعاج تحطيم إسرائيل لمبادراتها المختلفة حتى تلك التي ارتبطت بإنتاج الورود والفراولة الفلسطينية في قطاع غزة.
هولندا دقت مسمارا جديدا في نعش الاحتلال لتفتح الشهية والطريق أمام المزيد من الراغبين في مقاطعة الاحتلال وإخطاره بأن الحصن السياسي المنيع الذي وفرته بعض عواصم القرار في العالم لم يعد قابلا للحماية والحصانة. فالعالم لم يعد غبيا أو مغيبا خاصة في ظل ثورة المعلوماتية التي نقلت معاناة الفلسطيني بتجرد ووضوح وصراحة إلى العالم دون أن يتمكن مقص الرقيب من حجب الصورة أو قصها أو تجميلها.
هولندا المملكة لم تر في تصرفات حكومة اليمين الصهيونية السابقة والحكومة اليمينية الحالية سوى تجسيد لمبادئ المراوغة والمماطلة والمناورة واللعب على استطالة الزمن وتغيير الواقع المعاش على الأرض، كما أنها تأثرت بحملات الضغط الشعبي للمقاطعة وحملات سحب الاستثمارات الإسرائيلية والتي اتسع ظهورها في شوارعها ومتاجرها بحيث لم يعد هناك انسجام ما بين حالتي التستر على الاحتلال وإمكانية استمراره.
وقد شهدت هولندا خلال الاعوام الماضية تغيرات فعلية في تركيبة حكومتها إثر فوز اليسار في الانتخابات الماضية وتوليه دفة الحكومة الأمر الذي شجع هولندا على إقناع حليفتها التاريخية ألمانيا بضرورة الامتناع عن رفض مشروع قرار الجمعية العامة الأخير القاضي بالاعتراف بدولة فلسطين.
ربما يرى البعض في خطوة هولندا حدثا ثانويا مكملا لتطورات عدة في أوروبا تحديدا للمقاطعات الأكاديمية والنقابية والاقتصادية للاحتلال والتي شهدناها مؤخرا، لكن اهميته تكمن حقيقة في الطبيعة المعنوية للحدث وقدرته على الوصول إلى موضوع غاية في الحساسية كملف التعويضات عن الجرائم النازية وهو ربما يصبح بمثابة الشرخ الذي يحطم جدار الرفض المستديم لدى البعض للاعتراف باستقلال فلسطين والحض عليه.
كبير كان أم صغير هذا الحدث، فإن الأهم وطنيا هو حماية هذا الإنجاز وتطويره ليس من باب التعرض لملف النازية الذي لا علاقة للفلسطينيين به وبجرائمه ضد الإنسانية بل من باب الضغط السياسي والفعلي على الاحتلال لإعطاء الشعب الفلسطيني حقه التاريخي والأخلاقي والسيادي الذي تأخر كثيرا.
وفي جملة تلك المواقف لا بد من المجاهرة بضرورة تعزيز المقاومة الشعبية ورأب الصدع الفلسطيني الداخلي ومقاضاة إسرائيل وإعادة النظر في بروتوكول باريس الاقتصادي على طريق تحقيق المقاطعة الاقتصادية الشاملة، ناهيكم عن ملاحقة إسرائيل أيضا في المؤسسات الدولية على اختلافها ومقاضاة البنوك والجامعات والشركات والمؤسسات الإسرائيلية والدولية التي اخترقت القانون الدولي بعملها داخل المستوطنات وعلى أراضيها المغتصبة. فهل نرى قريبا المزيد من تلك الخطوات؟ وهل تتحول أوروبا باتجاه استحداث صندوق مثيل لتعويض الفلسطينيين على ما ألم بهم من نكبات ونكسات وكوارث بفعل الاحتلال؟ وهل تصبح هولندا عاصمة أوروبا لملاحقة الاسرائيليين والتعويض للفلسطينيين؟ إن غدا لناظره قريب!
s.saidam@gmail.com